الرئيسية / المكتبة الصحفية / كيف أثر القرآن في فن #أم_كلثوم؟

كيف أثر القرآن في فن #أم_كلثوم؟

كان دور السيدة أم كلثوم في الارتقاء بالفن العربي دوراً محورياً، وببساطة شديدة فإن دافعها إلى القيام بهذا الدور كان فطريا أكثر منه أيديولوجيا، وكان طبيعيا أكثر منه ثقافيا، وكان تلقائيا أكثر منه منطقيا. ربما يرتاع القارئ لهذه الموازنات الثلاث بين الأيديولوجيا والفطرة، والثقافة والطبيعة، والمنطق والتلقائية، وربما ينتابه القلق حين يجدني أنحاز إلى ما هو ابسط في مواجهة ما هو أرقى وأرفع، لكن هذه هي الحقيقة.

 

كانت السيدة أم كلثوم شأنها شأن كل موهوب تعشق التفوق، وكانت شأنها شأن كل من عرف التفوق تعرف أن استمرار التفوق يقتضي ارتياد آفاق متعددة للتجديد والتهذيب والترفيع والتفنن والزخرفة، وأن هذه الآفاق قد تتحقق بالآلة، وقد تتحقق بالتدريب، وقد تتحقق بالبشر أنفسهم، كما أنها قد تتحقق بالتنوع البالغ حد التنافر في بعض الأحيان، وقد تتحقق بالتعمق البالغ حد التعقيد في أحيان أخرى، وقد تتحقق بالتكرار كما أنها قد تتحقق بإعادة تقديم ما سبق تقديمه في صورة أخرى وبمنطق مختلف.. ومن الحق أن نقول إن السيدة أم كلثوم في ممارستها للأداء الفني قد لجأت إلى كل هذه الأساليب من باب التطبيق بل ومن باب التجريب أيضاً.

 

لن أكرر الحديث عن المراحل الخمسة التي أصور بها تطور الأداء اللحني لأعمالها من الطابع الموسيقي في ألحان القصبجي، إلى الطابع المسرحي في ألحان الفنان زكريا أحمد، إلى الطابع الملحمي في رياض السنباطي، إلى الطابع الاستعراضي في أعمال الموسيقار محمد عبد الوهاب، ثم إلى الطابع الأوبرالي في أعمال بليغ حمدي وإن كنت أحب أن أكرر القول بأن حكمي هذا على الرغم مما فيه من اختزاليه لا يبتعد كثيرا عن التعبير المكثف عن الحقيقة في شخصية الغناء الكلثومي، لكنني سأسارع بأن ألفت النظر إلى حرص السيدة أم كلثوم في النصف الثاني من حياتها حين استوت على القمة على أن تغني أشعاراً من كل عصور العرب الزاهرة في التاريخ، ومن كل بلاد العرب الحاضرة في المشهد، وأن تتطور أيضاً إلى التعبير اللحني والغنائي عن أشعار الشعراء المسلمين من غير العرب حين تعلو الفلسفة إلى آفاق يصعب حتى على المستمع (لا على المؤدي وحده) أن يعيش معها إلّا بنفس لاهث وعقل مشدود وقلب مضطرب على نحو ما نسمعها وهي تردد رباعيات الخيام أو بالأحرى على نحو ما نراها وهي تغني حديث الروح، وتبدأ بقولها التقريري الحاسم في الشطر الثاني من البيت الأول إن الأرواح تدرك هذا الحديث بلا عناء بينما الأبيات التالية تتضمن العناء كله ما بين هتاف حر وما يجاوبه به كوكب الأرض (المجرة).

فضل القرآن الكريم

وإذا أردنا أن نلخص سر نجاح أم كلثوم في كلمة واحدة فإن هذه الكلمة لا تخرج عن القرآن الكريم، وإذا أردنا أن نلخص السر في التفرد الذي تفرّدت به أم كلثوم في كلمة واحدة فهو القرآن الكريم أيضا، فقد عاشت أم كلثوم مع القرآن الكريم وعايشته طيلة فترة تكوينها كلها، وقرأت القرآن وأنشدت ما هو مُستمدّ من معانيه ومن ألفاظه، وقد تكفل القرآن الكريم بتهذيب صوتها ونطقها ولفظها وتلفظها ومخارجها ونغمها ونبرها فأما الصوت والنطق فأمرهما معروف، وأما اللفظ فله معنيان: المعنى المرتبط باللهجة الفصحى، والمعنى المرتبط باختيار اللفظ الراقي، وأما التلفظ فهو الحركة التي لا تستقيم لأحد مثلما تستقيم لقارئ القرآن الكريم.

وأما المخارج فإن معامل اللغات كلها لا تستطيع أن تدرب أحداً على نطق الحروف من مخارجها على نحو ما يفعل عريف الكتاب ولا نقول شيخ الكتاب، وذلك أن النص القرآني متميز فيما بين حروفه وكلماته المتجاورة بالاقترانات والانتقالات التي لا يمكن تحقيق ارتباطاتها على هذا النحو إلا بآلاف التمرينات الصوتية، وأما النغم فإن علوم التجويد تقدم ما لا تستطيع علوم اللغة في أي مكان آخر في العالم أن تقدمه من أحكام التنغيم والترخيم والتنعيم والتسهيل والإمالة كأحكام الغنة والإشمام والروم والمد والترخيم وقد تناولت بعض هذه الأحكام في مدونتي (ماذا نعرف عن التنقيط والتشكيل والإمالة والإشمام؟) وأما النبر الذي يُقصد به ما يعرف في اللغات الأجنبية على أنه Stress الذي يميز لغات ولهجات أوربية عن بعضها ويميز نطق العرب المغاربة عن العرب المشارقة فإن القرآن الكريم يتكفل بتسليقه (أي جعله سليقيا) على لسان قارئ القرآن.

 

بهذه المهارات في هذه الميادين السبعة للأداء الصوتي خرجت أم كلثوم إلى المجتمع الكبير متميزة إلى أبعد حدود التميز في صوتها ونطقها ولفظها وتلفظها ومخارجها ونغمها ونبرها، ولم يكن هذا هو كل أثر القرآن الكريم فيها لكنها تعلمت من تلاوة القرآن الكريم مهارات صوتية عديدة منها سلاسة الانتقال من مقطع إلى مقطع، ومنها اختيار مواضع الوقف والوصل، ومنها الإيحاء الذكي بما هو آت من النص التالي، ومنها التعبير عن الاستواء في المعنى والدلالة (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) والتفريع (فمنهم أمة..) والتقسيم البات (فمنهم شقي وسعيد) والمقارنة (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) ومنها التعبير الصوتي عن أساليب الالتفاف والاستئناف والاستثناء وصلة الوصل والتخاطب والتقمص والرواية والاعتراض، وختام الحديث، والإيحاء بالعبرة، وإجمال الأحكام بعد تفريع الطوائف، … الخ.

 

وخرجت أم كلثوم من مدرسة القرآن الكريم بما تعبر عنه المصطلحات الحديثة بأنه الموسيقى الداخلية التي لا يصل نص بشري إلى مستواها القرآني القادر حتى على التعبير الصوتي عما أسره سيدنا يوسف في نفسه على سبيل المثال، ارتبط أداء أم كلثوم في بداياتها بالقرآن الكريم والإنشاد المتصل به وهو إنشاد منضبط المعاني والنغمات يستهدف التعبير في المقام الأول قبل أن يستهدف التطريب، حتى وإن بدا مختلط الغايتين، ولهذا فإنها كانت قادرة على أن تكون بأدائها رائدة للموجة الجديدة من الغناء العربي الذي نجحت في أن تستخلص منه كل الزخارف الإضافية ونجحت في أن تستصفيه وقد استبقت له أفضل الزخارف الأساسية في إطار التعبير.

ذكاؤها في اختيار ما يعبر عن عبقرية الإسلام

أدعو الله أن يوفقني إن شاء الله لأنشر دراستي المتفحصة للأبيات التي استقر عليها اختيار السيدة أم كلثوم بمعونة الشاعر أحمد رامي من قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي في المدائح النبوية وكيف استطاعت أن تجتبي من هذه القصائد ما يتفاعل ويشتبك مع قضايا العصر الخلافية، وأن تبتعد عن الأبيات التي تناولت المعاني التقليدية التي لا تشتبك مع هذه القضايا، هل كانت السيدة أم كلثوم منتبهة إلى أنها تستعدي المتفلسفين من الاشتراكيين النظريين (الغلواء) حين تصدح بقول الشاعر أحمد شوقي الموجود في بطون الديوان فحسب فتجعله قولاً سياراً يتردد في النوادي وفي الحافلات المسافرة على الطريق، فإذا شوقي يقارن باقتدار مُعجز بين اتئاد النبي صلى الله عليه وسلم وشريعة الإسلام، وبين هوجة الشيوعية التي قدمت للعلاج دواء يخلق مرضاً اكثر من المرض الأصلي؟ ولنا أن تسأل أنفسنا: هل كان الرئيس أنور السادات (أو من كان أو من يكون في مثل وضعه) في حاجة إلى مرجعية فكرية للعدول عن إجراءات الشيوعية والتأميم والمصادرة والحراسة بأفضل من هذين البيتين اللذين تلقيهما السيدة أم كلثوم في الأسماع (ولا نقول على الأسماع) بسلاسة ويسر محققة أروع ما يمكن من التأثير الوجداني والفكري.

أستطرد هنا لما رويته كثيراً من أن الأستاذين الكبيرين عباس العقاد وطه حسين كانا يصرحان للصحفيين في سهولة تقترب من العلانية بأن الأستاذ سلامة موسى يهاجم السيدة أم كلثوم لسبب واحد هو أنها غنت “ولد الهدى فالكائنات ضياء”، وهذا صحيح، ولست أستطيع وقد بلغت من العمر ما بلغت أن اتجاوز عن إشارة خفيفة إلى أن بعض مذاهب المسلمين المحدثين لا يحبون الاهتمام بالمدائح النبوية، من دون أن يصرحوا بهذا بالطبع، ولا أن يفهم أتباعهم السبب الذي دفعهم إلى هذا التحفظ، إذ أنهم لا يعرفون أن مذهبهم في التدين قام على أفكار غير مكتملة أعجبت في بعض جزئياتها بما يبدو أنه من الإسلام بينما هو ليس من الإسلام، أدعو الله بالمغفرة والهداية لي، ولكل الموحدين .

أم كلثوم التي كانت ابنة لعصر الحرية والنهضة

لا أحب أن أقول ما يقوله الناس من أن السيدة أم كلثوم جاءت في وقتها تماماً، ولا أحب أن أقول إن السيدة أم كلثوم كانت ابنة عصرها تماماً، فهذان القولان يقصران عما أريد أن أقول، وهو أن السيدة أم كلثوم كانت هي ذلك العصر بنهضته وكبوته، وكانت هي نفسها ذلك العصر بروحه وراحته، كما كانت هي نفسها ذلك العصر بتطوره التاريخي من الطبيعة الهادرة المعطية عن سخاء إلى العطاء المنضبط المتوافق مع الزمن.

 

من الإنصاف لتاريخ حياتنا السياسية ولتاريخ حياتنا الاجتماعية والاقتصادية كذلك أن تشير إلى أن السيدة أم كلثوم لم تكن لتحقق النجاح الذي حققته منذ العشرينات لو انها كانت بدأت في الستينات أو السبعينات وما بعدها، ذلك أن مؤشرات نجاح السيدة أم كلثوم والاقبال على فنها كانت قد تحققت من خلال أرقام مبيعات الأسطوانات في سوق حرة لا تخضع لآليات احتكار القطاع العام ولا للذوق السياسي المتحكم في القطاع العام القادر على منع أي صوت من الأصوات أن يسجل شيئاً أيّ شيء. ونستطيع أن تتصور أن السيدة أم كلثوم لو ظهرت في الستينيات لعجزت أن تثبت نفسها من خلال المبيعات في سوق تسيطر عليه علاقات مطرب ذكي مثل عبد الحليم حافظ بكل المفردات المعروفة وغير المعروفة في العلاقات العامة، صحيح أن السيدة أم كلثوم كانت قادرة بذكائها على التوافق مع مجتمع مثل هذا المجتمع لكنها لم تكن لتستطيع أن تحصل على تلك الذروة من النجاح الحقيقي المجرد من حسابات الشللية والديماغوجية والأيديولوجية على نحو ما تحقق لها نجاحها في العشرينات.

 

من ناحية أخرى فإن السيدة أم كلثوم كانت تعبر عن ثورة 1919 التي وضعت المصري في موضع المسئولية من ناحية، وفي موضع القيادة من ناحية أخرى، ومن هنا كان اعتزاز الفنان محمود مختار النحات العظيم بصورتها كرمز لهذه الأمة، حين اختار الفلاحة المصرية لترتبط نهضة مصر بها، واختار شخصية السيدة أم كلثوم لتكون رمزاً وأيقونة لهذه الفلاحة، ولم يكن الدور الرمزي الكبير الذي لعبته السيدة أم كلثوم في الغناء بعيداً عن الدور الشبيه والمناظر الذي لعبه الأستاذ عباس محمود العقاد في حياة الكلمة ككاتب جبار على نحو ما سماه الزعيم سعد زغلول باشا، وبدون إفاضة في ذكر الرموز الأخرى المواكبة لهذه الرموز العصامية العظامية الثلاثة (الفنان محمود مختار والسيدة أم كلثوم والأستاذ عباس محمود العقاد) فإننا نستطيع أن نتصور مدى الألم النفسي الذي اجتاح السيدة أم كلثوم بوفاة سعد زغلول، وامتناعها عن الغناء بسبب هذه الوفاة، ثم وقوفها للغناء بعد مدة لتغني لذكرى سعد بعبارات لا يمكن للأدباء ولا للفن إلا أن يقف أمامها مشدوها خاشعاً مقراً بعظمة الفن والأدب والوطنية حين تتضافر على هذا النحو الذي خلق النهضة المصرية في أعقاب ثورة 1919 .

 

فضل المرجعية والمجتمع المتحضر

كان من أهم العوامل في نجاح أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما أن المجتمع الثقافي كان يملك من مقومات التحضر عوامل كثيرة، وأول هذه العوامل “المرجعية” ونحن نعرف على سبيل القطع أن الشيخ على محمود بعلمه وتفوقه ظل بمثابة الأستاذ الذي تعود إليه أم كلثوم ويعود إليه محمد عبد الوهاب على حد سواء.

 

وبالنسبة للموسيقى بمعناها العلمي فقد كان هناك صمام أمن يتمثل في وجود الدكتور حسين فوزي (1900 ــ 1988) بهوايته للموسيقى المدعومة بعلمه الغزير بها، وبقدرته على الحكم الصائب على الأمور والاجتهادات، وسأضرب مثلاً بسيطاً على ما كان يمثله وجود الدكتور حسين فوزي، وهو أن أم كلثوم تحمست ذات مرة لاختيار نشيد قومي مصري كان محمد عبد الوهاب قد شارك فيه، وكانا هما أصحاب السطوة في القرار، لكن الدكتور حسين فوزي حين رأس اللجنة التي تولت إصدار القرار أو البت في الأمر نبه إلى أن هذا النشيد مأخوذ عن نص أوروبي معروف، ومن ثم فإنه أنقذ وجه مصر، ووجه أم كلثوم، ووجه عبد الوهاب من مثل هذه السقطة.

 

وإذا كان الشئ بالشئ يذكر فإني لابد أن أذكر هنا ما سمعته بإذني من الدكتور حسين فوزي نفسه فيما يتعلق بالحملات المتجددة على محمد عبد الوهاب بسرقة ألحان بعينها وكنت قد ذهبت بملخصها إليه، لكن الدكتور حسين فوزي كان يعرف ويعلمنا ما يجوز اقتباسه وما لا يجوز اقتباسه. وعندما تجمع أعداء الموسيقار محمد عبد الوهاب وحصروا ما سموه سرقات عبد الوهاب، فإن الدكتور حسين فوزي كان من الإنصاف بحيث شخص ما لا يمكن أن يسمى بسرقة لأنه أصبح من التراث الإنساني القابل للنقل عليه وتضمينه بصورة او أخرى في هذا العمل أو ذاك. وقد كان من حسن حظي أنني عرفت الدكتور حسين فوزي عن قرب في سنواته العشر الأخيرة وعرفت منه هذه المعاني على وجه الدقة فيما يتعلق بالفن والأدب والنقد، وكل ما يمت للإنتاج العقلي والوجداني بصلة، وكان هذا الرجل العظيم محل تقدير واحترام كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ونحن نعرف أن ثلاثتهم من مواليد سنوات متقاربة فأم كلثوم ولدت في 1898 وحسين فوزي 1900 ومحمد عبد الوهاب 1901، ومن الطريف ان ثلاثتهم فازوا بجوائز الدولة التقديرية في الفنون في ثلاث سنوات شبه متتالية ففاز الدكتور حسين فوزي أولا في 196٥ ثم أم كلثوم في 196٦ ثم محمد عبد الوهاب في 196٩. وفي العامين الفاصلين بين فوز ام كلثوم وفوز محمد عبد الوهاب فاز المهندس حسن فتحي ١٩٦٧ والفنان يوسف وهبي ١٩٦٨.

 

ولم يكن الدكتور حسين فوزي وحده في هذا الميدان فقد كان هناك أيضا من هم من طبقة مؤسس معهد الكونسرفاتوار وعميده الأول المهندس العظيم أبو بكر خيرت (عم الملحن العظيم المعاصر عمر خيرت) وكان هو الآخر يحظى بالمرجعية والتقدير والاحترام.

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com