كان فوز الشيخ على الخفيف بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية فاتحة خير لعلماء الأزهر وعلماء الدين على وجه العموم، فقد كانت موجة سيطرة اليسار على الثقافة في عهد الرئيس عبد الناصر لا تسمح بتكريم هؤلاء العلماء على أنهم علماء باعتبار العرف السري القائل بأن الدين نقيض العلم، والعلم نقيض الدين، لكن طبيعة عهد أنور السادات التي بدأت في جبر الكسور، ولم الشمل، وتقدير المظلومين، والاعتراف بالمجتمع الواحد انتبهت إلى معالجة هذه الجزئية، خطوة بعد خطوة، وجاء الانتباه بطريقة طبيعية تحتاج منا بعض الاستطراد التاريخي الذي سنعود بعده إلى علماء الأزهر.
يتعلق الاستطراد بأساتذة الاقتصاد الحقوقيين الذين كانوا حريصين كل الحرص على إثبات ما يصور مكانتهم المتقدمة في المجتمع، بعد أن كادت هذه المكانة تضيع مع تقدم كوادر أساتذة كلية التجارة وزحفهم الواثق إل المناصب العليا وفي مقدمتهم العميد الدكتور عبد العزيز حجازي الذي وصل إلى رئاسة الوزارة في 1974 بينما توقف أساتذة الاقتصاد في طريق السلطة عند محطات اعتبروها كما يعتبرها التاريخ المصري المعاصر أقل من رئاسة الوزراء، حتى مع وصول أحدهم وهو الدكتور محمد لبيب شقير إلى رئاسة مجلس الأمة في 1969 كأول مدني يصل إلى هذا المنصب في عهد الثورة، إذ أنه سرعان ما انحاز إلى الجانب الذي انهزم في صراع القوى في مايو 1971.. وكان الدكتور رفعت المحجوب الذي توقف هو الآخر عند منصب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي أكثر هؤلاء الأساتذة حماساً للسلطة وشبقا بها وتحرقا إلى احتلال أية مكانة متقدمة في المجتمع وبخاصة أنه كان الثاني عاى الدفعة التي كان أولها هو الدكتور لبيب شقير الذي وصل لمنصب الوزير منذ بداية الستينيات بينما بقي الدكتور المحجوب يتربص بنفسه .
ولأننا نعرف أن للتاريخ منطقاً غير منطق السلطة وأن هذا المنطق يتغلب على منطق السلطة حتى في الحياة فقد جاء مجد الاقتصاديين على يد واحد منهم كان المعهم بالفعل وأسبقهم إلى مواقع التأثير والنفوذ حتى بعد أن غلبت شخصيته العامة شخصية الأستاذ وشخصية المتخصص فيه، وهو الدكتور محمد حلمي مراد (1919 ــ 1998) فقد وصل هذا الرجل إلى منصب مدير جامعة عين شمس في 1967 (وقبلها كان قد تولى منصب وكيل جامعة القاهرة في 1964) ثم خطا خطوته المعروفة ليكون أول الوزراء الذين طعم به عبد الناصر نظامه الحاكم بعد هزيمة 1967 هم الوزراء الذين دخاول وزارة مارس ١٩٦٨ .
فلما استقال أو اقيل من الوزارة إقالته المدوية في 1969 وبدأت الدولة تضايقه حتى في توليه منصب دولي في بيروت، ازداد رصيده الشعبي، والثقافي، ولما بدأ الحديث عن أخطاء عهد عبد الناصر استدعى رجال الصحافة صورته وهو يدافع عن رأيه فيلقى التآمر من الحرس القديم، ولما بدأ الطريق إلى تكريم المظلومين من العلماء فكر واحد من أصحاب الفضل في أن يرشح الدكتور محمد حلمي مراد لجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، ولم يكن من الصعب أن يفوز بها لمكانته العلمية والشخصية، وهكذا أصبح الدكتور محمد حلمي مراد هو الفائز رقم 13 بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وفاز بها عن عام 1973. وكان الفارق في السن يومها بينه وبين من فاز بها في السنة السابقة على ه وهو الدكتور سليمان حزين عشر سنوات.
سرعان ما فتح فوز الأستاذ الشيخ على الخفيف الباب لعلماء الأزهر والمؤسسات العلمية المرتبطة به للفوز بالجائزة وإن كان هذا قد تم بمعدل أقل بقليل من معدلات كليات الحقوق بسبب ما نعرفه عن حرص الدولة العميقة على تقليل تمثيل الأزهر في مجتمعات الثقافة
لكن هذا الفوز دفع أساتذة الاقتصاد والآخرين أن يفكروا لأنفسهم في فوز شبيه به، واختمرت الأمور قليلا من الوقت وهكذا توالى على احتكار هذه الجائزة في ثلاث سنوات متتالية ثلاثة من أساتذة الاقتصاد في جامعة القاهرة ففاز بها الدكتور حسين خلاف (1913 ــ 1985) في عام 1978، وفاز بها الدكتور محمد زكي شافعي (1922 ــ 1986) في العام التالي عام 1979، ثم جاءت الفرصة مواتية في العام الثالث 1980 ليفوز بها الدكتور رفعت المحجوب نفسه ضمن أربعة فائزين في ذلك العام الذي بدأ فيه توسيع نطاق منح الجائزة لتكون أربع جوائز في العلوم الاجتماعية.
أذكر في هذا المقام أنني حين ذهبت لتهنئة الدكتور إسماعيل صبري عبد الله ١٩٢٥- ٢٠٠٦ بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية فإنه ذكر لي أن أكثر المتحمسين لحصول الدكتور محمد زكي شافعي على الجائزة كان هو الدكتور رفعت المحجوب إفساحاً للفرصة لنفسه في الترشيح التالي لأنه كان يعرف أنه من الصعب أن يفوز بها قبل الدكتور محمد زكي شافعي أو أن ينافسه فيها، ومن الطريف أن الدكتور إسماعيل صبري نفسه كان من حيث المولد والتخرج فيما بين الدكتورين محمد زكي شافعي ورفعت المحجوب، وقد كان من الطبيعي أن تصحح الجائزة مسارها فيما بين الاقتصاديين فلا تقتصر على الحقوقيين وإنما يأخذ التجاريون حظهم أيضاً وهو الأمر الذي سرعان ما تحقق حين انتبه ذوو الفضل إلى ترشيح الدكتورين عبد العزيز حجازي وعلي الجريتلي الذي فازا بالجائزة في العام 1982 أي بعد المحجوب بعامين مباشرة.
وهكذا سارت الأمور بعد ذلك حافظة حقوق التجاريين والحقوقيين، حتى حدث في عام 1993 أن فاز بها في نفس العام كل من الحقوقي الذي كان رئيسا للوزراء وهو الدكتور عاطف صدقي (1930 ــ 2005) وسلفه في رئاسة الوزارة الدكتور على لطفي (1936 ــ 2018) الذي كان رئيسا لمجلس الشورى في ذلك الوقت، وتصادف أن فاز معهم في نفس العام الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب.
نعود إذاً إلى فوز الشيخ على الخفيف بالجائزة في 1976 الذي سبق وفاته بعامين، فنجد أن ترشيحه لهذه الجائزة كان أمراً طبيعياً بين أساتذة الحقوق، بل إنه كان الأمر الطبيعي، وقد كان نظيره في المكانة العلمية وهو الدكتور محمد مصطفى القللي (1900 ــ 1972) آخر من رشح لها وفاز بها (1971) من أساتذة كلية حقوق القاهرة (وكليات الحقوق على وجه العموم) قبل الدكتور محمد حلمي مراد (1973). وسرعان ما فتح فوز الأستاذ الشيخ على الخفيف الباب لعلماء الأزهر والمؤسسات العلمية المرتبطة به للفوز بالجائزة وإن كان هذا قد تم بمعدل أقل بقليل من معدلات كليات الحقوق بسبب ما نعرفه عن حرص الدولة العميقة على تقليل تمثيل الأزهر في مجتمعات الثقافة ليكون في الحد الأدنى (عضو واحد فقط في المجلس الأعلى للثقافة) ومع هذا فإن بعض الترشيحات التي جاءت بعلماء الأزهر إلى مائدة التصويت لقيت التكريم الذي يستحقونه فبعد الشيخ على الخفيف بأربعة أعوام (أي عام 1980) فاز بالجائزة العلامة الشيخ عبد الجليل عيسى المولود عام 1888 وهو أكبر من فاز بالجائزة عمراً حتى ذلك التاريخ (92 عاما) محطما بذلك الرقم القياسي لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد( 86 عاما عند فوزه)، وللشيخ الخفيف (85 عاماً عند فوزه)
فيما بعد عامين أي في 1982 فاز المفتي السابق الشيخ حسنين مخلوف (1890 ــ 1990) بالجائزة في سن 92 عاماً أي في نفس السن الذي فاز فيه الشيخ عبد الجليل عيسى.. ثم جاء الفوز الطبيعي والمتوقع للشيخ أحمد حسن الباقوري أبرز وجوه الأزهريين في ذلك العصر (1985) وكان في الثمانين من عمره وللشيخ محمد الغزالي في (1991) وكان في الرابعة والسبعين من عمره أما الدكتور عبد المنعم النمر ففاز بالجائزة التقديرية في الآداب (1985) أي في العام الذي فاز فيه الشيخ الباقوري بالتقديرية في العلوم الاجتماعية وهي مفارقة تستحق حوارين الأول علمي والثاني مسرحي فلسفي لكنها في مصلحة الأزهر وتقدير قيمة علمائه، بيد أن الأمور عادت سيرتها الأولى منذ بدأت حياة الثقافة المصرية ترى نفسها غير جديرة تماما بالنمط الديموقراطي مع حنين معبر عن نفسه إلى الشمولية .
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا