الأمير محمد على توفيق (1875 ـ 1955) هو الابن الثاني للخديو توفيق، وهو شقيق الخديو عباس حلمي الثاني (١٨٧٤- ١٩٤٤) وقد تربيا معا ودرسا معا في سويسرا ثم في فيينا عاصمة النمسا، فالفارق بينهما في العمر سنة واحدة ، وقد ولد الأمير محمد على توفيق في ٩ نوفمبر ١٨٧٥ وكان بمثابة الرجل الثاني في استحقاق العرش أو بمثابة ولى عهد شقيقه الخديو عباس حلمي حتى رزق الخديو بابنه الأمير محمد عبد المنعم في ١٨٩٩ الذي اصبح فيما بعد ١٩٥٢- ١٩٥٣ وصيا على الملك احمد فؤاد الثاني ابن الملك فاروق أما الأمير محمد على توفيق فقد كان وصيا على الملك فاروق ١٩٣٦-١٩٣٧ . وكان الأمير محمد على توفيق كذلك هو ولى عهد الملك فاروق منذ تولى وحتى رزق الملك فاروق بابنه الملك أحمد فؤاد الثاني في ١٩٥٢، وهكذا فان الأمير محمد على توفيق كان ولياً للعهد أو الرجل الثاني في البروتوكول بعد رئيس الدولة على مدى فترة طويلة يصل الفارق بين بدايتها ونهايتها إلى سبعين عاما، لكنه بالطبع لم يكن وليا لعهد الملك فؤاد ١٨٦٨ -١٩٣٦ إذ أنه مع إعلان الملك فؤاد ملكاً في ١٩٢٣ أعلن عن نظام وراثة العرش الذي يجعل ولاية العهد لابنه الملك فاروق الذي كان قد ولد في ١٩٢٠، كذلك فقد كان الأمير كمال الدين حسين بمثابة ولي لعهد والده السلطان حسين كامل وتنازل عن ولاية العهد، وعن خلافة والده.
هوايته للعمارة الإسلامية وللنباتات النادرة
كانت للأمير محمد على توفيق اهتمامات حضارية متعددة فقد كان مهتما بالعمارة الإسلامية كما كان عاشقا للنباتات النادرة، ولبعض الأجزاء المصبرة من الحيوانات من حصيلة صيده في رحلات الصيد التي كان يقوم بها، وقد جعل من حديقة قصره الذى بناه في المنيل (٦٢ الف متر مربع) تحفة رائعة للنباتات النادرة، على نحو ما كان القصر فريدا ومبهرا وبسيطا أيضا في تصميمه وفي محتوياته وتنسيقه، وهو الذي تولى تصميم هذا القصر والاشراف على بنائه في جزيرة الروضة، ولايزال القصر قائما وان كان استخدامه يتعرض لما يتعرض له كل أثر في مصر، وقد تم تأجيره في مرحلة من الزمن لشركة سياحية فرنسية فاستخدمت بعضه كفندق .
هوايته للرحلات والكتابة عنها
عرف الأمير محمد على توفيق بالرحلات ونشر بعض الكتب المتميزة عن هذه الرحلات :
«رحلة إلى أمريكا الشمالية»،
«رحلة الصيف إلى البوسنة والهرسك»
«رحلة إلى أمريكا الجنوبية»
«الرحلة اليابانية».
حياته العائلية
عاش الأمير محمد على توفيق حياته كلها عزبا فلم يتزوج، وان لم يخل أمره من علاقات كانت مقدمة لاقتران لم يتم، وقد قيل إن السبب في عدم زواجه كان سببا طبيا نتيجة إصابته في إحدى رحلاته .
مواقفه السياسية
يذكر للأمير محمد على توفيق موقفه الإيجابي في تأييد ثورة ١٩١٩ شأنه شأن أمراء البيت الملك جميعا ، وفيما بعد فان البريطانيين كانوا يهددون بتوليته خلفا للملك فاروق على نحو ما حدث في حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ لكن الأمر لم يتعد التهديد فقد كان الأمير رجلا عاقلا رغم ما يشيعه المصريون بطبيعتهم اللاذعة عن ميله للخرف، لكننا لا نجد في تصرفاته العامة ما يؤيد ظنونهم، غادر الأمير محمد على توفيق مصر بعد قيام الثورة فأقام في لوزان بسويسرا.
وفاته
توفى الأمير محمد على توفيق في ١٧مارس سنة 1955 في لوزان، ودفن بالقاهرة.
مقدمة مجلة البيان للبرقوقي عن تحطيم الأمير لصورة الارستقراطية السجينة
نشرت مجلة البيان التي كان يصدرها الاديب العظيم الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي في ٣٠ ابريل ١٩١٤ مقالا جميلا عن الكتاب الذي كتبه الأمير محمد على باشا عن الرحلة الأمريكية، وقد تحدثت المجلة في هذا المقال عن نجاح الأمير في تحطيم ما أسمته بالعظمة السجينة، أو الأرستقراطية المحتجبة، وقدمت بهذه المناسبة ما هو أهم بكثير من المناسبة نفسها بكثير إذ استعرضت تحليلا اجتماعيا متميزا ببيان جميل قريب في عرضه من الأسلوب المشرق الذي عرف به الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في مقاربة القضايا الاجتماعية: “كان شعار الأرستقراطية بالأمس الاحتجاب والاختفاء، وكان المبدأ السائد بين الأرستقراطيين اختفوا واحتجبوا!. تلكم هي العظمة السجينة، وتلكم هي الأرستقراطية المحتجبة، عظمة لا يشهدها إلا خدمها وحرسها كما يشهد السجين سجانه، وأرستقراطية لا يستمد منها التاريخ الاجتماعي، وإن كان يستمد منها التاريخ المالي للأمة فإن من حسنات الرفاهية أن في إسراف الأغنياء مصلحة الفقراء، وفي ملاذ [يقصد: ملذات ] النبلاء معايش للتجار والباعة وأضرابهم ممن تحتاج الرفاهية وأبهة الإمارة إلى متاعهم وسلعهم ومباهجهم ومناعمهم [ يقصد متعهم ] .”
“ولو أصبح نصف الأمة أغنياء مبذرين مسرفين، لأصبح سواد النصف الآخر قصابين وبدالين، ويومذاك لا يكون تاريخ الأمة إلا جداول وكشوفاً بحساب المصروفات والمقبوضات، وحسبك من مغبة ذلك أن الأمة لا تعيش إلا على أيدي المبذرين، وفي جيوب التجار، وأما العقول وأصحابا، والنبوغ وأربابه، والعلم وذووه، والأدب وأنصاره، فسلام على ها وعليهم، فهي وهم ثقال الظل في جناب الأغنياء، وحضرة الكبراء وهي وهم ليسوا من مستلزمات الرفاهية، ولا من متطلبات التبذير والإنفاق!. “على أن التطور الاجتماعي لم يدع سبيلاً إلى ذلك، وشاء التاريخ أن يكون كاتباً لا حاسباً، ومقرراً لا طارحاً ولا قاسماً، فأصبح الأمراء والنبلاء وجمع من الأغنياء يعملون لحياة الأمة وغذائها الفكري، مثل ما يعمل ذلك رجال الأمة، فقراؤها وأذكياؤها وعلماؤها وأدباؤها، بل إن في الأمراء الكرام الأماجيد، كثيرين يعملون بعقولهم الخصبة، وأرواحهم الكبيرة ونفوسهم الحارة الأبية، وجيوبهم الفياضة، وعزماتهم الثواقب الماضية، وهممهم البعيدة النائية، على خدمة الأمة أكثر من علمائها، لأن خدمتهم تطّرد طردين، وتنساق مساقين [طريقين]، من عقولهم – وما أمتعها – ومن أيديهم – وما أسخاها وأسرعها – ومن ثم كانت عظمتهم عظمتين، ونبلهم نبلين، نبل الروح ونبل الدم، وذلك لأنه إذا جرت الروح الديمقراطية في دماء الأرستقراطيين فعملوا على خدمة الأمة واكتساب حبها وثقتها، ومزجوا تاريخهم بتاريخها وخلطوا حياتهم بحياتها، ارتفعت عظمتهم، كمقياس الحرارة، ترتفع درجاته بتأثير الحرارة الخارجية، ولا تسمو العظمة ولا تزداد إلا أن يكون هناك ارتباط بين العظيم، بل ينبغي أن يجمع إليه حبهم، فإن الاحترام نوع جاف من الحب فإذا ظفر العظيم من الناس بالاحترام والحب، واستقر منهم في أسماعهم وأبصارهم وذاكرتهم وأفئدتهم، فسيظفر ذكره من جيل إلى جيل، ويثب من عصر إلى عصر، ويوصي به القرن الذي يمضي أخاه القرن الذي يقبل، وسيجري اسمه بين العصور المتعاقبة المترادفة حتى ينتهي إلى الأبدية، وهو أقوى ما يكون ساقاً، وأشد ما يكون عصباً، وأطول ما يكون نفساً، وكذلك يكون الخلود.
توظيف الأمير علمه وماله
ويصل مقال مجلة البيان إلى المديح المباشر للأمير محمد على توفيق حيث يثبت له الفضل في الهدف من ارتحالاته، وما سجله من هذه الرحلات التي زار فيها بلاد الغرب واليابان والولايات المتحدة الامريكية: ” … وقد ظفر بجملة [بكل] ذلك الأمير الجليل محمد على باشا شقيق الجناب العالي الكريم، فقد رأى من نبوغه ونشبه مادتين عظيمتين، وألقى من علمه وماله قوتين كبيرتين. فوقفها جميعاً على رقي الأمة وتقدمها، ورأى الأمة مفتقرة في كل فروع الحياة وأصولها، فأعانها في كلها، وأخذ بيدها في جميعها. ” رأى [الأمير] رأي الشاعر تومبسون أن استخدام الجهد في شريف الأعمال ومجيد الأفعال، وحميد الآثار، والنهوض بأهل بلده من مهاوي الجهل إلى مراقي العلم، هو عنصر الحياة، فكان منه الخطيب والكاتب والأديب والبحاثة والمفكر والرحالة، فهو يعيش عيش أهل النبوغ وجبابرة العقول في الأجيال الماضية والأجيال المستقبلة، ينعم من الأولي بالبحث والتنقيب، ومن الأخرى بالعمل للمستقبل وتخليد المآثر والمكرمات. ووجد أن العمل على ترقية الأمة الغريرة، وتزكية الشعب الصغير، يتطلب السفر والتجواب في البلاد العظيمة، والممالك المتحضرة الراقية، ليعلم سر تقدمها وأسباب تأخرنا، فزار بلاد الغرب ثم بلاد اليابان، وجعل يبحث في شؤونها تارة بنظرة الفيلسوف، وطوراً بنظرة البحاثة، وطوراً آخر بنظرة الاجتماعي وحيناً بنظرة الأنثربولوجي ثم عرج بعد ذلك على الولايات المتحدة، ليرى مبلغ مدينة العالم الجديد ويشهد عظمة الأميركان، ويصور لنا أخلاقهم وعاداتهم، وعجائب مدينتهم، وغرائب أمورهم، ويعلم الفروق الاجتماعية والسيكولوجية، التي ترجع إليها عظمتهم وانحطاطنا.
تصوير لقاء المجلة مع الأمير في قصره
“…. كان لنا الشرف الجزل أن زرناه في الشهر الماضي بقصره في الروضة شاكرين له إهداءه إلينا رحلته الجليلة، فوجدنا من لدنه أخلاقاً ديمقراطية عذبة، وشمائل عالية، يمتزج فيها أدب العثمانيين، بوداعة المصريين، وحديثاً جذاباً رقيقاً، لا أثر فيه للتكلف، بل تتجلى فيه شخصيته، ونفسه وعقله، وخلقه، وتلك مزايا الرجل النابغة، فإن النبوغ يجري في تضاعيف النفس مجراه في أوعية الذهن، وما النفس والذهن إلا ليتغذيا من بعضهما. ولو جئت بأنبغ النوابغ، وأذكى الأذكياء، وكان مضطرب النفس، مكدر الروح، مربد العواطف، ثم أردته على أن يظهر نبوغه وذكاءه، لا تطبع اضطراب نفسه، وكدر روحه، في قوله وكتابته. ” وصفاء وجدانات سمو الأمير الجليل [أي حالته الوجدانية]، وحلاوة أخلاقه، دلائل على عظمته، إذ يقول استرابو الشاعر أنك لا ترى عظيم الذهن إلا وهو عظيم النفس، عظيم الخلق، على م بالنظر إلى قلبه ونفسه، وإلا فكيف يعرف النظر إلى قلوب الناس واستقراء ضمائرهم ووجدانهم، من تكدرت نفسه واحتجبت وراء سحائب من الأكدار والأقذاء؟.
وقد قرأنا رحلة الأمير فما رأينا إلا الوصف الدقيق، والنقد المتين، والاستنتاج الراجح، والملاحظة الدقيقة، والفكاهة المستملحة، بل رأينا روحاً شرقية وثابة، قد خلصت من أغلال الجمود، وقيود المحافظة، تعجب بالجليل من مدينة الغرب، وتلفظ السخيف منها، وكم فيها من سخيف، وتستحسن الصالح من عادات الغربيين، وتعيب على الغث منها، وكأين فيها من غث. رأينا رسوخ العقيدة، وصدق البأس، وشدة الإيمان، وشدة العارضة والغيرة على الشؤون المصرية والمصالح الشرقية، والحرص على الشرائع الإسلامية، والقوانين الدينية، والأبحاث السيكولوجية، والاستنتاجات الأنثربولوجية.
ثناء عثمان مرتضي باشا على ما سجله الأمير عن رحلته
يشير مقال مجلة البيان بالثناء إلى أن الأمير تخير لمقدمته ” قلم العالم الكبير والقانوني المفكر، سعادة المفضال عثمان مرتضى باشا: ” “….. أبدع [عثمان مرتضى باشا] في وصف التطورات المادية والفكرية والاجتماعية التي تقلبت فيها الجماعات البشرية، وعظمة الشرق الماضية، وما ظهر فيه من المدنيات القديمة وأنواعها واستطر إلى الإسلام ومبادئه وأغراضه وتأخر الشرق وتقدم الغرب، ومصر الحديثة وأيادي الأسرة الخديوية الكريمة على ها وختم المقدمة بماهية الرحلة ومزاياها. ونحن فلو أردنا أن تقتطف للقارئ ما جاء في عرض الرحلة من الآراء الناضجة والأبحاث الجليلة، والملاحظات الجميلة، لاستنفد ذلك صفحات كثيرة ولكنا نجتزئ هنا بالشيء اليسير منها، ومن مقدمتها الجليلة:
حديث الأمير عن استنتاجاته لأصول الهنود الأمريكيين
يقول دولة الأمير في مسألة أصل الهنود الأمريكيين لما رأيت (في منشوريا) اليورجوت وقارنتهم بصور الهنود الأمريكيين التي رأيتها في بطاقات البريد (الكارات بوستال) التي اشتريتها في مكدن، علمت وقتئذ أنه لا بد أن تكون هنود أمريكا من هؤلاء اليورجوت، ومن سكان شمال آسيا وليس ببعيد أنهم هاجروا إلى هذه البلاد في الزمن القديم من طريق كامتشتكا، وعلى ذلك يكون الآسيويون هم البادئين في كشف أمريكا قبل كريستوف كولومب، ولكن لما كانت حالتهم وحشية ومعارفهم قاصرة، واختلاطهم بباقي العالم معدوماً. ولا توجد بينهم وبين الأوروبيين مواصلات ولا مكاتبات فإن اكتشافهم لم يعلم به أحد، ومع ذلك لا يمكن تأييد هذا الرأي بإقامة برهان على ه من معلومات هؤلاء الهنود أنفسهم لأنهم لا يعرفون هم أنفسهم أصلهم ولا يدرون تاريخهم فإذن لا يمكن الاتيان ببراهين قاطعة على صحة هذا الرأي إلا مثل هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه أثناء زياراتي منشوريا ومقارنتي سكانها بأولئك الهنود الأمريكيين، والشيء الغريب الذي لفت نظري في هذه المعروضات وجود (رأس لجام) مكسيكي بد رسم الهلال وحديدته عربية فقلت إن ذلك من مخلفات العرب وآثارهم فإننا نعلم أن الإسبانيين هم الذين أتوا أولاً وحاربوا مكسيكا، وبما أن أسبانيا كانت ملكاً للعرب وبعد نزعها من أيديهم لابد وأن تبقى فيها آثارهم الحربية والاسبانيون الذين حضروا لفتح مكسيكا ربما كان بينهم من أحفاد العرب أو من المعجبين بأدواتهم الحربية من أحضروا معهم هذه المخلفات التاريخية وبعدها انتقلت من مكسيكا إلى هنا على أنها تحف تباع للسائحين والذي أيد فكرتي هذه وجود سروج عربية بكامل أدواتها معروضة أيضاً للببيع وهي بلا شك من مخلفات الأندلسيين المغاربة.
فقرات من خطبة الأمير محمد على في أعضاء جماعة الاتحاد السوري في نيويورك
” لست ممن يودون المعيشة الهادئة بدون أداء واجبات الأمة، لأني أرى عدم الالتفات إلى هذه الحقوق المقدسة من أكبر الذنوب وأعظم العيوب والنقائص. إن مهمتنا ليست في الحقيقة من الصعوبة بمكان أن اجتمعت كلمتنا وقويت الإرادة في الحصول على المركز العالي الذي نريد أن نختاره بين الأمم. والطريقة الوحيدة التي أعتقد أنها توصلنا إلى غايتنا هي أن يعتقد كل فرد منا أنه قادر على خدمة بلاده بصدق وأمانة، يتحمل الصعوبات مهما كبرت، والمشقات مهما كثرت”.
الأمير يتحدث عن انحيازه للآداب الشرقية، والأخلاق الإسلامية
” إن التهتك والتبرج بلغا أقصى غايتهما، ومما يملأ القلب أسفاً إن ذلك لم يبق مقصوراً على البلاد الغربية فإنه أخذ يتسرب إلى بلادنا وينتشر فيها بسرعة مدهشة، فأين آدابنا الشرقية وأخلاقنا الإسلامية، إني أرى إهمالاً شديداً في المحافظة على عوائدنا القديمة، وقد التبس الأمر على الشرقيين في فهم معنى الحرية وأساؤوا التصرف في الانتفاع بها وتذرعوا بها إلى هتك حرمة الآداب وتقويض دعائم الأخلاق الكريمة، ولو تيقظوا لعلموا أن الحرية حق من حقوق الرشيدين من عباد الله جل شأنه، منحهم إياها ليتسعينوا بها على تنظيم أحوالهم وترقية شؤونهم واستعمال مواهبهم فيما خلقت لأجله والتمتع بما أباحه الله لهم، فليس في معنى الحرية الخروج عن حدود الآداب وخرق سياج الفضائل، فإن ذلك سائق إلى مهاوي الهلاك”
الأمير يتحدث عن التطور الدلالي لكلمة الحرية
” إن كلمة حرية كان يقصد بها أولاً تخليص الإنسان من أطوار العبودية والرق يوم كان القوى يتغلب على الضعيف فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ويسخره في مصالحه كحيوان أعجم مملوك له يتصرف فيه كيفما شاء، فلما استنارت العقول رأت أن ليس لمخلوق حق السيادة على آخر، وإن كل عبودية من الإنسان للإنسان حطه ودناءة وإن الإنسان سيد نفسه إلا أمام خالقه، ولا تفاضل بين بني آدم إلا بمقدار ما لهم من المدارك وفضائل الأخلاق ومحاسن الآداب. هذا هو معنى الحرية التي جعلها الحق جل شأنه من حقوق عباده، وهي بهذا المعنى أكبر أركان سعادة الإنسان، فيها يحيا العدل ويموت الظلم، وبها يتخلص الإنسان من قيود الذل إلى بحبوحة العز، بها تكون للحياة قيمة، وبدونها لا معنى للحياة، فإذا خرج الإنسان بالحرية عن هذه الدائرة إلى انتهاك الحرمات والانغماس في الشهوات، وإطلاق العنان للنفس، انقلبت إلى حرية العجماوات السائحة في بواديها، فهام في ظلمات الضلال، وإذا كانت هذه الحرية المطلقة هي غاية المدينة الحديثة فجدير بها أن تسمى همجية.
عثمان مرتضى يستعرض في مقدمته رأي الأمير في الدين والمدنية
” ظهر في الشرق مدنيات كثيرة ترجع كلها إلى مصدرين: أحدهما رقي تدريجي وراثي في الهيئات الاجتماعية. وثانيهما: رقي منبعث عن الفكرة الدينية. ” فمن النوع الأول مدنية المصريين القديمة التي من أهم مميزاتها رقي الفكر وتوجيهه إلى إتقان الصناعة واتجاه العقول إلى نور العلم في عصور مطبقة الظلام. ومن الأول كذلك مدنيات اليونانيين المقتبسة من المدينة المصرية ثم مدنيات الآشوريين والفينيقيين والقرطاجنيين. “أما مدينة النوع الثاني فقد ظهر في الشرق ثلاثة خضع لمبادئهم الدينية القسم المتمدين في العالم. ظهر أحدهم في مصر وهو موسى على ه السلام، أرسله الله تعالى ليضع للعالم القوانين التي تلائم ذلك العصر هداية من الخالق ونوراً لبني البشر. وظهر الاثنان الأخيران في الشام وبلاد الشام. أحدهما عيسى على ه السلام، أقام للناس قبساً سطع نوره حتى بهر العالم إذ كان سراج هذا القبس مستخرجاً من معدن الآداب العالية والأخلاق الكريمة هداية كذلك من الخالق ونوراً لبني البشر أجمعين. ” ثم ظهر بعده هذا العربي الهاشمي الذي فاق الأنام في علو المدارك وسمو الأفكار. كما كان أكبر وأقوى من خدم الإنسانية بأسرها بإرشاد الناس بالحكم القويمة والتعاليم الراقية الكريمة التي بعثه الله لنشرها في كل الكون سلاماً وبركة ورحمة للعالمين.
اعتزاز الكتاب بروح الإسلام
” بزغ نور [تعاليم الإسلام] من سماء بلاد العرب ثم انتشر في أرجاء آسيا، وسرعان ما انتقل إلى أفريقية الشمالية مبتدئاً بمصر ماراً ببلاد المغرب مجتازاً بحر الروم حتى وصل إلى أوروبا من مطالع الأندلس. ففك المقول من أسرها، وأرشدها إلى أن لها حقوقاً وعليها واجبات، وأضاء لها مناهج الحياة العلمية والعملية، وعلمها كيف نتيجتها فخرجت بذلك من الظلمات إلى النور ومن الموت إلى الحياة بتلك الروح الجديدة روح التمدين الإسلامي والزكاء الشرقي. طافت هذه الروح على البشر منذ ثلاثة عشر قرناً تدعو الناس إلى الإخاء والتعارف بين جميع أفراد المعمور على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وتباين مذاهبهم ومشاربهم، وتدعوهم إلى التضامن الإنساني في كل أطوار حياتهم. وتدعوهم إلى جعل العدل أساساً لمعاملاتهم الاجتماعية والسياسية كما تدعوهم إلى استعمال الرحمة والحنان. حاثة على مكارم الأخلاق حاضة على التمسك بوسائل العمران، وقد رسمت لهم طريقاً جديداً لم يسبق له مثال في السواء والسهولات [أي التسيرات، والسهولات جمع سهولة] وتقريب المسافة في تحقيق وصول الآمال للسعادة الدنيوية والنعيم الأبدي.
تنادي تلك الروح الجنس البشري بأعلى صوتها: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. وتقول لهم: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وتقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. كما تقول حاضة [أي: محفزة] على الحركة والعمل: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإن سعيه سوف يرى. وتقول مهبط تلك الروح صلوات الله على ه واطلبوا العلم ولو بالصين وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
نهضة الغرب لم تحدث الا بعد اتصاله بالشرق الإسلامي
دين كله تعارف وإخاء وعدل وعلم ورحمة وحركة وعمل وفكر وتنبيه كان من شأن انتشاره في أرجاء الدنيا أن تيقظ لحكمه الناس أجمعين، المؤمنون به وغير المؤمنين وليس من الغريب إن هذه الحركة الإسلامية كما مدنت الشعوب المتبربرة وأكسبتهم مدنية أقر لهم بها التاريخ كان لها صدى في الغرب الذي كان حينذ تائهاً في ظلمات الجهالة، غارقاً في لجج الهمجية، لا يبصر الضوء إلا من سم الخياط ولا يتنسم الحياة إلا من مطالع الشرق لأن تلك الحركة الإسلامية لم تجيء لتخلص بمزاياها أقوى معينين بل هي جاءت لسعادة الإنسان من حيث هو إنسان. ” أفاقت [ يقصد: أيقظت ] كل هذه الحركات التمدينية الشرقية الغرب من رقدته الطويلة التي كان تائهاً فيها، كما أيقظت عزيمته التي طال على ها الفتور فارتحل النشيطون من أبنائه إلى بلاد المشرق واغترفوا من بحاره العذبة ومناهله الرطبة كل ما كان غريباً منهم مجهولاً لديهم من أنواع المصنوعات والحرف وأخذوا من ذلك الحين يشمرون عن ساعد جدهم مشتغلين على الأخص في الماديات متنقلين في الصناعة والتجارة والزراعة والملاحة من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن ومن كامل إلى أكمل.
” سار الغرب على هذا النمط المرغوب فيه جداً في جميع مرافق الحياة الضرورية والحالية والكمالية حتى نال من المنعة والقوة والسلطان الدرجة التي هو على ها ألان وسبق الشرق في الماديات بعد أن كان مسبوقاً، وساده بعد ان كان مسوداً وحقق الحكمة الشرقية لكل مجتهد نصيب … ” ” وعجيب إن الغرب في سيره إلى الحضارة لم يطرق إلا نفس الطريق الذي بذل الشرقيون وأجدادهم الكرام مهجهم الغالية في تمهيده وتنسيقه، وهم لوقوف الفكر الشرقي عند الحد الذي وصلت إليه مصنوعاتهم ومتاجرتهم وملاحتهم وعدم تقدمهم فيها إلى الإمام بنفس الخطى السريعة التي خطوها في الأدبيات بوجه أعم، وفي علوم الفلسفة والبلاغة والمنطق وعلم الكلام بوجه أخص، مضافاً إلى ذلك تفريط الخلف في المحافظة على متروكات السلف سيما الماديات منها كانوا قد ضلوا عنه وجعلوا غيرهم من هؤلاء الغربيين الذي كانوا وراءهم فيه بمراحل يسبقونهم إليه واكتفوا بقبول تعويض بسيط تاريخي عما فقدوا بأن نالوا من الغربيين إقراراً لهم بفضل السبق على هم فيه.
تفسيره لسبب تأخر الشرق
” كبا [تأخر] الشرق في الماديات أو وقف ساكناً عند حد جهاد أبنائه الأولين. وخصص النفيس من أوقاته الغالية في الاشتغال بتلك الأدبيات مهملاً الماديات التي على ها قوام الحياة، والتي هي موارد الثروة الحقيقة، فبعد أن كان مطلع شمس الفنون وينبوع الصنائع والعلوم، وبعد أن كان أستاذ الغرب فيها من غير مراء انقلب حاله من أحسن إلى حسن ومن حسن إلى سيء على العكس تماماً من الخطة العمرانية الحديثة التي اختطها الغرب لنفسه، بل أصبح الشرق يلتمس نوره من زهراء الغرب. كل ذلك لأن الشرق وجه التفاته للأدبيات دون الماديات التي أهملها كل الإهمال ولأنه خفف سيره إلى الأمام في وارد الرزق والثروة في حين أن الغرب كان ينهب الأرض نهباً طلباً للاتساع في الممتلكات والمقتنيات لا يعرف للقناعة حداً ولا تحجبه عن نيل غاياته ومطامعه شم الجبال ولا لجج البحار بل حملق [نظر بتمعن] إلى السماء يريد استخدامها أيضاً حتى خضعت لمشيئته الأرض وما فيها وما على ها” . ” بعد ذلك كان حقاً على الشرق أن يترك للغرب تراثه القديم تراث العز والسلطان تراث العلم والعرفان والثروة والسعادة في اليوم الذي تخلى فيه عن تلك الصفات والمميزات التي ضمنت له قديماً جمع هذا التراث.
” نعم نام الشرق نوماً عميقاً واستغرق فيه حتى أيقظه من أوروبا ومن أمريكا حركة قوية تحمل عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات براً وبحراً وهواء، وأرهقه مناد يناديه كيف حلا لك النومة وهو مر علقم و[كيف] لذّ لك الرقاد وهو السم الزعاف، ثم ذكره بنظرية تنازع البقاء وبقاء الأنفع فلقي هذا الصوت في بلاد اليابان آذاناً صاغية وقلوباً واعية في أمة نشيطة كانت خير مثال يتمنى كل شرقي أن يحذو حذوه وأن يتبع خطاه. “رن هذا الصوت في مصر فتداركه هذا الرجل الكبير الجليل القدر المعدود واحداً من اثنين نبغاً في عصره. هو الحاج محمد على باشا رئيس عائلتنا المصرية الملوكية الكريمة فالتفت للأدبيات والماديات على السواء، ووجه لهما عنايته الفائقة النادرة المثال فانتشل الأمة مما كانت واقعة فيه من المهاوي السحيقة. فالمدارس أنشأها والإرساليات العلمية قررها وتعهدها،.. والترسانات والأرصفة والجسور والترع والقناطر وكل شيء حيوي في البلاد باشره بنفسه واستخدمه لقائده بلاده، والجيش والبحرية قوّاهما بعد أن رباهما على النسق الحديث المتين، وبأصالة حكمه وحسن درايته وطد الأمن في البلاد وافتتح القسم العظيم من الأقطار السودانية وضمها على بلاده العزيزة. وعليه فإن مصر مدينة بتمدينها الحديث لتلك العائلة الخديوية الكريمة، وتاريخ مدينتها الحديثة مقترن بتاريخ الحكم العلوي من غير مراء ولا نزاع على آخره إلى آخره.”