من الأمور الجوهرية في بناء الحضارة أن يكون المهنيون واعين لحدود مهنتهم ، والمثل الواضح على هذا هو التنبيه والالتزام بحقيقة مهمة تتمثل في قول القاضي عن نفسه في ممارسته للقضاء إنه قاض وليس مشرعاً ، وإن واجبه يتمثل في أن يكون ملتزما بتطبيق النص القانوني الذي يعمل من خلاله ، ذلك أن مهمته هي تطبيق القانون وليس وضع القانون أو تشريعه.
نقفز بسرعة إلى العلاقة بين الطب والعلم لنكرر القول بأن الطب ليس علما مطلقاً كما هو الحال في الفيزيقا والكيمياء وإنما هو فن يمارسه رجل متمرّس بالعلم بعد أن درسه وحقّق فيه مستويات علمية ومعرفية تؤكدها الشهادات التي نالها و الاختبارات التي اجتازها ، لكن هذا الرجل من رجال العلم الذي يمارس الطب لا يكتفي بالعلم وانما هو بحاجة إلى ما يحتاجه الفنان من بعض قلب الفنان أوعقله أو يده أوخياله أوذائقته وذاكرته !! ربما ألجأ الآن إلى السؤال التقليدي الذي يمثل الباب الأول في كتاب أو كتالوج ممارسة كل مهنة ، وهو السؤال : هل التدريس علم أم فن؟ هل المحاماة علم أم فن ؟ هل الطب علم أم فن؟ هل النقد علم أم فن؟ وهنا فإنني بحكم ما ذكرته في عنوان المدونة وبحكم ما هو مطلوب مني أمام الرأي العام في كثير من المواقف أحاول أن أجيب عن السؤال فيما يتعلق بمهنتين أو مهمتين وهما الطب والنقد ، ولعل الإجابة تكون أكثرإقناعا و إيقاعاً حين نجيب عن السؤال القائل : هل يجوز أو يمكن ممارسة الطب بدون فن حتى في أرفع المعاهد العلمية؟ وفي أكثر البلاد علاقة بالتقدم العلمي مثل اليابان وألمانيا وأمريكا ؟
الطب ليس علما مطلقاً كما هو الحال في الفيزياء والكيمياء وإنما هو فن يمارسه رجل متمرّس بالعلم،و الذي يمارس الطب لا يكتفي بالعلم وانما هو بحاجة إلى ما يحتاجه الفنان من بعض قلب الفنان أوعقله أو يده أوخياله أوذائقته وذاكرته !!
والإجابة بكل وضوح تتمثل شاهدة علينا وعلى الحقيقة في استمرار بقاء ما يُسمى بالامتحانات الاكلينيكية حتى الآن وهي الامتحانات العملية التي يؤديها طالب الطب في الدراسات العليا (الدبلوم والماجستير والدكتوراه والرسالة) وما قبلها (في مرحلة البكالوريوس) على المريض نفسه وعلى أسرة المستشفيات! أو باستخدام التعبير الإذاعي القديم حول الاسرة البيضاء!
نعود ونعكس السؤال ليكون : هل أمكن ممارسة الطب كفن بدون علم؟ في العصور السابقة مثلا ؟ والحقيقة التاريخية تقول إن هذا لم يحدث ، ولم يكن ممكن الحدوث حتى لو أن العلم اتخذ صورة توظيف حصاد الخبرة أو التجريب أو النقل عن الأجيال السابقة..
ذلك أن العلم ظل موجوداً في إطار التأهيل للممارسة الطبية التي لم يكن من الممكن أن يسمح بها من دون إجازة علمية مهما اختلفت صيغتها سواء كانت الإجازة شفاهية، أو بامتحان أو بتوصية أو بصحبة ، أو بتموضع الممارس في مكان الممارسة المقننة.. الخ.
ونأتي إلى السؤال الثاني: كم تبلغ نسبة العلم وما هي نسبة الفن في ممارسة الطب ؟ والإجابة تعتمد على الحالة وتختلف باختلافها حتى إنه يمكن لك أن تقول إن النسبة تتراوح بين الميل إلى اليمين بنسبة 90% والبعد عنه بنسبة 90% أيضاً.
بعد هذه الصورة الواضحة لما يعتقده طبيب قديم مثلي والتي يزيد من وضوحها أننا جميعا مررنا بتجارب متنوعة في التعامل مع المرض ومع الطب فإننا نحاول أن ننتقل إلى الأهم بالنسبة إلى القارئ وهو النقد سواء ذلك النقد الأدبي أو النقد الفني (وهما بالمناسبة شيء واحد لمن يؤمنون بوحدة المعرفة).
والسؤال الطبيعي بعد هذا التشبع بخبرة البشرية في الطب ، ما هو قولك في النقاد الذين يقتصرون في أدائهم النقدي على تطبيق المذاهب النقدية سواء أكانت قديمة أو جديدة؟ أو ما هو رأيك مثلا في الذين يفككون النص ليطبقوا عليه النظرية التفكيكية ؟
أين الفن في هذا؟ أليست النظرية التفكيكية نظرية ذات نصوص واضحة وذات قواعد واضحة.. ماذا بقي للفن إذن؟
و الإجابة ببساطة شديدة هي أن من يطبق النظرية التفكيكية (وقبلها البنيوية وغيرها ) يحتاج إلى خبرة فنية عالية كي يمارس عملية التفكيك (التي تبدو وكأنها علم) لأنها ليست بالعملية السهلة على من لم يمارس الفن ويتشبع به..
وهنا أنقلك بسرعة وتعسف من تطبيق نظرية من قبيل التفكيكية على أي نص أدبي إلى تطبيقها على أي منتج هندسي مكون من أجزاء متراكبة مع بعضها..
وأظنك الآن قد بدأت تدرك حلاوة روح هذه النظرية النقدية الفلسفية على الرغم من صعوبة نصوصها وعلى الرغم من الإدعاء المبالغ في من يطبقونها من أساتذة النقد الحديث!
تقوم فلسفة جاك دريدا ١٩٣٠- ٢٠٠٤ -على فكرة جوهرية تقول بأن الكتابة ليست مجرد أداة لتسجيل تصورات اللغة، وإلا كانت مجرد تكريس لأنماط فكرية وشعورية سابقة.
وإنما هي أثر مستقل بذاته يدعو إلى تأمل الحاضر والمصدر والموت والحياة والبقاء، وبذلك تخرج عملية الكتابة عن إطار المؤسسات التي تكرسها الرؤي الفلسفية التقليدية.
وعلى هذا النحو تصبح عملية الكتابة، التي هي محور الثورة الحداثية، مجالا تتفكك فيه كل نقاط ومراكز التجمع التي شكلتها الهويات المألوفة، سواء حول المؤسسات أو حول الذات نفسها، ومن ثم يعد تحرر الكتابة ، بمثابة الخطوة التي تولد الدلالات عن طريق التمايز، وعن طريق الإرجاء، طالما كانت الكتابة بمثابة دعوة متجددة و أبدية التجدد لقراءة لم تتم بعد.
وهكذا فإن بناء جاك دريدا النقدي يعتمد علي الكشف عن اقتصاد النص المكتوب والقضاء على ما قد يسمى باللاهوت المعرفي، أي أن هذا النقد يستهدف الإبانة عما يسيطر عليه الكاتب وما لا يسيطر عليه من نماذج اللغة التي يستخدمها وهدفه من ذلك هو تفكيك الميتافيزيقا وتدمير المسلمات التي ينطلق منها فكر فيلسوف مثل هيجل الذي يوصف بأنه يعيش في اللغة .
وعلى سبيل المثال فإن جاك دريدا في تفكيكه لفكر روسو حرص على أن يبين الفارق بين ما كان يعلنه روسو وبين ما كان يصنعه، وذلك لإثبات نظريته في أن الدعاوى الصريحة التي كان روسو يجهر بها تنفضها نفس الظواهر التي يصفها وإن كان ذلك على نحو لم يدركه روسو نفسه.
إن من يطبق النظرية التفكيكية وقبلها البنيوية وغيرها يحتاج إلى خبرة فنية عالية كي يمارس عملية التفكيك (التي تبدو وكأنها علم) لأنها ليست بالعملية السهلة على من لم يمارس الفن ويتشبع به
هل تستطيع أن تقول إن إنجاز مثل هذا النقد التفكيكي بدون ممارسة لفن التفكيك نفسه يمكن أن يصبح نقدا؟ ولا شك أن ما تقتضيه هذه الممارسة من استخدام أدوات متعددة و متنوعة من أجل إتمام عملية تفكيك شبيهة بما يصنعه المهندس المصمم في تفكيكه للإجزاء المركبة، التي لا يمكن تفكيكها إلا بمهارة وخبرة هما من أخص خصائص الفن ، أم أنك لا تزال تعتقد أن بإمكان النقد النصوصي الممارس و المقنن في الورشة النقدية أن يصبح نقدا من خلال استمارة كاستمارات البيانات الاستقائية فحسب ؟
وأنه ليس في حاجة لا إلى الفهم ولا إلى الذائقة ولا إلى أي حاسة من الحواس ولا إلى أي حادسة من الحادسات التي اكتشفها و وصفها أخيرا استاذنا أبو يعرب المرزوقي ؟
سأمضي معك في هذا الطريق لكني سأسألك في وسط الطريق إلى أين نحن ذاهبون؟ وستجد نفسك في تلك اللحظة تلجأ إلى حواسك لتحدد التوجه وتلجأ إلى حواسك لتوجه الرأي وتلجأ إلى تعبيرك لتحدد الحكم القيمي وكأنك في كل هذا الذي تفعله من أجل النقد المنهجي لا تمارس شيئا إلا الفن نفسه بينما أنت تؤدي أيضا وظيفة علمية مكتملة الأركان .
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا