محمد صالح حرب باشا ١٨٨٩- ١٩٦٧ زعيم مصري نادر ممن رزقهم الله الجمع المتألق والفريد بين فطرة الاسلام ونخوة السودان ونكهة الوطنية وثقة العرب ونباهة الساسة وحب الجماهير، وهو السياسي المصري الوحيد (فيما قبل أنور السادات) الذي جمع الجهاد والنصر العسكري والعمل السياسي والوزارة وقيادة الجيش وريادة المجتمع المدني، وليس عجيبا أن كليهما فقط وحصريا هما السياسيان المصريان المولودان لأم سودانية وأب مصري ، وهو في تقييمي التاريخي لحقبة الليبرالية ، ورغم عدم تمتعه بالشهرة الزاعقة، يقف في مكانة تالية مباشرة لزعيمي الأمة سعد زغلول باشا والنحاس باشا وسابق على زعماء الأقليات، ومن الطريف أنه هو الوحيد الذي ظل يجمع بين صداقة الاستاذ عباس محمود العقاد والإمام الشهيد حسن البنا، فقد كان اغتيال النقراشي على يد شباب من الاخوان المسلمين عقب قراره بحل الجماعة واعتقال أعضائها سببا مباشرا في انقباض كل من يحبون النقراشي (وفي مقدمتهم العقاد) من الاخوان المسلمين، لكن صالح حرب باشا وحده كان من حاول مساعدة الدولة والمجتمع على عبور الازمة من أجل الوطن، ونحن نعرف من وقائع التاريخ المعلن ان الامام الشهيد حسن البنا قد استشهد وهو يهم بدخول مقر جماعة الشبان المسلمين ليتداول مع أطراف من الحكومة .
ربما يتعجب القارئ من أن كتبنا التاريخية لا تشير الا في النادر الى القيمة الوطنية العظيمة التي انجزها هذا الرجل من خلال قيادته لثورة مسلحة في 27 نوفمبر 191٥ ضد البريطانيين في منطقة مرسى مطروح وهي ثورة حقيقية شاركت فيها معه ومع الجنود المصريين جموع من القوات السنوسية وقبائل أولاد على وكانت واحدة من أبرز ثورات المصريين المجيدة التي لا يزال التاريخ الرسمي يستحسن تجاهلها في كل العهود، هروبا من الاعتراف بقدرة الجماعات الصغيرة على تحقيق إنجازات وطنية وثورية مؤثرة، كما يستحسن التاريخ الرسمي العسكري تجاهلها لسبب مفهوم وهو أنها أول ثورة مباشرة يقوم بها ضابط وطني مصري ضد الانجليز منذ الاحتلال في 1882، وقد كان من الطبيعي أن تتفاعل وتتأثر هذه الثورة بالتوازنات الدولية في اثناء الحرب العالمية الاولي وبصفة خاصة بما حدث في تركيا أو في حروب دولة الخلافة العثمانية، وهكذا ساندت هذه الثورة نهج مصطفى كمال أتاتورك المحارب في بدايته، وأيّدته في حربه وانتصاره على اليونان، ويذكر التاريخ العسكري لمحمد صالح حرب قيادته المنتصرة للقوات المحاربة للإنجليز في معركة وادي ماجد في 24 ديسمبر 1915 وقد ظل محمد صالح حرب باشا مسيطراً بقواته على الواحات والمنطقة الغربية من صحراء مصر لأكثر من عامين، ونحن نفهم بالطبع أن هذه الثورة قد توقفت بسبب هزيمة ألمانيا وتركيا معها في الحرب العلمية الأولى.
نشأته وأصوله
ولد هذا الباشا العظيم محمد صالح حرب باشا في العام الذي ولد فيه الأستاذ عباس محمود العقاد 1889، وهو العام الذي شهد أيضا مولد عدد من السياسيين مختلفي التوجهات والتاريخ من أمثال أحمد حسنين باشا رئيس الديوان والزعيم الدستوري إبراهيم دسوقي أباظة والوفدي مكرم عبيد باشا.. وقد كان بحكم السن زميلاً للأستاذ العقاد في المدرسة الابتدائية، وظل على صداقته به طيلة عمره.. جمع صالح حرب في نشأته بين ما نسميه الآن من باب التجاوز الأصول السودانية والمصرية بينما هي شيء واحد والدليل واضح فيه هو نفسه فقد كان جده محمد على بك من القادة العسكريين الذين عملوا في السودان ثم استقروا هناك، وكان هذا الجد محمد على بك هو الذي أتم إنشاء الاستحكامات العسكرية في دنقلة ثم اقام فيها، أما والده صالح حرب الذي نشأ في دنقلة فقد أصبح في سن مبكرة بحكم تربيته المتميزة حاكماً لدنقلة، وتزوج من أعرق عائلاتها وهي عائلة كيكي (ولم تنجب والدته التي هي ابنة السيد مصطفى عثمان كيكي غيره).. ولما قامت الثورة المهدية في السودان اضطر والده أن يرحل بعائلته إلى أسوان وفيها أنجب ابنه محمد باشا وتوفيت الوالدة ودفنت في أسوان، وتزوج والده بعدها من السودان أيضاً أما الابن محمد صالح باشا فقد ولد ونشأ في أسوان وتعلم في الكتاب ثم في مدرسة أسوان الابتدائية كما ذكرنا ثم التحق بمدرسة خفر السواحل وتخرج فيها 1903، وكانت المدارس العسكرية في ذلك العصر تقبل طلابها الحاصلين على الابتدائية القديمة.
تدرج محمد صالح حرب في وظائف خفر السواحل وهي وظائف عسكرية برتب عسكرية حتى أصبح الحاكم العسكري لمرسى مطروح وسيوه، وهو ما قد يناظر الآن قائد المنطقة العسكرية الغربية بعد أن امتدت سلطة القوات المسلحة إلى المناطق التي كانت فيما مضى تابعة لسلاح الحدود وخفر السواحل، كانت النزعة الوطنية مسيطرة تماماً على محمد صالح حرب وقد دفعته إلى أن يلعب دوراً كبيراً في تأييد حركات الجهاد في ليبيا، بل إنه كان يتولى تهريب الأسلحة والمؤن والقادة لمقاومة الغزو الإيطالي لليبيا ومساعدة المجاهد الكبير عمر المختار .
على صعيد مواز أصبح اسم محمد صالح حرب بمثابة أيقونة للإخلاص الوطني والأصالة والإسلام وهكذا فإنه كان هو المرشح الطبيعي لرئاسة جمعية الشبان المسلمين في 1940 بعد وفاة مؤسسها عبد الحميد سعيد الذي ترأسها منذ تأسيسها في 1927 وحتى وفاته
صعوده السياسي والتنفيذي بعد ثورة ١٩١٩
مع نجاح ثورة 1919 وصدور الدستور ونجاح سعد زغلول باشا في استصدار قرارات العفو عن المسجونين والمنفيين عاد محمد صالح حرب باشا إلى ممارسة السياسة، بل إنه فاز بمقعد في برلمان 1926 الذي أجريت انتخاباته في ظل الائتلاف بين الوفد والدستوريين والحزب الوطني، وظل محتفظا به حتى 1930حيث حل إسماعيل صدقي باشا البرلمان، أصبح محمد صالح حرب باشا وكيلا لمصلحة السجون ما بين 1930 و1939 وفي يناير 1939 اختير ليكون مديرا خفر السواحل وظل في هذا المنصب حتى أغسطس 1939 حين اختاره على ماهر باشا وزيراً للدفاع في وزارته الثانية التي استمرت في الحكم ما بين أغسطس 1939 ويونيو ١٩٤٠ مواكبة بدايات الحرب العالمية الثانية وما صحبها من توتر في الجبهة المصرية التي كان من المفترض أنها من جبهات الحلفاء .
قيمة توليه الوزارة
كان تولي محمد صالح حرب باشا وزارة الحربية بمثابة ضربة حظ للحركة الوطنية والاتجاهات الأصيلة والأصولية فيها، وقد تمكن محمد صالح حرب بمعونة على ماهر باشا من تكوين ما سمي بالجيش المرابط الذي أسندت قيادته إلى زميله الوزير عبد الرحمن عزام باشا، كما أن صالح حرب دعّم توجه الملك فاروق والشيخ المراغي وعلي ماهر الداعي إلى تجنيب مصر ويلات الحرب، بل وعدم الانحياز إلى بريطانيا وكان من الطبيعي أن تسعى بريطانيا إلى الخلاص من هذه الوزارة بكل ما تمثله من توجهات معادية للبريطانيين، ومما يُذكر أن الحماس الوطني الصادق دفع محمد صالح حرب باشا إلى إجراء مسابقة من أجل نظم الأناشيد العسكرية فتقدم لهذه المسابقة 800 نشيد واختيرت أربعة أناشيد فقط للشعراء محمد الأسمر وعبد الفتاح شلبي ومحمد الحناوي ومحمد عبد المنعم.
جمعية الشبان المسلمين
على صعيد مواز أصبح اسم محمد صالح حرب بمثابة أيقونة للإخلاص الوطني والأصالة والإسلام وهكذا فإنه كان هو المرشح الطبيعي لرئاسة جمعية الشبان المسلمين في 1940 بعد وفاة مؤسسها عبد الحميد سعيد الذي ترأسها منذ تأسيسها في 1927 وحتى وفاته ومما لا يذكره التاريخ المصري أيضا أن محمد صالح حرب ظل رئيسا لحرية الشباب المسلمين 27 عاماً منذ 1940 وحتى وفاته في 1967، في اثناء هذا كله وكنتيجة طبيعية له تداولت المخابرات العالمية والغربية روايات كثيرة عن رصدها ورصد عملائها لأنشطة وتحركات كثيرة لمحمد صالح حرب في مناصرة المحور ضد الحلفاء، وكانت السلطات البريطانية ترتاب بحكم حساسيتها من حركات الجهاد الوطني وبخاصة إذا ما ارتبطت بالفكرة الإسلامية وهكذا تضاعفت احتجاجات البريطانيين على وجود محمد صالح حرب (وهو الضابط الكبير المعروف بعدائه للانجليز) في قلب القاهرة إلى جوار مركز الأحداث، ولهذا فإنها طالبت مرارا باعتقاله بحكم نصوص المعاهدة والتحالف لكن النحاس باشا اكتفى بتحديد إقامته في أسوان طيلة ما تبقى من وقت الحرب (1942 – 1945).
مع الإخوان وفلسطين
وفيما بعد الحرب العالمية الثانية بدأ الجهاد من أجل فلسطين وكان محمد صالح حرب أحد نجوم هذا الجهاد.. كذلك فقد كان محمد صالح حرب متعاطفا إلى أقصى حد مع حركة الإخوان المسلمين ولم يبخل عليها بكل الإمكانات المتاحة في مقر جماعة الشبان المسلمين كما كانت تربطه صداقة متينة بالإمام الشهيد حسن البنا وكان حريصا على الدوام على التعبير عن إعجابه به وبإنجازه الفكري، وحين اعترضت وزارة حسين سري باشا على عقد الإخوان لمؤتمرهم السادس (10 يناير 1941) وكان كعادتهم ن يعقد في ثالث أيام عيد الأضحى المبارك فإن صالح حرب استقبل مسيرتهم في الشباب المسلمين بعد عودتهم من صلاة الجمعة في الأزهر الشريف.
تكريمه
لا يزال اسم محمد صالح حرب بحاجة إلى التكريم، ولا تزال معركة وادي ماجد في حاجة إلى التكريم، على الأقل بأن يطلق اسمها على محطة من محطات مترو الأنفاق في مصر اقتداء بالتقليد الذكي في مترو باريس الذي يخلد معركة بير حكيم بالموازة لمعارك ستالنجراد وغيرها.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا