الرئيسية / المكتبة الصحفية / #محمود_سامي_البارودي الفارس الذي أضاع فرصة نشأة دولة بارودية

#محمود_سامي_البارودي الفارس الذي أضاع فرصة نشأة دولة بارودية

محمود سامي البارودي هو الفارس العبقري الذي أعاد الشاعرية للشعر العربي، وهذا موضوع حديث طويل سنعرض اليوم الى قبس منه، لكنه في حقيقة الامر زعيم سياسي وعسكري كبير حسن النية أضاع على مصر والعالم الإسلامي والعربي فرصة تكوين دولة بارودية مجددة وهذا هو موضوع مدونتنا اليوم .

 

البارودي 1839 ــ 1904 هو أبرز شخصية وطنية في القرن التاسع عشر بلا منازع فقد جمع ثلاثة أسباب كان يكفيه أي واحد منها لينافس على هذه المكانة، لكن اجتماع هذه الأسباب معاً جعلته يحوز المكانة الأولى بلا منافس، فهو أول مصري يحصل على رئاسة النظار فإذا قيل إنه وصل إلى هذا المنصب بسبب الثورة فإن هذا أدعى لتقدير عظمته واحترامه وبخاصة إذا ما قورن بغيره ممّن فرضهم الفوذ الغربي ممن لا تزيد موهبتهم في جوهرها عن كونهم باشكاتب حسابات يعرف لغة أجنبية من قبيل نوبار باشا أول رئيس وزراء أو بطرس غالي ثاني رئيس وزراء مصري (المناظر له في السن) الذي لم يصل إلى هذا المنصب إلا في 1908 أي بعد ربع قرن من وصول البارودي إليه، أما البارودي فمثقف كبير وليس كاتب حسابات وهو ضابط عظيم منذ بداياته العسكرية وليس ضابطا بالأقدمية ممن ترقّوا من تحت السلاح حسب ما يقول التعبير البيروقراطي.

 

أعتقد أن القارئ يعرف هذا بما فيه الكفاية لكنه لا يعرف (بما فيه الكفاية) أن وضع البارودي بين زملاءه الضباط كان كمثل وضعه بين انداده السياسيين، ذلك أن البارودي مضي في تدرجه العسكري في سلك الضباط متفوقا ومترقيا بثقة منذ البداية، ولم يكن مثل كثيرين من زملاءه قد ارتقى إلى درجة الضابط من درجات المجندين تحت السلاح، ومع أن هذا بالطبع لا يعيب هؤلاء المجتهدين لكنه يُعطينا فكرة عن التفوق الذي أحرزه البارودي منذ بداية عهده بالوظيفة العسكرية أو الحكومية.

لو أن البارودي فهم الصراع الاجتماعي والطبقي والسياسي الذي واكبته الثورة العرابية على حقيقته لاستطاع بموهبته العسكرية وبالإمكاناته المتاحة في متناول يده في ذلك الوقت ان يكون رأس دولة عربية إسلامية جديدة تُسمى بالدولة البارودية

قيمته الشعرية

قبل هذين العاملين أو السببين فإن البارودي شاعر عظيم وشاعر تاريخي مفصلي، فهو ليس شاعراً عظيما متفوقا فحسب وإنما هو الشاعر الأكبر في العصر الحديث، وهو باختصار معبر الذي أعاد الشعر للشعر العربي، فقد كان الشعر العربي قد فقد كثيراً من مُقوماته الآسرة، والأثيرة، والمتحمسة، والمحمسة، والحاكمة، والمحكمة ….. حتى جاء البارودي فأعاد للشعر روحه الدافقة المتدفقة، وما يرتبط بالروح من الحياة الدافقة الدافعة والنافعة.

 

وإذا أردنا أن ندرك الأثر المعنوي الذي أحدثه البارودي في الشعر وبالشعر فإن بوسعنا أن تقارن بين شعره وبين شعر أديب متمكن ذي مكانة عالية في الأدب والشعر والثقافة والنفوذ وهو عبد الله فكري باشا، وهو لحسن حظ تقنية المقارنة قريب من البارودي في السن، كما أنه أصبح وزيراً للمعارف في وزارة البارودي نفسه، ونستطيع مع كل الإقرار بعظمة عبد الله فكري أن ندرك أن عبد الله فكري كان يمثل أقصى ما يمكن للظروف الثقافية والأدبية أن تُحققه وتستخلصه من شاعر موهوب في ذلك العصر أما البارودي فقد جاء فأضاف ما نُسميه أو ما نعرفه على أنه العبقرية التي تتخطى بإنتاج العبقري مقومات عصره وظروفه لتضعه في مكانة متقدمة تفوق كل ما كان ممكنا في أحلام مناظريه وفيما يتعلق بالبارودي فقد هئأ لنفسه واسمه مكانا بارزا متقدما متميزا على ضفاف نهر الشعر العربي المتدفق على مدى عصوره، فإذا علمنا أننا لا تستطيع أن نجد في الأجيال السابقة مباشرة على البارودي من يُمكن اعتباره بمثابة أستاذ ملهم له وأننا لا نستطيع ألا القول بأن أساتذة البارودي الحقيقيين موغلون في البعد الزمني عنه بما يقرب من فترة لا تقل عن سبعة قرون (بل ربما تمتد الى عشرة قرون) فإننا تستطيع أن ندرك القيمة العبقرية فيما حققه محمد سامي البارودي.

قيمته الفكرية

ها نحن انتهينا تقريبا من مقارنة البارودي بالأديب الذي وصل إلى أقصى مكانة أدبية تقليدية وهو عبد الله فكري باشا فماذا عن قيمة البارودي رجل الفكر؟ من المدهش أن البارودي والأفغاني ولدا في نفس العام على أرجح الروايات فإن لم نأخذ بالأرجح فإن الروايات الأخرى لا تجعل الأفغاني أكبر (أو أصغر) من البارودي بأكثر من عام واحد، ولنا الآن أن نقارن بين البارودي والأفغاني من حيث كان كل منهما رجل ثورة وفكر، ونزعة الى تقدم أمته، وسنجد أن البارودي يتفوق على الأفغاني في دينامية حركته وفي انطلاق ثورته وفي خوض تجربته لكن الأفغاني مع هذا ورغم كل ما يقال عنه يحتفظ بالتفوق في طول التجربة وثرائها وتنوعها بل تقلبها وآثارها الباقية في أجيال متعددة من تلاميذه، وفي صياغات ومقاربات نظرية وفكرية لكثير من القضايا الشائكة أو المختلف فيها.

الدولة التي فرط البارودي في إنشائها

لو أن البارودي فهم الصراع الاجتماعي والطبقي والسياسي الذي واكبته الثورة العرابية على حقيقته لاستطاع بموهبته العسكرية وبالإمكاناته المتاحة في متناول يده في ذلك الوقت ان يكون رأس دولة عربية إسلامية جديدة تُسمى بالدولة البارودية سواء حافظت على حدود مصر التي وصل إليها الخديو إسماعيل أو زادت عليها أو فقدت بعضها في أثناء حروب التأسيس، لكن البارودي لم ينتبه إلى الفرصة التي أضاعها، وظل في جهاده محصوراً وحاصرا نفسه بالنظام الذي وجد نفسه فيه، ولم يفكر في أن يكون ثائراً عليه، أو منطلقاً منه إلى أحلام شخصية أو طموحات مرتبطة بجماعة ينتمي اليها أيا ما كانت هذه الجماعة، ومع أن الغرب لم يكن ليُرحب تلقائيا بحركة البارودي التجديدية التي ستبث دماء جديدة في دولة عربية مسلمة شرقية جديدة فإنه لم يكن بقادر على أن يُعادي هذه الدولة إذا ما ثبتت أقدامها فقد واكبت عصر البارودي مرحلة لم تكن أوروبا فيها (لظروف كثيرة) قادرة على الكيد السريع المنظم .

البارودي حصر نفسه كما فعل زميله عرابي في قضايا مغرقة وغارقة في المحلية من قبيل إقرار الدستور والحصول على حقوق الضباط المصريين في الترقيات

وقل مثل هذا في علاقة مصر بالخلافة العثمانية ذلك ان استانبول لم تكن مرتاحة بالطبع من الأداء المتواطئ الذي كان الخديو توفيق يقود به مصر غير محافظ بما فيه الكفاية على الزخم الذي حققه الخديو إسماعيل، من الجدير بالذكر أن السلطان عبد الحميد الثاني كان قد تولى الخلافة في 1876 أي قبل عزل الخديو إسماعيل بثلاث سنوات وهكذا فإن حكام مصر الذين عاصروا السلطان عبد الحميد هم الخديو إسماعيل من 1876 وحتى 1879 والخديو توفيق من 1879 وحتى 1892 والخديو عباس حلمي من 1892 وحتى عزل السلطان عبد الحميد نفسه في 1909، أي أن الأب إسماعيل والابن توفيق والحفيد عباس عاصروا السلطان عبد الحميد (1842 ــ 1918) الذي كان أصغر في السن من الخديو إسماعيل (1830 – 1895). كان البارودي (1839 ــ 1904) هو الآخر أصغر من الخديو إسماعيل وإن كان أكبر بقليل من السلطان عبد الحميد وأكبر بكثير من الخديو توفيق (1852 ــ 1892).

وعيه الاستراتيجي أقل من وعيه الفكري

هل كان البارودي في إنجازه السياسي والمهني (العسكري) اقل من مستواه الثقافي والفكري؟ بكل تأكيد فإنه يبدو كذلك وان لم يكن هذا حقيقيا، والسبب في هذه المفارقة بسيط جداً، وهو أن البارودي في وعيه الاستراتيجي لم يكن موازيا لوعيه الفكري العبقري، فلم يُدرك مبكراً ولا في الوقت المناسب أن فشل الثورة التي يشارك فيها والتي سيرأس وزارتها سيترتب عليه اهتزاز استقلال الوطن بل خضوعه لمصلحة محتل متربص، وسيترتب عليه ضياع آمال إقليمية في نهضة عربية تواكب النهضات التي بدأت بذورها تنتعش موحية بأن ثمارها أيضا قادرة على أن تشتعل ويلمع اشتعالها على نحو لا يقبل الإخفاء ولا الإنكار. وسيترتب عليه على المستوى الشخصي ضياع أماله واحلامه وامجاده على نحو ما حدث .

 

صحيح أن البارودي وقادة الثورة العرابية قد عاصروا عهد الملكة فكتوريا بما مثله من الاستقرار طويل الأجل في بريطانيا إذ حكمت تلك الملكة ما بين 1848 و1900 لكن هذا العصر الفيكتوري نفسه كان ينبئ عن أنه سوف يشهد تطورات كثيرة في المستوى الداخلي وفي مستوى المستعمرات البريطانية. وصحيح أن البارودي شهد استقراراً في مصر على الرغم مما فرض عليها من مشكلات مالية أو تمويلية لكن المدافع عن البارودي لا يستطيع أن ينكر أنه شهد أثر الاجتياح الفرنسي الظالم للجزائر ومحاولات اجتياح تونس والمغرب وليبيا كما أن أصداء ما كان يحدث في الهند وفي غير الهند كانت تصل إليه بالقطع كما أن خطوات الحرب الاهلية المستهدفة لبناء الدولة الأمريكية الجديدة عبر البحار كانت تصله على نحو ما كانت تصله أنباء الهجرة إلى الأمريكيتين.

 

وبكل تأكيد فإن البارودي كان ملما إلى حد كبير بالأوضاع الخاصة التي استطاع شيوخ قبائل عربية في جزيرة العرب أن يحصلوا بها على علاقات خاصة مع الإمبراطورية البريطانية في مقابل تأمينهم لممارسة هوايات بريطانية أو نزوات بريطانية من قبيل الحصول على اللؤلؤ للتزين به أو للتجارة فيه بعد تشكيله تشكيلاً بسيطاً مما كان ذلك العصر يستطيعه.

 

أهمل البارودي استيعاب هذا كله واستكناهه، أو فلنقل إن البارودي تجاهل ما كان واجبا عليه من فهم هذا كله وحصر نفسه كما فعل زميله عرابي في قضايا مغرقة وغارقة في المحلية من قبيل إقرار الدستور (مع أهمية إقرار الدستور) والحصول على حقوق الضباط المصريين في الترقيات (بالموازاة لظلم الشراكسة الذين كانوا يصنعون عصبة لا تناظر بالنسبة للكيان الأكبر أكثر من عصبة أبناء المنوفية على سبيل المثال الآن) وهكذا ضاعت من مصر ومن البارودي فرصة نشأة الدولة البارودية، وبدلا من هذا فقد نفي رئيس الوزراء صاحب الدولة محمود سامي البارودي وعانى النفي والسجن والمرض وفقدان البصر حتى عاد إلى مصر قبيل وفاته بعد أكثر من عشرين عاماً عاشها مظلوماً مطارداً منفياً مغضوبا عليه في جزيرة سيلان التي تعرف الآن باسم سريلانكا.

 

 

 

 

 

 

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com