مارس الشيخ يوسف الدجوي 1870-1946 شيخ المالكية مهمة الإفتاء الفقهي في عصره شأنه في ذلك شأن علماء الأزهر الذين ألقى المجتمع على عاتقهم بمسئوليات الافتاء والتحكيم والقضاء، وعرف هذا العلم الجليل الذي كان بمثابة الامام الغزالي في العصر الحديث، بالاجتهاد في الفتوى فيما لم يسبق فيه قول من الأمور المستجدة بحكم الزمن، وكان من الطبيعي أن يستند فيما يفتي به إلى أقوال العلماء السابقين عليه ممن حفظ التراث الفقهي آراءهم واجتهاداتهم، لكنه في زمنه واجه طلائع مدرسة جديدة تمكنت من السلطة في بعض البلاد العربية وبدأت في الترويج لفكرة الاستغناء عن الفقه تحت دعوى أولوية الاستناد إلى الحديث، ومع أن كثيرين من علماء الأزهر أنفسهم لم ينتبهوا إلى خطورة ما تقود إليه هذه المدرسة من التجني على الإسلام نفسه فإن الشيخ الدجوي كان منتبها منذ البداية إلى الحقيقة وإلى دوره هو نفسه في إحقاق الحق والإرشاد إليه، وقد كان الشيخ مؤهلا تماما للدور الذي أداه على أفضل وجه، ذلك أنه كان فقيها، وكان مجتهدا، وكان باختصار شديد وعلى عادتنا في تركيز الوصف: موسوعيا وموضوعيا في الوقت ذاته.
وصفه لفتاويه بأنها اجتهاد وليست الحق الأوحد
لم يكن الشيخ يوسف الدجوي من ذوي التعصب لرأيه بل كان يُقدِّم لفتاويه بأنها محض اجتهاد وأن رأيه ليس الأوحد الذي لا محيدَ عنه، وقد أُثر عنه قوله إنه حين يُسأل عن حكمٍ فقهي يذكر ما يُرجحه من آراء العلماء في هذا الحكم، وليس معنى ذلك أنه لا خلافَ فيه بل معناه أن المختار هو ما يتجه إليه، وقلما نجد مسألةً مما يُسأل عنه لا خلافَ فيها.
رأيه في شروط الاجتهاد
كان الشيخ يوسف الدجوي يقول بوضوح إن أول شروط الاجتهاد عنده هو ” نور البصيرة، وصفاء الذوق، وقوة الإخلاص وشدة المراقبة، واتهام النفس الباعث على شدة التحري ومزيد الاحتياط، ولا يكفي في ذلك سعة العلم ولا كثرة الاطلاع”، وكان الشيخ يوسف الدجوي يؤكد هذا المعنى في مواجهة مدرسة جديدة ويقول: ” وكم قد رأينا من كبار الحفاظ من هو أكثر حديثا من بعض المجتهدين، ولكن لم يسمح له دينه أن يدعي الاجتهاد، علما منه بأنه لم يخلق له ولا وجد فيه استعداده الذي يعرف به روح الشريعة في كل شيء وذوقها في أحكامها ومراميها، وقد قالوا: إن المحدث كالصيدلي والمجتهد كالطبيب”
نقده لما هو منسوب للإمام لشوكاني في تشبيه أصحاب المذاهب بالأحبار والرهبان
كان الشيخ الدجوي حادا جدا في هذا النقد، لكنه كان محقا فيه، وقد قام بفرض الكفاية عن أهل العلم فيما قام به من هذا الرد الواضح الساطع: ” ………ثم انظر بعد ذلك كله إلى كلام الشوكاني الذي ذكره السائل وإلى فهمه الكاسد وقياسه الفاسد، وهو من كبار هؤلاء أيضا. فإن الأحبار والرهبان كانوا يحللون ويحرمون من عند أنفسهم قائلين: ما حللناه في الأرض فهو محلول في السماء وما ربطناه في الأرض فهو مربوط في السماء، كما هو معروف عنهم ومسطر في كتبهم المقدسة، فضلا عن تاريخ الكنيسة أو التاريخ العام”.
واصل الشيخ يوسف الدجوي دفاعه عن التراث الفقهي منبها إلى خطورة من سموا بمدرسة الحديث ممن انساقوا إلى إنكار فكرة القياس كأصل من أصول التشريع
“وأما أئمة المسلمين فلم يدعوا لأنفسهم ذلك المنصب الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله، وحاشاهم أن يقولوا ذلك أو يصدروا عن غير قول المعصوم وسنته التي هم أعرف الناس بها وأحرصهم عليها. وقد صرحوا بذلك فقالوا: إذا خالفنا الحديث الصحيح فاضربوا بقولنا عرض الحائط، فكيف يحل له بعد ذلك أن يقول: إنكم اتبعتم آراءهم ولم تتبعوا الكتاب والسنة، وكل إنسان يعلم أنهم لم يقولوا من عند أنفسهم، وإنما يقولون: هذا قول رسول الله وذاك فعله وتلك سنته، وهم أعرف الناس بذلك وأقدرهم على تعرف ما جاء فيه. وقد وثق الناس بهم فلم يتهموهم في دينهم ولا علمهم ولا أمانتهم بعدما عرفوا أنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحاشاهم أن يشرعوا من عند أنفسهم وهم خير القرون، فإن لم يجدوا شيئا في كتاب الله ولا سنة رسوله، اجتهدوا ما استطاعوا، وهم أعرف بروح الشريعة ومقاصدها ومناط أحكامها، ولو لم يفعلوا ما فعلوا لكانت الشريعة الآن لعبة بيد الجهال كما رأيت فيما تلوناه عليك” .
” وبالجملة فهؤلاء الأئمة قد نظروا في الشريعة نظر العالم المدقق والأمين الحذر، فما وجدوه مجمعا عليه عضّوا عليه بالنواجذ، وما كان فيه اختلاف أخذوا منه الأقوى والأرجح، لكثرة من ذهب إليه أو لموافقته لقياس قوي، أو تخريج صحيح من الكتاب والسنة. وقد كان هذا ميسرا للطراز الأول من المجتهدين حين كان العهد قريبا والعلوم غير متشعبة ومذاهب الصحابة والتابعين معروفة، على أنه لم ينتشر ذلك أيضا إلا لنفوس قليلة، ومع ذلك فقد كانوا مقتدين بمشايخهم معتمدين عليهم، ولكن لكثرة تصرفهم في العلم صاروا مستقلين”.
” وكيف يقيس عاقل هؤلاء الأئمة على أولئك الرهبان الذين لم يدعوا لأنفسهم منصب النبوة فحسب، بل تخطوا ذلك إلى منصب الإلهية، فإن النبي يقول من عند نفسه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) ولذلك قالت الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) كما المسيح ابن مريم، فسوت بينهما وقالت في آخرها (سبحانه وتعالى عما يشركون). ” فهل ترانا أشركنا الأئمة بالله تعالى، أم ذلك كلام من يرسل لقلمه العنان بما يوجب سخط الله والملائكة والناس أجمعين ؟.
تبيانه للآثار الخطرة لفكرة إنكار القياس كأصل للتشريع
وقد واصل الشيخ يوسف الدجوي دفاعه عن التراث الفقهي منبها إلى خطورة من سموا بمدرسة الحديث ممن انساقوا إلى إنكار فكرة القياس كأصل من أصول التشريع، وفي هذا يقول الشيخ يوسف الدجوي في وضوح وحسم: “وقد استتبع ذلك ما لا يحصى من المفاسد التي يرتكبها هؤلاء الجهلة ويتشدق بها أغمار من ينتسبون إلى العلم من زعانف القوم وأراذلهم، وقد جرّ ذلك إلى استباحة الأعراض، بل الأموال والدماء، فهي من السيئات الباقيات التي عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. فإن تشبثوا بالقياس والاستنباط، قلنا: ذلك لا بد منه على رغم أنوفهم بمقتضى الدلائل العقلية، حتى قال بعضهم: إن من لا يقول بالقياس لا يعد من العلماء ولا يعتبر من أهل الإجماع.
“وإجمال القول أنهم إذا قالوا: إن كل إنسان يأخذ من الكتاب والسنة ولو لم يعرف الفاعل من المفعول، فضلا عن دلالة الإيماء والاقتضاء ، ومسالك العلة وقوادحها، ومعرفة المنطوق والمفهوم، وما فيه من جدل وكبير عمل، ومعرفة ما صح وما يعمل به في فضائل الأعمال، وما يحتج به في الحلال والحرام، وما قيل في المرسل والمسند، إلى غير ذلك، فضلا عما قيل في الرجال من تعديل وجرح، وهو بحر لا ساحل له، وما عسى أن يكون في الحديث من علة خفية، مع معرفة تاريخ الأحاديث ليتميز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة المرجحات عند التعارض ومواقع الاختلاف والاتفاق، حتى لا يخرقوا الإجماع ..الخ.
“نقول: إذا أباحوا للناس أن يأخذوا من الكتاب والسنة مع الجهل بذلك كله، فقد عرضوا الدين للضياع والشريعة للهزء والسخرية، وكان ذلك منهم جنونا أو فوق الجنون، وإن قالوا إنه يقل العالم في ذلك كله فقد هدموا ما بنوا وقوضوا ما شيدوا فأين يذهبون. وهل هذا إلا رجوع للتقليد الذي منعوه وتفسير للماء بعد الجهد بالماء”. ” وبعد فإني أعجب كيف يكلفون أرباب الحرف والصناع وعامة السوقة المشتغلين بمعاشهم وعيالهم أن يأخذوا من الكتاب والسنة، وليس ذلك في وسعهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؟. ” ولا أراني محتاجا بعد ذلك للإضافة في الدلائل النقلية والكلام عليها، فإن الأمر أوضح من الشمس وأبين من الحس، ولولا ظهور تلك الطائفة التي اقتدت بأسلافها من الخوارج الذين هم أسرع إلى تكفير المسلمين واستباحة دمائهم من الفَراش إلى النار، لما تحرك به قلم ولا تفكر فيه أحد.