الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف وهب #أحمد_شوقي حياته لطموحه في مملكة الشعر؟

كيف وهب #أحمد_شوقي حياته لطموحه في مملكة الشعر؟

كان أمير الشعراء أحمد شوقي ١٨٦٨-١٩٣٢ واعيا كل الوعي، ومستوعبا كل الاستيعاب وعاملا كل العمل من أجل أن يكون الشاعر الأول بين الشعراء، سواء وصف أو سُمي بأشعر الشعراء، أو ملك الشعراء، أو سلطان الشعراء، أو أمير الشعراء، ولهذا فإنه في مسيرته الإنسانية وآثاره الشعرية لم ينكر أبدا ما كان يوحي بأنه وضع هذا الهدف نصب عينيه، وعمل من أجله بالذكاء الفطري، وبالفطرة، كما عمل من أجله بالذكاء الصناعي، وبالخبرة، كما عمل من أجله بالذكاء الاجتماعي، وبالممارسة، كما عمل من أجله بالذكاء المعرفي، وبالتحصيل، وعمل من أجله بالذكاء اللغوي، وبالمعجمية، وعمل من أجله بالذكاء المكاني، والارتحال. والمتأمل لحياة أحمد شوقي وأشعاره والميادين التي ارتادها يستطيع أن يدرك بكل وضوح أن هذا الشاعر العظيم عرف أن العبقرية موهبة ودراسة ومثابرة ومتابعة واقتناص وأنها ليست موهبة ومصادفة فحسب.

 

يرى كثيرون من المهنيين وبخاصة زملائي الأطباء الذواقة أن أحمد شوقي صانع أو أنه صانع أكثر منه فنانا موهوبا، وهو حكم نابع من طريقة الأطباء في مناظرة ما رأوه وما لا يزالون يرونه من حالات الصحة والمرض من دون أن يستوعبوا أن هناك صوراً أخرى للحالات، وصورا أخرى للطبيعة ذلك أنهم يقرأون القصيدة من قصائد شوقي الذائعة والشائعة في المناسبات أو يسمعونها فيحكمون على ه بمثل هذا الحكم، وهو حكم مشرف لصاحبه، الذي استطاع أن يجعل من كل شيء شعراً بفضل الصناعة والصياغة مع احتفاظه أيضا بنصيبه من شعر الموهبة، كانت مناقشاتي مع هؤلاء الزملاء وقد تكررت كثيرا تنتهي إلى إقرارهم بموهبة شوقي الفريدة والبديعة، ثم إذا هم في حيرة من أمرهم: هل كان من حق شوقي الا يقول الشعر إلا فيما أثار عناصر الموهبة، أو دوافعها، ومن ثم فقد كان هذا التوقف حريا بأن نفقد ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة من شعر شوقي؟ أم أن شوقي كان رجل معطاء فأعطانا من الشعر ما يحتاجه تاريخه الأدبي والسياسي والمعرفي كما أعطانا من الشعر ما انفعل به وأراد أن يعبر به عما أوحى له به شيطان الشعر؟

 

يجدر بي في هذا المقام أن أستطرد استطراداً سريعا إلى ما كان شوقي يبذله من جهد في شعر الاحتفاليات ولنتفق أولا مؤقتا على أن نسميه الشعر الاحتفالي حتى تستقيم العبارات بدون لجوء إلى التسميات الطويلة من قبيل شعر المناسبات والمجاملات والأحداث.. الخ.. كان شوقي يريد من هذا الشعر أن يكون مصوراً لكيان الموقف الذي يتحدث عنه، ولهذا فإنه كان يجهد نفسه في رسم الملامح أو خلق إيحاءات من الصورة لهذا الموقف الذي يتحدث بشعره عنه قبل أن يبدأ في المديح أو التحية أو الرثاء أو العزاء أو الهجاء، ولهذا يغلب على ذوق أصحابنا الأطباء أن يسارعوا بوصفه بأنه شعر مصنوع وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه أجسام مضادة مصنوعة من أجسام أصلية.

شوقي كان قادراً على أن يخاطب كيانات عضوية من قبيل علم تاريخ الأنبياء، سائلا هذا التاريخ عمن سيكون له بعد النجار الذي أتقن تصويره بما فاق المصورين والمثاليين والرسامين

ولعل الحديث عن هذه الجزئية في حاجة إلى مثل بارز يبلورها، ولن أذهب بعيدا عما أتناوله بالبحث في هذه الأيام فبين يديّ قصيدة الشاعر على الجارم في رثاء أستاذه وصديقه المؤرخ العظيم الشيخ عبد الوهاب النجار، فهذه القصيدة التي سماها الجارم “جرح لا يندمل” قصيدة رائعة بكل المقاييس كما أنها تنتمي إلى الشعر العذب الذي تنتمي إليه بعض قصائد الشاعر الجارم.. لكننا حين نقرأ هذه القصيدة الطويلة التي يبلغ عدد أبياتها سبعة وسبعين بيتا لا نجد أي أثر للحديث عما هو متوقع من أسماء مؤلفات عبد الوهاب النجار ولا الموضوعات التي درسها، ولا الحقب التي ارتادها فأرخها، ولا النظريات التي ابتدعها ليفسر بها أحداث التاريخ، ولا الاكتشافات التوفيقية التي اهتدى إليها ذلك الأستاذ العظيم ليربط وقائع التاريخ التي ذكرها القرآن الكريم بتلك التي أشارت إليها التوراة وتلك التي تناقلها المؤرخون. أقول إننا لا نستطيع أن نقول إننا نجد في قصيدة الشاعر على الجارم أي أثر لميادين لإنجاز عبد الوهاب النجار والتي حققت له مجده كمؤرخ عظيم، على حين أن الشاعر شوقي لو أراد أن يرثي عبد الوهاب النجار (الذي توفي 1941 بعد شوقي بتسع سنوات) لفتح مؤلفات عبد الوهاب النجار وأخذ من عناوينها كثيرا من المفردات فضمنها حديثه عن الرجل ورثاءه له، بل إنه قد يفيض في هذا إفاضة لا تتطلب منه أكثر من اللجوء على العلائق المنطقية، وضبط الميزانين الشاعري والشعري، وهكذا كان بإمكان شوقي ان يقول مخاطبا النجار: وعرفنا بك ذا النون وذا النونين ، أو قرانا بك ذا النونين وذا النون، وأدركنا على يديك سر ذي النون وخبيئة اخناتون، أو وأريتنا سر بدر وشهداء اليرموك، وطفت بنا في الطائف وتبوك، وصورت لنا من سير يهود: عجلهم المخلوق، والجبل المنتوق … الخ.

 

بل إن شوقي كان قادراً على أن يخاطب كيانات عضوية من قبيل علم تاريخ الأنبياء، سائلا هذا التاريخ عمن سيكون له بعد النجار الذي أتقن تصويره بما فاق المصورين والمثاليين والرسامين، بل كان في وسع شوقي أن يصور من أعمال النجار سيمفونيات ذات الحان مختلفة، ثم يخاطبه بأنه أسمعنا من الأندلس لحنها الحزين/ ومن طيبة لحنها السكين (أي الساكن الهادئ) ومن منف لحنها الهجين.. وهكذا، لكن الأستاذ على الجارم شغل تماما بالإنسان عن الموضوع، فقد شغله الحديث عن الأستاذ النجار وجوهره ونبله وفضله عن أن يتحدث عن آثاره بينما لم يكن شوقي يفرط في خلق الموضوع والعمل على

 

هل بدا لك الآن أن هذا مدخل لا بد منه للحديث عن علاقة شوقي بالتاريخ، واستثمار التاريخ في شعره، أظنك لست بحاجة إلى أن نقول هذا لأنك قد تعرف أن شوقي كان أكبر شاعر استثمر التاريخ في شعره على نحو لم يتح حتى لشعراء الملاحم الكبار: الإلياذة والأوديسا والإنيادة والشاهنامة ذلك أنه لم يقيد نفسه بحقبة ولا جنسية، ولا حضارة وإنما انطلق كالعصر الحديث الذي عاشه يأخذ من كل الحقب والعصور ما يناسب حاجته ومواقفه من دون تقييد ولا ترتيب ولا استئذان، وباختصار شديد فإن شعراء الملاحم كانوا أشبه بمن يعملون أجراء أو موظفين عند التاريخ بينما قلب شوقي الآية وجعل التاريخ يبدو وكأنه في يده، يستدعيه، ويأمره، ويُطوّعه، ويستشهد به، ويشهد عليه!

يرى أستاذنا أبو غازي أن شوقي سار على نهج البحتري في إبداع المقابل الشعري للصورة التشكيلية، وفي إيداع هذه الصورة نبض الحركة والحياة

أنتقل من هذا المعنى إلى تعبير آخر عن هذا المعنى فأنقل له بعض ما أوردته من قبل في كتابي الانطباعات الذكية في كتابة تاريخنا الثقافي المعاصر من إثبات عبقرية الأستاذ بدر الدين أبو غازي في دراسة قدرة الشعراء والأدباء على استلهام الآثار الفنية في أعمالهم، في أربع دراسات رائعة، ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ بدر الدين أبو غازي في دراسته عن شوقي يقابل بين عناية شوقي بالتاريخ وندرة اهتمام حافظ إبراهيم به، ويذهب إلى القول بأن شعر شوقي كان سعيا دائما إلى إحياء التاريخ وآثاره، وهو يصل في تقدير عبقرية شوقي في الاهتمام بالتاريخ والآثار إلى قوله:

«وإذا كان شوقي في رثاء مكتشف آثار توت عنخ آمون قد قال في أبياته المعجزة إنه أفضي إلى سر الزمان ففضه، وسعي إلى التاريخ في محرابه، فإن شعر شوقي كان سعيا دائما إلى التاريخ، وإحياء لصوره وآثاره، هو حقا الذي طوي السنين القهقري حتى أتي فرعون بين طعامه وشرابه، وقلّ لشاعر أن يزخر شعره كما زخر شعر شوقي بهذه الصور، وعلي قدر هيامه بالماضي، وتعلقه بالآثار على قدر ندرة التفات حافظ إليها، كلاهما كان مرآة لعصره، ولكن شوقي حلق في الماضي البعيد، وجاب آفاق حاضره، أما حافظ فكان عصره ومحيطه شاغله».

 

وعلى صعيد آخر فإن الأستاذ بدر الدين أبو غازي لفت النظر إلى أن أحمد شوقي كان شديد الإعجاب بقدرة البحتري في صياغة الصورة الشعرية صياغة تشكيلية، وأنه كان يريد لشعره مجدا شبيها بمجد البحتري في هذا الميدان، ويستند أبو غازي في هذا إلى أن شوقي في رحلته إلى الأندلس كان حريصا على أن يبدي في تقديمه لقصيدته إعجابه بسينية البحتري في الإيوان ويشير إلى أنها تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار في بيوته بعد الاندثار: «فسينية البحتري كما قال صاحب الفتح، قد بقي بها كسري في ديوانه أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه».

 

ويرى أستاذنا أبو غازي أن شوقي سار على نهج البحتري في إبداع المقابل الشعري للصورة التشكيلية، وفي إيداع هذه الصورة نبض الحركة والحياة. وينبهنا أبو غازي في ذكاء شديد إلى ما يتمثل من موسيقي داخلية في شعر شوقي الذي تناول الأعمال التشكيلية بصدق فيقول: «وكأن الأثر التشكيلي يفرض على الشاعر نغمته، فلقصيده «أمام أبي الهول» فخامة الجهر، وجهامة الصمت، أما عند أنس الوجود فإن موتها البطيء يحرك فيه رومانسية الشجن الحزين، فيرسل بكائيته الفريدة” ” ولكن النشيد يرتفع بانبهار النغم في قصيدة «توت عنخ آمون وحضارة عصره»، فالشاعر كما قال «يزن الجلال ويستبين».

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com