كان الأستاذ أحمد خاكي 1907- 1993 لفترة طويلة واحدا من كبار التربويين المصريين التنفيذيين والقياديين والموجهين وصناع البرامج التعليمية والمناهج التربوية، وهو واحد ممن يصدق عليهم القول بأنهم استطاعوا حماية مؤسسات التعليم المصري من هزات شديدة كانت متوقعة مع قيام ثورة ١٩٥٢ وتطوراتها الدرامية ثم مع معقبات مواقفها السياسية المتقلبة والمؤثرة تأثيرا سلبيا مباشرا على هياكل ومؤسسات التعليم. وقد فرض هذا الدور نفسه على الأقطاب التربويين في هذا الجيل بحكم الزمن، ونجحوا في أدائه فرادى ومجتمعين، وقد كان الأستاذ أحمد خاكي قد تخرج في مدرسة المعلمين العليا في الدفعة التي سبقت أولى الدفعات التي تخرجت من الجامعات المصرية.
وكان ممن عاصروه في الدراسة في هذه المدرسة العليا المتميزة ثلاثة زملاء وصلوا لموقع الوزير في عهد ١٩٥٢ وهم الأستاذ محمد فؤاد جلال أسبقهم إلى المناصب وهو الذى تولى وزارة الارشاد القومي في ١٩٥٢ ثم اصبح وكيلا لمجلس الامة، والأستاذ احمد نجيب هاشم المؤرخ المترجم الذي تولى وزارة التربية والتعليم في الإقليم المصري في اثناء الوحدة ١٩٥٨- ١٩٦١ وهو أعلاهم قيمة بفضل المؤلفات والترجمات التي أنجزها، والدكتور عبد العزيز السيد مدير جامعة الإسكندرية ثم وزير التعليم العالي ١٩٦١- ١٩٦٤ ثم وزير التربية والتعليم ١٩٦٧-١٩٦٨ ثم المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وهو اكثرهم نفوذا وحضورا كما انه وصل إلى عضوية مجمع اللغة العربية، أما الأستاذ أحمد خاكي فقد كان متميزا مع هؤلاء وعلى هؤلاء بالإتقان والتجويد، وقد سبقهم إلى ما لم يحققوا مثله فقد كان أول مدرس مصري يتولى تدريس اللغة الإنجليزية في التعليم المصري الثانوي في عهد البريطانيين وسيطرتهم وغطرستهم، وكان من الكتاب القادرين على طرح رؤى ذكية حتى إنه نال جائزة وزارة المعارف (1935) عن بحث له بعنوان «رسالة الأزهر في القرن العشرين». كما كان يمتلك القدرة على ان يكون فيلسوفا تربويا على نحو ما نرى في آرائه.
وقد أتيح لي أن أعرف إنتاج هذا الرجل منذ مرحلة مبكرة حين كنت أعد دراستي الشهيرة عن مجلة الثقافة، كذلك كان الأستاذ أحمد خاكي بمثابة التربوي المصري الأكثر حظا في إدارة مكاتبنا الثقافية في بريطانيا والولايات المتحدة والعراق كذلك فلما حدث تأميم المدارس الإنجليزية عقب العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ كان هو المصري الذي وقع عليه الاختيار ليدير هذه المنظومة حيث عين مديرا لكلية النصر بالمعادي واستأنف أيضا شغله للوظائف التربوية الكبرى حتى احيل للتقاعد فتفرغ لتولى إدارة كلية النصر.
أشهر أعمال الأستاذ خاكي الأدبية هو ترجمة كتاب «رسائل من مصر» وهو كتاب من أهم كتب الرحالة الأجانب عن مصر اذ يتضمن مجموعة الرسائل التي بعثت بها إحدى السيدات الإنجليزيات إلى ذويها في بريطانيا
كانت النزعة الوطنية الأصيلة مسيطرة على وجدان هذا التربوي وعلى ما كان يكتبه على نحو ما ذكرنا من بحثه المبكر عن دور الأزهر وعلى نحو ما سنقرأ في هذه المدونة له مما نشره في مجلة الرسالة في مقال مهم تحت عنوان: قضية اللغة العربية في إبريل ١٩٣٨ معبرا عن فهمه الناضج والمتقدم لدور اللغة القومية في التعليم.
نشأته وحياته
ولد الأستاذ أحمد خاكي ١٩٠٧ وتلقى تعليما مدنيا متميزا من المتاح في عصره والتحق بمدرسة مدرسة المعلمين العليا في الفترة التي كانت الجامعة المصرية على مشارف بدايتها وعمل مدرسا بالأورمان الابتدائية (1929)، ثم ابتعث إلى إنجلترا (1931) وعاد ليكون، كما أشرنا، أول مدرس مصري يتولى تدريس اللغة الإنجليزية في التعليم المصري الثانوي، ثم نقل مدرسا بدار العلوم (1938)، وعمل مفتشا للغة الإنجليزية في الوزارة، ثم ناظرا لمدرسة بورسعيد، ثم وكيلا للبعثة المصرية في لندن (1946)، فملحقا ثقافيا في العراق (1949)، ثم في الولايات المتحدة (1950). ثم عاد الأستاذ أحمد خاكي وعمل كبيرا لمفتشي اللغة الإنجليزية (1955)، ثم تولى إدارة مدارس فيكتوريا، وعمل مديرا عاما للتربية والتعليم في جنوب القاهرة، ثم في الإسكندرية (1964)، ثم وكيلا للوزارة للعلاقات الخارجية والتعاون العربي والبعثات (1966) وهو أرفع المناصب التربوية في ذلك العصر فلما بلغ سن التقاعد تفرغ لإدارة مدارس فيكتوريا حيث يدين له كثير من زملائي بالفضل في تعليمهم وتعليم أبنائهم، وأذكر أني صحبت أستاذي الدكتور لطفي شهون لشأن من شئون أبنائه الذين كانوا يدينون بالفضل لهذا المربي العظيم فلما حدثته ونحن في الطريق عن الجانب الفكري لهذا المربي العظيم قال القولة المصرية المشهورة: لا عجب !، واردف فكرر ما كنا نتوافق عليه من ملاحظة الانحدار الذي كنا قد بدأنا نهوي فيه .
أشهر أعماله الأدبية
أشهر أعمال الأستاذ خاكي الأدبية هو ترجمة كتاب «رسائل من مصر» وهو كتاب من أهم كتب الرحالة الأجانب عن مصر إذ يتضمن مجموعة الرسائل التي بعثت بها إحدى السيدات الإنجليزيات إلى ذويها في بريطانيا، مصورة بذكاء ودقة ( لا تخلو من العنصرية بالطبع ) الحياة في المجتمع المصري في القرن التاسع عشر من وجهة نظر إنجليزية.
رؤيته لتعليم اللغة القومية
سنورد فيما يلي فقرات مطولة من مقال الأستاذ خاكي مع تصرفات يسيرة في الألفاظ بما يناسب لغتنا المستعملة الآن، ومع بعض التنسيق الذي يساعد إبراز فكرته الذكية التي لا يجوز لنا ولا يليق بنا ولا يمكن أيضا أن نتحفظ عليها بذرة واحدة من التحفظ او الادعاء أو التنظير أو التفلسف فالفكرة في ذكائها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار .
المهارة هي هدف التربية
يذهب [معظم] المربين في العصر الحديث إلى أن الغاية من التربية ينبغي أن ترمي إلى تدريب الطفل على أكثر أنواع المهارة التي [تتطلبها] حياته الحاضرة والمستقبلة، والتي تقتضيها الحضارة وطلب الرزق. بل لقد آمن الكثير منهم بأن الحضارة في نفسها تقوم على المهارة فحسب، وأن العصر الحالي يمتاز فيما يمتاز به بتلك الوجهة الآلية التي تلزمنا بها حاجات الحياة، وأن التقدم رهين بما تحسنه الجماعة من أنواع المهارة، وأننا لن نبلغ المثل الأعلى الذي يحدونا إلى التقدم حتى نتقن أكبر عدد منها
وليست قضية اللغة عندنا قضية ألفاظ فحسب، ولا هي قضية تراكيب، إنما القضية عندنا في كفاية تلك الألفاظ وهذه التراكيب. فهل استطاعت هذه أن تساير الحضارة الحديثة؟
ويذهب أصحاب اللغات إلى هذا الرأي فيما يتصل بتعليمها. فقد أمن هؤلاء على كل ذلك وزادوا عليه أن تعليم اللغات هو في نفسه ضرب من ضروب المهارة التي يجب أن [يكتسبها] المتعلم حتى يوفق بين نفسه وبين البيئة التي يعيش فيها. بل هو لا بد مرغم على كسبها إذا هو تطلع إلى لون من ألوان الحياة أزهى من ذلك الذي [اعتاده] آباؤه وأجداده. فاللغة عند هؤلاء شبيهة بالمشي أو الجري أو تناول الطعام أو إحسان الرماية أو الطيران. فهي لا محيص للناشئ من أن [يتلقفها] في بيئته، بل هو مجبول على تلقنها ما دام يرى أن حياته تقوم على الاجتماع بسائر الأفراد، وان اتصاله الفكري مع من حوله لا يستقيم إلا إذا تلقن لغتهم كتابة وقراءة وحديثاً. واللغة فوق ذلك مهارة سامية جديرة بالإحسان ولأنها تتحمل في اطوائها تراث المدنيات التي تحدرت إلينا، ولأنها – إذا كانت أجنبية – مفتاح لمدنيات أخرى تغلغلت في تاريخ البشرية نفسه واللغة بعد ذلك دليل على التقدم الفكري لأنها الوسيط الذي تتجسد فيه الأفكار والآراء.
علاقة اللغة بالمعاني
وليست اللغة من ذلك الوجه إلا رموزاً أطلقت على المعاني التي تتدفع في نفس الإنسان. وهي التي تسيطر على موارد تلك المعاني ومصادرها. فكل كسب لتلك المهارة التي نسميها (اللغة) إنما هو تحديد لغذائنا الفكري. وكل تحديد لتفكيرنا إنما هو فتح جديد للمنطق والفلسفة بل فتح لسائر العلوم فإذا كانت اللغة تفيض بالمفردات التي تصف كل فكرة دقيقة من تلك الأفكار، وإذا كانت ألفاظها قد تطورت مع الحضارة حتى كان كفيلة بأن تصف المعاني التي تنثال في خواطر المتحضرين، كان ذلك دليلاً على كفايتها في مسايرة التقدم العقلي.
تقييم مدى كفاية الألفاظ والتراكيب
وليست قضية اللغة عندنا قضية ألفاظ فحسب، ولا هي قضية تراكيب، إنما القضية عندنا في كفاية تلك الألفاظ وهذه التراكيب. فهل استطاعت هذه أن تساير الحضارة الحديثة؟ وهل استطاعت أن تنقل معانيها إلينا؟ ذلك ما نشك فيه ونحن نشك في شيء آخر غير ذلك. انه لا يمكن لغة أن تساير الحضارة أو الثقافة إلا إذا كانت مرنة تتسع لكل معنى حديث. وتلك المرونة التي تظهر بجلاء في لغة كالإنجليزية قد فقدت مكانها في لغة كالعربية. وهي قد فقدت مكانها في لغات أخرى قبل لغتنا [فهل لأنها ] قعدت عن أن تماشي الحضارة في تقدمها. وأخص ما تمتاز به الإنجليزية هو ذلك الاستيعاب الذي يظهر في كل وجه من وجوهها؛ فهي قد استوعبت ألفاظاً من كل قطر حلت فيه فئة من الإنجليز. وألفاظها [تواتي] المتحدث بها في كل موضوع يطرق، لكننا نتشكك كثيراً فيما إذا كانت العربية والإنجليزية سواء. فالعربية غير مرنة؛ وهي لغة تقليدية تتولى عن الألفاظ الدخيلة؛ وقد بدأت تساير الحضارة الحديثة منذ وقت قليل لما يكف لتغذيتها بألفاظ تطلق على المعاني التي [تتجدد] في كل ساعة من ساعات الحضارة
لم يكن لنا أن نذكر كل ذلك لولا أننا نؤمن بأن في اللغة استعدادًا لقبول كثير من الإصلاح. ولعل افعل إصلاح اللغة أن نبدأ بتفهم طرق التدريس التي من شأنها أن تجعل اللغة لغة أفكار ومعان قبل أن تكون لغة ألفاظ ومفردات، وتفهم طرق التربية التي تكسبها مرونة اللغات الأخرى. ويستطيع المعلمون أن يتغلبوا على تلك العقبات التي يلقونها إذا هم وجدوا أمة من أهل الرأي تجاهد معهم في هذا السبيل. على أننا سوف نكتفي في مقالنا هذا بذكر وجه آخر من علاقة اللغات، ثم بتحديد أغراضنا من دراستها.
إصلاح التعليم في مصر يتوقف على إصلاح أساليبنا في تعليم اللغة العربية
في كل الذي [ذكرناه] اكثر من دليل على أن عنايتنا باللغة ينبغي أن تحل عندنا المكانة الأولى بين مختلف المواد التي نعلمها. فهي حقيقة بالتقدير إذا تحدثنا عن أي مثل أعلى عالمي؛ وفي دراستها توحيد للمعنى السامي الذي ما زال يلعب بخيال الإنسانية، والتقدم الفكري رهين بالتقدم اللغوي، ولان اللغة أساس صالح لتلك المواد، ولأنها تتحكم في تلقينها وفي تلقنها، فإنا نرى أن إصلاح التعليم في مصر رهين بإصلاح أساليبنا في تعليم اللغة العربية وفي تغير وجهتنا فيما يختص بالأغراض التي نرمي إليها بل اللغة العربية متصلة وثيق الاتصال باللغات الأجنبية التي نعلمها اتصالها بتعليم المواد الأخرى. وإذا نحن نظرنا إلى تلك المواد نظرتنا إلى مجموعات متوافقة من الأفكار والمعاني استطعنا أن نرى كيف تحدد اللغة تفكيرنا، وكيف تواتينا المقدرة على تفهم تلك المواد إذا كانت اللغة مهارة مكسوبة أحسناها. فاللغة في مفرداتها وصيغها تكون وحدة عامة متصلة الحلقات مشتبكة الاطراف، وهي في نفسها نتيجة لنماء العقل ونشاط التفكير. وليست مفردات اللغة كما قدمنا إلا رموزاً للأفكار التي يلتف بعضها حول بعض في حياة الإنسان العقلية، والتي تتألف حولها كثير من شعاب الدواعي. وحين يدرج الناشئ في السنين الأولى من طفولته يكسب كثيراً من تلك الأفكار التي يحاول أن يعبر عنها، فما تزال حائرة تتردد في نفسه حتى تستقر في تلك الرموز التي تواضع عليها الناس، وتصبح بعد ذلك مادة للحديث والتفكير والكتابة، وتصبح سبيلا إلى تفهم التاريخ والجغرافية والطبيعة وغير ذلك.
اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة تختلفان في تقديرنا اختلافاً شاسعاً. الأولى صاحبة الأثر العقلي الذي يدفع بتفكير المتعلم إلى نواحي التقدم، والثانية تستمد وجودها كأداة للتفكير من اللغة الأولى
تشبيه الطفل بالإنسان الأول
لعل الطفل في حياته اللغوية يمثل الإنسان الأول في كسب اللغة واصطناع ألفاظها، فهو يتدرج في تعلمها من المحسوسات إلى المعقولات، وهو يحسن كل الإحسان أسماء المرئيات، لكنه يعاني غير قليل من الجهد في تفهم المعاني. وقد مر الإنسان الأول في مثل عصر الطفولة حينما كان العالم نفسه طفلاً، وحين دفعته الحاجة إلى أن يتعلم الأسماء كلها. وتعقدت اللغة في أطوار الإنسانية حتى انحدرت إلينا وهي على ما هي عليه من التعمق والإغراق؛ وحتى أصبحت دراستها تقتضي نصيباً كبيراً من الحس المرهف والتفطن الدقيق فلغة الإنسان إذاً وحدة في ذاتها تتألف من شتات من الجزيئات، ولغته الأصلية هي التي صاحبت تكوينه العقلي. منها يستمد أفكاره ومنها يكون صوره العقلية، بل هي التي توحي إليه ما توحيه الكلمات من حب وبغض وسرور وحزن. ففي ألفاظها كل المعاني التي تجيش بصدره، وفي أعطافها ما يحرك قلبه ويهز فؤاده. ولأن اللغة وحدة في ذاتها تجد بين لغة الإنسان الأصيلة وبين لغته الدخيلة أو الأجنبية كثيراً من الوشائج والأسباب، فلا يستطيع متحدث أن يعالج الكلام عن الثانية إلا إذا بدأ بالأولى، ولا يستطيع متعلم أن يقرب لغة أجنبية حتى يتخذ الأصيلة عوناً على تفهمها. فاللغة الأصيلة هي سجل الذي تتنظر فيه مراحل تفكيره، وهي المرآة التي تنعكس عليها حياته العقلية والحسية في وقت معاً
العلاقة بين اللغة الثانية واللغة الأولى
من أجل ذلك كانت اللغة الدخيلة [اللغة الثانية] عالة في أفكارها ومعانيها على اللغة الأصيلة [اللغة الأولى]، وكان حرياً بها أن تكون كذلك عند الناشئين؛ فالحق أن الأفكار والمعاني لا تعرف ألفاظاً تحدها في موضع ضيق تتقيد به؛ ولأن اللغة الأصيلة نتيجة لتفكير الإنسان، ولأنها ثمرة لتقدمه العقلي كانت خليقة أن تكون أساساً لتعليم اللغة الأجنبية كما كانت الأساس في الدراسات الأخرى، وخليقة أن تمتاز بالجلاء والوضوح، وان يعني بها المربون أول شيء لأنها تتدخل في تعلم اللغات الأخرى وفي إحسان العلوم، بل في نمو الإنسان وتفكيره
ولقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من الذين بحثوا دراسة اللغة وأخرجوه للناس كما لو كان كشفاً من كشوف العلم الحديث، وكانت الجمهرة من علماء التربية يرون منذ بضع سنين أن اللغات منفصلة، وان الإنجليزية مثلا لا تستقيم إلا إذا حسبنا تفكير الناشئ عن العربية في دروس الإنجليزية. وقد كان يشوب ذلك كثير من الخطأ، فلم يكن يعترف عقل المتعلم بتلك الحدود المفروضة التي ضربت عليه، وقد كان يخترق تلك الحدود، وكانت اللغة العربية تلتقي بالإنجليزية في تفكير الطفل مهما حاولنا المباعدة بينهما. وقام في السنين الأخيرة علماء مثل الدكتور (وست) صاحب الطريقة المشهورة يعترفون بتلك الصلة ويستعينون بها في تعليم الإنجليزية. وحدث على اثر ذلك انقلاب سريع في أساليب التعليم عندنا، وغدا للعربية وزن في تعليم الإنجليزية في الست السنوات الدراسية الأولى.
وعندنا أن موطن الإصلاح الأول هو اللغة العربية. وإصلاح مثل ذلك لن يتناول طرائق التعليم، ولا أساليب الدراسة فحسب بل لا بد له أن يتأصل في مادة التفكير التي يتغذى بها التلاميذ. إصلاح مثل هذا سوف تتأثر به الجغرافية والتاريخ والكيمياء والفلسفة والمنطق، وكذلك سوف تستقيم به طرق التدريس التي نجاهد في إدخالها على اللغة الإنجليزية. ولعلنا لا نغلو كثيراً إذا قلنا انه أساس كل إصلاح آخر.
أهداف تعليم اللغات
ولأن يكون كلامنا محدداً، و[كي لا] نخلط بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة، نرى أن نعالج الغرض [الهدف] الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة العربية والغرض [الهدف] الذي ينبغي أن نلتزمه في تعلم اللغة الإنجليزية فإذا كان بين اللغة الأصيلة واللغة الدخيلة مثل تلك الصلات الفكرية، فإن بين الاثنتين فروقاً تحدد السبل التي نتخذها في تعليم كل منهما.
١ـ فللغة كما قدمنا آثار تختلف على حياة الإنسان لها أثر عقلي عميق يكاد يحكم نمو إدراكه وتطور تفكيره.
٢ـ ولها بعد ذلك أثر حسي يتصل اتصالاً وثيقاً بفكرة الجمال التي يكسبها من الشعر والأدب.
٣ ـ ثم إن لها أثراً عملياً أو نفعياً يغير منه في حياته كأي مهارة أخرى.
وهذه الأنواع الثلاثة من الآثار [الأهداف] هي التي تختلف على متعلم اللغة إذا أحسنت تنشئته على الأصول النفسية التي جهد في استنتاجها الذين أوتوا العلم من المعلمين والمربين.
تعليم العربية عندنا يقتصر على تلقين ألفاظ غير محددة وهو يخلو من الرياضة الجمالية التي ينبغي أن نرمي إليها
علاقة الأهداف باللغة العربية أو باللغة الأجنبية
في حديثنا عن اللغات يجب أن نفرق بين هذه الآثار وارتباطها باللغة العربية أو باللغة الأجنبية. أما اللغة العربية فإنه يتمثل فيها كل الآثار التي ذكرنا. لها أثر عقلي يصاحب الإنسان عند النشأة الأولى ويلازمه في كل طور من أطوار حياته، ولها كذلك اثر حسي يمحضه الشعور بالجمال ويفيض عليه كثيراً من ألوان السرور، ولها اثر ثالث عملي لأنهما وسيلة الكتابة والحديث بين الأفراد والجماعات. أما أثر اللغة الأجنبية عندنا فهو نفعي أو قل عملي. حقاً قد يكون لها أثر عقلي إذ تتدخل في تربية الإنسان ونمائه، وقد يكون لها أثر حسي إذا أحسن تعلمها. ولكن وجهها النفعي أوضح وجوهها، وإنما يتعلم المرء اللغة الأجنبية لتكون صلة بينه وبين فروع المعرفة التي اتسعت لها، وحسبه أن يحسن قراءتها. ولعلها تصبح مادة زاخرة توحي إليه العواطف، وربما أصبح بينها وبين تفكيره صلات ولكنها على الحالين لن تدرك ما تبلغه لغته الأولى التي درج عليها والتي كانت أقرب إلى عقله وقلبه ووجدانه.
فاللغة الأصيلة واللغة الدخيلة تختلفان في تقديرنا اختلافاً شاسعاً. الأولى صاحبة الأثر العقلي الذي يدفع بتفكير المتعلم إلى نواحي التقدم، والثانية تستمد وجودها كأداة للتفكير من اللغة الأولى. واللغة الأصيلة ذخيرة تتجلى فيها آيات الجمال بما في تراثها من أدب وحكمة، وتنبلج فيها بدائع الشعر بما تتحمله من وحي والهام. أما الثانية فلن تبلغ هذا الأثر إلا إذا أحسنها المتعلم كل الإحسان؛ وليس يبلغ ذلك إلا الخاصة الذين لا يقعون للمعلم في حسبان. وهي عند كافة المتعلمين بعيدة عن نطاق الجمال والإلهام غير قريبة من مواطن التفكير الدقيق أو جادة التفطن والتفصيل. واللغة الأصيلة واللغة الدخيلة بعد كل ذلك جديرتان أن نحسنهما قراءة ومطالعة، لأن إحسان قراءة الأولى واجب حتم، ولأن قراءة الثانية هو سبيل الاتصال بحضارة أصحابها.
الاختلافات في الأهداف من تعلم اللغات
في حديثنا عن آثار اللغات مواضع نتعرف منها الغاية من تعلم اللغات كل منها على حدة، فالمطالعة أو قل القراءة المستوعبة هي الغاية من تعلم اللغة الأجنبية، لأن إتقانها هو السبيل إلى فهم ما يكتب فيها، ولأننا في تعليمنا اللغة الأجنبية نرمي إلى أن نفتح للمتعلم أبواب تلك اللغة حتى يتصل بثقافتها. نحن نتعلم اللغة الإنجليزية لنقرأ مؤلفاتها، ونحن نحسن الفرنسية لكي نلم بحضارة الفرنسيين؛ وليست الفرنسية ولا الإنجليزية إحداهما ولا كلتاهما بضرورة لازمة لحياتنا العقلية أو لتربيتنا النفسية؛ وإذاً فيجب أن تدور جهودنا في تعليم إحدى هاتين اللغتين حول تلك الغاية المثلى: يجب أن تدور حول المطالعة لأنها الغاية النفعية التي تحدثنا عنها. وليست الكتابة ولا الخطابة ولا تذوق الأدب بما فيه من قصص وتمثيل من شأننا في تعليم الإنجليزية، فإذا جاء كل هؤلاء فإنما يأتي بعد المطالعة لا قبلها
أما اللغة الأصيلة – وهي العربية عندنا – فينبغي أن تكون الغاية من تعليمها فوق ما ذكرت. إن القراءة جزء من الغاية التي ننشدها إذ نعلمها. نحن نعلم العربية لنخرج مفكرين يحسنون تصور الكلام ويجيدون التعبير عما في نفوسهم. بل يجب أن نعلمها حتى يتذوقوا التراث الأدبي الذي تزخر به اللغة نفسها. وإذاً فدراسة العربية ينبغي أن تكون تدريباً فكرياً وتدريباً نفسياً وتدريباً عملياً أيضاً، وتتشعب هذه الأغراض وتتعقد ويكون من مظاهرها الكتابة والقراءة والخطابة. ولكل من هذه الغايات أصول تمتد إلى أعماق الفكر وتتصل بأطوار النفس.
أما الأغراض التي نرمي إليها اليوم فهي قاصرة لأنها تقف عن أن تدرك كل تلك الغايات، إن تعليم العربية عندنا يقتصر على تلقين ألفاظ غير محددة وهو يخلو من الرياضة الجمالية التي ينبغي أن نرمي إليها. أما وجهتها النفعية فهي لا تعلو إلى أن تكافئ حاجات كل يوم فضلاً عن حاجات النفس العميقة. ولا يستطيع معلم أن يقول إنه يتجه اتجاهاً فكرياً في تعليم الألفاظ ولا إنه يصطنع الدقة في تلقينها إلا قليلاً. وأغراضنا إذاً من تعليم العربية كما نعلمها الآن غير واضحة. وهي في الحق شعبة من اتجاه الكتاب والمفكرين عندنا عامة. ولكننا نلخص الأغراض التي يجب أن تحل عندنا في التدريب العقلي أولاً وفي الرياضة الجمالية الحسية ثانياً وفي الانتفاع بها ثالثاً.