من الطرائف التي يحب اليساريون المصريون أن يرددوها أنهم في الفترة التي سبقت ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كانوا يهتفون هتافات موحية تحمل قدرا من التورية، وكان أهم هذه الهتافات هتافهم بسقوط رئيس الديوان الملكي حافظ باشا عفيفي باعتباره رمزا من رموز الرأسمالية فقد كان العضو المنتدب لبنك مصر (ومع ان بنك مصر كان مملوكا للمصريين فإن هتافات الشارع لا تفكر إلا بما يتناسب مع الشارع لا مع العقل) .
أما وجه الطرافة فهي أن الهتاف كان يقول : يسقط حافظ عفيفي وبعد هنيهة .. ترد الجموع : يسقط حافظ حافظ عفيفي [أي الملك نفسه] ، وذلك احتراما من اليسار للقانون الذي يجرم العيب في الذات الملكية.
لكن وجه الطرافة هنا هو أن صلاح الشاهد كبير الأمناء في عهد الرئيسين عبد الناصر والسادات يقدم رواية حضرها بنفسه في ديوان الملك فاروق يستنتج منها أن حافظ عفيفي كان يخرب الجهود الساعية لإنقاذ الملك من الانقلاب عليه..
وقد شارك صلاح الشاهد نفسه في هذه الجهود باعتبارين أولهما: قرابته لحماة الملك فاروق أصيلة هانم والدة المكة ناريمان، وثانيهما عمله كأمين في رئاسة الوزراء مع نجيب الهلالي رئيس الوزراء المكلف في ذلك اليوم بتشكيل وزارته الثانية التي حلفت اليمين في ٢٢ يوليو ١٩٥٢ وسنقرأ رواية الشاهد وهي سلسلة في تفصيلاتها كما أنها قريبة من الواقع والصدقية إلى حد كبير.
يقول صلاح الشاهد إنه على إثر استقالة المرحوم حسين سري باشا (20 يوليو) اتصلت السيدة أصيلة هانم والدة الملكة ناريمان وأبلغته أن الملك سيكلف الهلالي باشا بتشكيل الوزارة وسيكون ذلك تكذيبا قاطعا لإشاعة المليون جنيه إياها:
“فأخبرت السيدة بأن للهلالي باشا شروطا لقبول الوزارة والخروج من صومعته التي لزمها بعد استقالته هي تطهير الحاشية وإبعاد لفيف من المفسدين وعلى رأسهم: إلياس أندراوس، وكريم ثابت، ومحمد حسن، وبوللي، وحلمي حسين ..
فقالت : إن الملك قبل هذه الشروط. وبالفعل اتصلت بالهلالي باشا فلم أجده بمنزله ولكني علمت أنه سيناول طعام الغداء على مائدة فريد زعلوك بمنزله بسان استيفانو، واتصلت به تليفونيا وطلب مني الحضور فورا فذهبت ووجدت الهلالي باشا والأستاذين مصطفى وعلي أمين والأستاذ محمد حسنين هيكل وتناولنا معا طعام الغداء..
وأخبرت الهلالي باشا بما دار بيني وبين أصيلة هانم وطلب مني إحضار قائمة الوزراء الذين كانوا تحت رئاسته في وزارته الأولى”.
“ثم ذهبنا معا إلى منزله بالمندرة وكان برفقته نفس الجماعة السابقة، وقد قرأ الهلالي باشا أسماء الوزراء وأيد تعاون بعضهم معه في الوزارة المقبلة فيما عدا محمود غزالي باشا الذي كان وزيرا للزراعة في وزارته الأولى وطلب مني البحث عن وزير للزراعة” .
قصة تعيين إسماعيل شيرين وزيرا للحربية
“في أثناء محاولة الهلالي باشا تشكيل الوزارة … دخل علينا الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ وهنأ دولة الهلالي باشا بإسناده الوزارة إليه. ثم طفق يتباحث معه في المرشحين لدخول الوزارة فأخبره بأسماء المرشحين الجدد وهم: حسن كامل الشيشيني باشا، والمهندس يوسف سعد، والأستاذ مريت غالي بك، والدكتور سيد شكري بك.
وهنا سأله عفيفي باشا عن الرأي في القائم مقام إسماعيل شيرين بك زوج الأميرة فوزية فأثنى عليه الهلالي باشا ثناء كبيرا وأشاد بأخلاقه وأنه من بيت طيب. وكان الهلالي باشا ينتوي أن يسند إلى مرتضى المراغي وزارة الحربية (الشاهد يقصد أن الهلالي باشا سيسندها له بالإضافة إلى الوزارة الأهم والأولى وهي وزارة الداخلية)
كما فعل في وزارة أول مارس سنة 1952. وطلب مني كتابة أسماء المرشحين الذين وقع عليهم الاختيار لإصدار المرسوم الملكي بتعينهم وزراء، وبالفعل أعد المرسوم من الإدارة العربية لرفعه إلى القصر ، وأرسل فعلا..
وعاد عفيفي باشا بالمرسوم دون توقيعه من الملك وسأل الهلالي باشا عن سبب عدم إدراج اسم إسماعيل شيرين ضمن الوزراء وزيرا للحربية برغم أن الملك موافق على تعيينه فبدت الدهشة على وجه الهلالي باشا وقال: مين قال إني أريده وزير حربية. فقال حافظ باشا لقد أخذت رأيك وأنت مدحته” .
“فرد الهلالي باشا: لقد سألتني عن شخص معين دون الوظيفة يعني لو سألتني عن صلاح الشاهد وقلت كويس يبقى وزير يا حافظ باشا.. وزير الداخلية مرتضى باشا هو وزير الحربية.
“فقال حافظ باشا: لقد فهمت خطأ ورفعت إلى الملك موافقتكم على تعيينه وزيرا والحل الوحيد هو أن أقدم استقالتي من رئاستي للديوان حلا لهذه الأزمة.
وهنا حاول كل الموجودين بصالون الهلالي إقناعه كي تمر الأزمة خاصة وأن الملك أجاب كل مطالب الهلالي باشا من تطهير وإبعاد لرجال الحاشية. ورضي الهلالي باشا دون أن يقتنع.. ودخل القائم مقام إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية.
“وهنا تتحقق نبوءة مصطفى النحاس باشا الذي قال عندما تولى عفيفي باشا رئاسة الديوان الملكي أواخر سنة 1951 إن عفيفي باشا رجل الولايات المتحدة الأمريكية المرتقب، ويبدو أن حافظ عفيفي باشا أراد بإدخال إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية إثارة الخواطر وتهييج المشاعر على الملك تعجيلا بثورة الجيش.
موقف إسماعيل شيرين
“وعين القائم مقام إسماعيل شيرين بك وزيرا للحربية بناء على طلب الدكتور حافظ عفيفي باشا. ولكن إسماعيل شيرين رفض أن يحلف اليمين وحاول أن يقبل يد الملك والدموع في عينيه: يا مولاي أنا خادم العرش.. والعرش في خطر.. ولن ينقذ العرش سوى شخص واحد هو مصطفى النحاس.
وأجفل الملك ولكن إسماعيل شيرين استمر يقول: يا مولاي نحن أمام بوادر انقلاب في الجيش وسوف يطيح بالعرش وأنا مخلص لجلالتكم وأطالبكم بإنقاذ العرش المفدى .
“كان إسماعيل شيرين صادقا في لهجته عندما أردف يقول: أرجو أن تعطيني الفرصة لإثبات ولائي لجلالتكم. ورد الملك : وكيف ذلك؟ أرجو أن تكلفني بأن أذهب على ظهر طائرة خاصة لإحضار مصطفى النحاس باشا من أوربا في ساعات وأنا كفيل بأن الشعب عندما يرى زعيمه بين صفوفه سوف يهتف للعرش وجلالتكم. وابتسم الملك” .
“يا مولاي إنها فرصة أرجو أن تغتنمها. وكان الملك مترددا وكان يخشى سطوة النحاس باشا بين جماهير الشعب وقبل الملك في النهاية واستعد إسماعيل شيرين للسفير في آخر الأمر.
ولكن الداهية حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي وقتئذ تدخل لدى الملك لمنع إسماعيل شيرين من تنفيذ اقتراحه وقال ساخرا : إن إسماعيل شيرين قليل التجربة في الحياة السياسية إنه شاب لم ينضج بعد ، ولو دعى النحاس باشا لمثل هذا الأمر لشارك بنفسه في خلع الملك”
“وقامت الثورة التي انتهت بخلع الملك بعد ثلاثة أيام . وكأن إسماعيل شيرين كان يقرأ في كتاب مفتوح”.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا