الشيخ أحمد الحملاوي (1856 – 1932) واحد من عباقرة جيله الذين لمعوا في آخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وهو لغوي متمكن، وتربوي مرموق، ومفكر وطني، وعالم بالشريعة والأدب وهو قبل ذلك كله خطيب مفوه، وشاعر موهوب غزير الإنتاج لكن شهرته الطاغية تبلورت بفضل كتابيه ذائعي الصيت «شذا العرف في فن الصرف» و«زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع».. وهما الكتابان اللذان لا يزالان بمثابة المرجع الأول في ميدانيهما، وفيما قبل هذا فقد كان هذا العالم الجليل أوّل من جمع بين شهادتين عظيمتي القدر: إجازة دار العلوم ثم عالمية الأزهر الشريف بعدها بعقد من الزمان، وعلى نحو ما اختارته دار العلوم للتدريس بها عقب تخرجه فإن إدارة الأزهر سرعان ما اختارته أيضا عقب حصوله على العالمية لتدريس التاريخ والخطابة والرياضيات لطلابها. وأسندت إليه بالإضافة إلى أستاذيته في الأزهر نظارة مدرسة عثمان باشا ماهر، وهي مدرسة نموذجية ذات طبيعة خاصة كانت مع المدرسة الناصرية بمثابة أهم مدرستين وطنيتين، وكانت لناظرها مكانة فكرية واجتماعية وبروتوكولية متقدمة وقد قضى الشيخ أحمد الحملاوي في نظارة هذه المدرسة ربع قرن حفظت له مكانته بين كبار التربويين المصريين. قدرته الباهرة كمؤلف
ومن الإنصاف أن نبدأ حديثنا عن هذا الأستاذ الجليل بالإشادة بمنهجه في التأليف، وهي بداية متشبعة بالعاطفة المعبرة عن الامتنان، ولا أظنني أنا وحدي الذي يشعر بالامتنان العميق للأستاذ الشيخ أحمد الحملاوي على ما أتاحه لنا من علم منظم مرتب مبوب مفهرس مدقق مُنتقى في كتابيه العظيمين «شذا العرف في فن الصرف» و«زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع».. فبفضل هذين العملين العظيمين اللذين طبعا عشرات المرات أصبحت علوم البلاغة والصرف في ذاكرتنا وعلى مكاتبنا وفي مكتباتنا بعبارة دقيقة موجزة حافلة بالمعاني والإيحاءات والفهم، قادرة على الفصل والإبانة دون الدخول في دوائر التعقيب والتفريع والتعليق والاستطراد والاستثناء والتحشية والتقرير.
وفي هذين الكتابين تتبدى قدرة اللغة العربية نفسها على الإبانة وعلى التأليف العلمي المدرسي المعياري المقنن الواضح، الذي لا يحتمل الخطأ ولا اللبس ولا تعدد التفسيرات ولا الخلط في المدلولات، وقد وصلت علوم اللغة العربية العلمية هذه على يد الشيخ الحملاوي إلى هذا المستوى بفضل ممارساته الدؤوبة المستهدفة لتقريب قواعد العلم لطلابه بكل ما تتيحه الممارسة الدؤوبة من التكرار والتجويد وإعادة التجويد وبفضل عمله على تقريب المعنى بالصورة الواضحة ثم بأفضل صورة أو أقدر صورة على تجسيد المعنى بكل وضوح وتميز، وفضلًا عن هذا، فقد تميز منهج الأستاذ الحملاوي في التأليف بوضوح الفكرة إلى حد رياضي مذهل، بحيث تبدو القواعد التي يعرضها ويستعرضها وكأنها قواعد مطلقة فولاذية غير قابلة للنقد أو التحوير أو إعادة الصياغة أو الاستثناء، وإنما هي قواعد صارمة واضحة التفسير غير محتملة للتأويل.
أما التبويب الذي أخذ به الشيخ الحملاوي في عرض العلوم اللغوية في كتبه، فقد قام على أساس تقليدي غير مخالف لأصول العلم على نحو ما عرّفها الأقدمون، لكنه في الوقت ذاته كان حفيًا بإظهار الفرعيات على نحو يكفل هيكلة العلم هيكلة هرمية متراتبة فلا تتوالى المسائل العلمية بلا رابط يجمعها، بل هي تتوالى كالعنقود الذي تتفرع فروعه من بعضها البعض بوضوح تام، وإذا كان الأستاذ حفني ناصف قد ألف في علوم اللغة العربية الكتب الأكثر تداولًا في جيله في التعليم العام والخاص على حد سواء، فإن الأستاذ الحملاوي قد مكنّ لنفسه من علوم الصرف وعلوم البلاغة على نحو جعل اسمه كمؤلف يصل إلى مكانة لم تصلها أسماء المؤلفين المتعاقبين لمناهج تاريخ الأدب العربي أو مناهج النحو العربي التقليدية، ومع أن الشيخ الحملاوي يعرف الآن ويذكر على أنه أحد رواد علوم اللغة في القرن التاسع عشر، فإن شهرته الأكثر ترددا واستدعاءً، والتي تأتي بمجرد ذكر اسمه لاتزال ترتكز على أنه مؤلف كتاب علم الصرف الشهير «شذا العرف في فن الصرف».. وكتاب «زهر الربيع»، والكتابان بلا جدال من أساسيات كل مكتبة تعنى بالدراسات العربية.
وقد ظل جهد الشيخ أحمد الحملاوي يتمتع بالمرجعية وأعلى أرقام المبيعات (على حسب ما يقول خبراء الكتب ونشرها) على مدى أجيال تعاقبت فيها أسماء أجيال من مؤلفي الكتب المدرسية المواكبة لمؤلفاته، فقد عاصر كتب حفني ناصف ثم كتب أحمد العوامري وأحمد الاسكندري على الجارم وطه حسين ومصطفى أمين ثم كتب الأساتذة محمد مهدي علام، وعلي النجدي ناصف ومحمد خلف الله، وأحمد الحوفي، ومحمد أحمد برانق ثم كتب الأساتذة يوسف الحمادي، ومحمد شفيق عطا، وبقي كتاباه الشهيران في كل هذه الفترات دليلًا على التأليف المتميز القادر على الخلود. ومما يجدر ذكره أن كتابه شذا الصرف بدأت طباعته في 1894(أي أن عمره 12٦ عامًا)، وأن كتابه زهر الربيع بدأت طباعته في 1909.
آية من آيات التفوق
أما الأستاذ أحمد الحملاوي نفسه فقد كان في حياته العلمية والمدرسية آية من آيات التفوق، كان قد بدأ حياته معلمًا ثم انصرف إلى العمل بالمحاماة والقضاء الشرعي، ثم حصل على الشهادة العالمية، ثم عاد إلى ميدان التربية من خلال موقع من أهم مواقع التأثير في تربية الأجيال وهو عمادته لمدرسة عثمان ماهر، تلك المدرسة النموذجية الشهيرة، التي تولاها ربع قرن من الزمان، محققًا فيها من الصيت والمجد ما وازى به مجد أمين سامي باشا ناظر المدرسة الناصرية المعاصر له. وفي هاتين المدرستين تعلم كل رواد الأجيال الذين سطع نجمهم في مصر طيلة نصف قرن من الزمان.
شاعريته
كان الشيخ أحمد الحملاوي شاعرًا متميز الطابع، وقد صرف اهتماماته وقريحته في المقام الأول إلى المديح النبوي، كما ترك آثارًا شعرية في موضوعات تقليدية كثيرة، كان أهمها أن ينظم القصيد في افتتاح مولد الإمام الشافعي وختامه في كل عام.. وقد أضاف لقصائده عن الإمام الشافعي قصيدة جميلة عن الشيخ الدردير عالم المالكية الشهير صاحب شرح الدردير على متن الإمام خليل، الذي هو أشهر متون الفقه على المذهب المالكي. طبع الجزء الأول من ديوان شعر الشيخ أحمد الحملاوي في أول يونيه سنة 1957، بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة.
رزق الشيخ أحمد الحملاوي تلميذا وفيا نابغا هو الأستاذ مصطفى السقا أستاذ الأدب العربي المعروف الذي كتب سيرته على نحو ماتع، وقد قدم هذا التلميذ الوفي والأستاذ الكبير وصفا جميلا لأستاذه الشيخ الحملاوي
نشأته
ولد الشيخ أحمد الحملاوي واسمه بالكامل أحمد بن محمد بن أحمد الحملاويّ سنة 1856، وهو ينتمي إلى السلالة العلوية، أما اسمه فينسب إلى منية حمل من قرى بلبيس بمحافظة الشرقية بمصر، نشأ الشيخ أحمد الحملاوي وتربّى في بيت علم، وحفظ القرآن الكريم، وقرأ وتلقى العلوم الشرعية والأدبية، ثم التحق بمدرسة دار العلوم وتخرج فيها 1888 في الدفعة التالية لدفعة صديقه وزميله الأستاذ حسن توفيق العدل ١٨٦٢ – ١٩٠٤ الذي تخرج بمفرده في ١٨٨٧، عيّن الشيخ أحمد الحملاوي عقب تخرجه مدرسًا بالمدارس الابتدائية بوزارة المعارف. وتصادف أن أعلنت مدرسة دار العلوم حاجتها إلى مدرّسين للعلوم العربية، وعقدت لذلك امتحان مسابقة، فكان الحملاوي من أوائل المبرّزين فيه، فنقل مدرسا في دار العلوم.
العالمية والمحاماة والمجد
في سنة 1897 وقبل أن يمضي عشر سنوات في التدريس في دار العلوم، ترك الشيخ أحمد الحملاوي ميدان التدريس إلى الاشتغال بالمحاماة في المحاكم الشرعية، واستعد لنيل شهادة العالمية من الأزهر، ونالها، وكان بهذا أوّل من جمع بين عالمية الأزهر الشريف وإجازة دار العلوم. وسرعان ما اختارته إدارة الأزهر في ذلك الوقت لتدريس التاريخ والخطابة والرياضيات لطلابها، وفي سنة 1902 وصل لقمة مجده الوظيفي، فقد أسندت إليه بالإضافة إلى عمله في الأزهر نظارة مدرسة عثمان باشا ماهر، وهي مدرسة نموذجية كانت مع المدرسة الناصرية بمثابة مصنعي الرجال، وقد قضى الشيخ أحمد الحملاوي في نظارة هذه المدرسة ربع قرن، حتى ترك العمل سنة 1928، بعد أن جاوز الستين من عمره.
وصف الأستاذ مصطفى السقا له
رزق الشيخ أحمد الحملاوي تلميذا وفيا نابغا هو الأستاذ مصطفى السقا أستاذ الأدب العربي المعروف الذي كتب سيرته على نحو ماتع، وقد قدم هذا التلميذ الوفي والأستاذ الكبير وصفا جميلا لأستاذه الشيخ الحملاوي، فذكر أنه: «كان ذا بسطة في الجسم، ووجاهة ووسامة في الهيئة والوجه، مع حسن ذوق واعتناء بالزيّ، فكانت رؤيته تملأ العين جلالة، والنفس مهابة، ومنح قوّة في الصوت واللسان، فكان حسن الإعراب والبيان، يحرص على العربية دائمًا، لا يشوب كلامه شائبة من عامية أو لكنة، أو عيّ أو حصر، وإنما ينساب حديثه في النفس انسياب النهر المتدفق في رزانة ووقار، وكان حسن العرض للكلام، جيّد الإنشاد للشعر، لا يملّ حديثه وإن طال، ولا يسأم إنشاده وإن بلغت قصائده المئتين من الأبيات في بعض الأحيان».
«وكانت فصاحة الشيخ، ونصاعة بيانه، وجودة إلقائه، وحسن أدائه، وتمام شرحه للفكرة تعرض له، يجعلها نقشًا ثابتًا في نفوس سامعيه، فلا يحتاج الطالب إلى استذكار أو معاودة درس، وحسبه أن يتخيل الشيخ وهو يلقي بيانه، فتمرّ عليه صور الكلام التي تجدد الموضوع، وتحييه في ذاكرته، وتغنيه عن معاودة درسه، أو معاناة حفظه»، كذلك روى الأستاذ مصطفى السقا أن الشيخ الحملاوي كان أستاذا موهوبا متبوعا ذا أثر كبير في تلاميذه ومَنْ حرصوا على الأخذ عنه، والتعلق بأسبابه وآدابه، وأنه كان بين العلماء والأدباء ورجال القضاء والمحاماة، موضع الثقة وحسن التقدير، ومفزع الرأي والمشورة، ومحلّ السرّ والنّجوى.
حب الأدب قاده إلى حب اللغة
كان الشيخ الحملاوي فيما نفهمه من نصوصه ونصوص معاصريه راوية مقتدرا وكان يحفظ الكثير جدًّا من النصوص، مع إلمام تام بتاريخ النصوص ودلالتها.. وقد قاده حب الأدب إلى حب اللغة، حتى أصبح النحو والصرف واللغة والشعر الميدان المحبّب إليه. وقد سجل الأستاذ مصطفى السقا رأيه الذكي القائل بأن الأستاذ الحملاوي كان معجبًا بابن هشام الأنصاري، وهو واحد من أبرز النحاة المصريين في عصور نهضة العلم وكان الحملاوي معجبا بما قدمه ابن هشام في شرحه لألفية ابن مالك وهو الشرح المعروف الشائع المسمى «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك». وقد عرف الحملاوي بحفظ مسائل ابن هشام، وجعله أساسا لدراساته النحوية والصرفية، وتحقيقاته اللغوية، التي كان ينثرها بين يدي تلاميذه في دروسه ومحاضراته.
ويرى الأستاذ السقا أن الأستاذ الحملاوي التقط من ابن هشام أغلى درره التي ألف منها كتابه شذا العرف في فن الصرف، مع ما أضاف إليها من شذرات أخرى، من مفصل الزمخشري، ومن شافية ابن الحاجب، وشرحها لرضي الدين الأسترباذي، وغيره من محققي الأعاجم المتأخرين، الذين عنوا بالدراسات الصرفية، وأشبعوها تأليفًا وتوضيحًا وتصنيفًا. “وقد أسبغ الشيخ الحملاوي على هذه المادة التي أحسن اختيارها من كتب العلماء، كثيرًا من ذوقه وخبرته بأساليب التعليم والتصنيف، فتصرّف فيها توضيحًا وتهذيبًا، وتنسيقًا وتبويبًا، حتى جاء هذا الكتاب محكم الطريقة، واضح الأسلوب، جامعًا للعناصر الضرورية التي لا بد منها لدارسي اللغة وفنونها، ممثلًا ما وصلت إليه الثقافة اللغوية في مدارس البصرة والكوفة وبغداد والفسطاط والأندلس، ثم ما انتهت إليه أخيرًا على يد ابن مالك وأبي حيّان وتلاميذهما من رجال المدرسة النحوية الأخيرة، التي لا تزال آثارها قوية باقية”.
من بين علماء الإسلام، فقد خصّ الشيخ الحملاوي الإمام الشافعي بنصيب موفور من مدائحه، كما نظم قصيدة رائعة في الشيخ الدردير أشهر شراح متن خليل في الفقه المالكي
متابعته للإنتاج الفكري
كان الشيخ الحملاوي من الأساتذة الذين يعيشون أجواء العلم وتطوراته وما يتاح له من الإضاءات التي تكشف عنها الطبعات الجديدة أو التحقيقات المنجزة، وكان لهذا السبب معنيًا بتتبع ما يطبع من الكتب الحديثة التي يؤلفها معاصروه، كحفني بك ناصف، ومحمد بك دياب، ونظرائهما من رجال المعارف، وكان ينقدها ويساجل أصحابها في بعض مآخذها، وظل الشيخ الحملاوي مشغوفًا بقراءة ما ينشر من الكتب القديمة، ويستفيد منها فوائد لا تلبث أن تصبح موضوع حديثه مع تلاميذه. وقد ذكر الأستاذ السقا أن أستاذه الحملاوي عندما علم بنشر كتاب الهمع للسيوطي لأول مرة سنة (1909) فبعث في شراء نسخة منه، ثم جاء في ثاني يوم يقول لطلابه: «قرأت أمس في كتاب الهمع للسيوطي أن من اللغات في لفظة «الّلائي» من الأسماء الموصولة: «الّلا» بالقصر، التي شاعت بين العامة، فينطقها بعضهم باللام المشددة مفتوحة، وبعضهم بكسرها وقلب الألف ياء «الّلي» وكنا نظنها عامية، فإذا هي من صميم اللغة في بعض أحوالها.
يا خير من سجـدت لله جبهتـه
وفي قصيدة ميمية له في مدح الرسول ﷺ نراه يصور النور النبوي الذي انبعث في عصر الظلام:
يا خير من سجـدت لله جبهتـه وقــــام للحــق إجــلالا على قــدم
ومن أضاء الدياجى نـور غرتـه فانشق صبح الهدى في الحل والحرم
وخير من لجميع الخلق أرسلـه بمنتهـى كـــرم الأخــلاق والشيــم
أتيت والناس في غي وفي عمه مثل السـوائـم من بهـم ومن نعــــم
نور النبي على العوالم أسفـرا
ومن قصيدة أخرى مشهورة للحملاوي في مديح النبي عليه الصلاة والسلام نرى الحملاوي وهو يصور البعثة المحمدية فيجيد تصور أثرها الباقي في تحرير الانسان من الكفر والافتراء:
نور النبي على العوالم أسفــرا فأبان أسبـــاب الرشـــاد وأظهــرا
وبحسن طلعته الشريفة قد بدا نـــور السعـادة والسيادة مقمـــرا
وشريعة الإسـلام راق رواوّها والكفر أصبح جيشــــه متقهقــرا
لما أتــى خير الأنــام بديــنه وانحــل ما عقد الغــواة من الفرى
هـامـوا جميعا بالنبي ودينــه والكفر بعد العرف صـار منكــرا
ويمضي الحملاوي في هذه القصيدة الرائقة ليصور أثر بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام في تحقيق التطور الفكري والإنساني في البيئة التي حظيت ببيعة الرسول، وترى في تصويره ملامح ذكية في فهم الارتقاء البشري المرتبط بالرسالة المحمدية:
واستبشــروا بالمصطفى وبنـــوره والكــل صــاح مهللا ومكبــرا
والأمن بعد الخوف أصبح ضاربـا أطنابــه بين المهامــه والقــرى
والخصب قد عــم الأنـام فوجــه قد كـان ميمـون النقيبـة أنضـرا
البشارات النبوية
كان الحملاوي في مدائحه يكرر ما شاع الحديث عنه في تلك المدائح من البشارات التي صاحبت مولد النبي ﷺ، من قبيل تصدع إيوان كسرى وخمود نار الفرس وهي إشارات شائعة في تراث ذلك الجيل ممن نظموا القصائد والأشعار في مديح النبي ﷺ.
كـم نيــة ظهرت لمولـده وكـم خرت إلى الأذقـان أصنـام الـورى
وارتــج إيــوان لكسرى رجّــة جعلتــه من بعد الثبــات مكسـرا
نيرانهـم خمدت وزال لهيبهــا وغدت هبـاء في القضـاء مبعثـرا
وغدت ملوك الأرض تخشى بأسـهُ وأخـاف كسرى ما رآه وقيصــرا
وتخـــوف الرهبــان يـــوم ولاده إذ عـزهــم بعــد التقــدم أدبــرا
لله ليلـــــة مولــــد فيها بــــدا من كـان في نفس العوالم مضمرا
فالكون ما ست بالهنا أعطافه فرحــا وأصبح بالعبيـر معطـــرا
هذا النبي المصطفى من معشر كانوا الأفق المجـــد بـدرا نيــرا
سادوا الأنام فكل فرد دونهم في المكرمات ولو رقى أعلى الـذرا
الإسراء والمعراج
وينتقل الأستاذ الشيخ الحملاوي إلى الحديث الروحاني الجميل عن معجزة الإسراء والمعراج بروح مفعمة بالإيمان بالله جل جلاله وقدرته، وحب النبي ﷺ.
سبحـان من أسـرى به ليـلا إلى حـرم بأرض الشام ظل مطهـرا
صلى بكـل الأنبيــاء جمـاعــة إن الوفــود يقدمــون الأكبـرا
ثم ارتقى نحو السماء لمستوى فيه رأى المجد الأثيـل موفـرا
فحبــاه مـولاه بـأكبر نعمـــة وأمـده كرمـا بأنـواع القــرى
ورأى الإلـه جمـاله وجلالــه أما سـواه فقد أجيب بلن تـرى
وعليه قد فرض الصلاة وبعد ذا آوى الفراش كأنه ما قد سرى
قد كان هذا السر أكبر آية كانت لخير الخلق أكبر مظهرا
معجزات النبي عليه الصلاة والسلام
ويتناول الشيخ الحملاوي الحديث عن المعجزات التي رويت عن النبي ﷺ تداولًا مباشرًا يعيد فيه صياغة ما شاع من أمر هذه المعجزات، يحدوه في روايتها ونظمه ما امتلأت به نفسه من حب الرسول ﷺ والتغني بسيرته العطرة، بعيدًا عن الجدل والمناقشات وهو يشير إلى السحابة التي أطلت النبي ﷺ وإلى حادثة الغار وغيرها مما تحفل به أشعار من سبقوه إلى مدح النبي ﷺ :
كـم معجـزات أفحمت أعـداءه حاشى علاهـا أن يعـد ويحصـرا
في الغار قد نسجت عليه عناكبٌ والــورق عشّش والعـدوّ تحيـرا
قـد ظللتـه في الهجيـر سحـابـة والجــزع حــن لبعــده وتـأثـرا
والضب سلم والبعير قد اشتكى تعبا وجوعا منهما الجسم انبرى
وبه استجارت في الفلاة غزالة فأجاره وأجـارها مما جــــرى
وأشار للأشجار جاءت سجدا ودنا له العرجون شوقا مثمـرا
والماء فاض زلالــه من كفـه فسقى المئين بل الألوف فأكثرا
وانشق بدر في السماء وقدرا الناس في شرق وغرب نيرا
وأجلّ معجزة هي القرآن إذ بقيت مدى الأزمان لن تتغيرا
خرّوا إلى الأذقان طرا سجدا لما رأوه معجــزا ومحيــــرا
هذا النبي له الفخار فدينه لمكارم الأخلاق جاء مقررا
نسخ الشرائع قبله فجميعها بشريعة الإسلام صار مدهورا
يا سيد الرسل الكرام وخير من ركب البراق وخير من وطىء الثرى
امنن علينا بالشفاعة في غد واجعل لنا عـزّا يـدوم ومظهـرا
يا ربّ ممتنا برؤية نوره والطف بنا في كـل أمر قــدّرا
واجعل ختام المسلمين جميعهم مسكا يفوح شذا شذاه وعنبـرا
وأدم صلاتك والسلام على الذي ختم الرسالة منــذرا ومبشـرا
قصائد الحملاوي في الامام الشافعي
من بين علماء الإسلام، فقد خصّ الشيخ الحملاوي الإمام الشافعي بنصيب موفور من مدائحه، كما نظم قصيدة رائعة في الشيخ الدردير أشهر شراح متن خليل في الفقه المالكي، ونحن نعرف أن الشيخ الحملاوي كان شافعي المذهب، وكان لا يعدل أحدًا من الأئمة بالإمام الشافعي، وفضلًا عن هذا فإنه ـ كما ذكرنا ـ كان يحضر مولد الإمام الشافعي في كل عام، يبتدئ الاحتفال بقصيدة، ويختمه بأخرى.
ديوانه
طبع الجزء الأول من ديوان الشيخ أحمد الحملاوي في أول يونيه سنة 1957، بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة.
مؤلفاته
– شذا العرف في فن الصرف (صدرت طبعته الأولى 1894 ).
– زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع (صدرت طبعته الأولى 1909) بالمطبعة الأميرية.
– مورد الصفا في سيرة المصطفى (صدرت طبعته الأولى 1939) بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة.
– قواعد التأييد في عقائد التوحيد (رسالة صغيرة طبعت بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة، سنة 1953).
وفاته
توفي الشيخ الحملاوي في 26 من يوليو سنة 1932 أي فيما بين وفاة الشاعرين الكبيرين حافظ وشوقي.