تمثل هذه القصيدة مفتاحا من مفاتيح فهم تاريخ مصر في عصر الليبرالية الذي أعقب ثورة 1919 فشاعرها بالإضافة إلى شاعريته كان من كبار موظفي الدولة الذين وصلوا في ذلك العام الستين من عمرهم وهو سن التقاعد، ولم يكن من أنصار الزعيم الوطني الذي يرثيه في القصيدة، ومع هذا فإن الشاعر يقدم لتاريخ أمته هذا العمل الفني والوطني الجليل، ولم يكن الجارم وحده يومها فقد نظم ثلاثة من الشعراء الكبار (العقاد وخليل مطران ومحمود حسن إسماعيل الذي كان أقربهم لرئيس الوزراء المرثي) قصائد موازية.
ومن الإنصاف للشاعر على الجارم أن نبدأ فنقول إن قصيدته في محمد محمود لا تقل في مستواها عن أخر قصيدة نظمها وهي قصيدته الحميمية في رثاء النقراشي بيد أن مرثيته للنقراشي باشا (1949) تبدو أكثر عاطفة وأكثر ترتيبا وسبكا من قصيدته في محمد محمود باشا (1941) التي كان الشاعر حريصا فيها على أن يحيط فيها بكثير من مقومات السياسة، ومن العجيب أنها لا تقدم محمد محمود في صورة شاعرية ولا برؤية شاعرية، وإنما هي تصور محمد محمود باشا على نحو لا يختلف أبدا عن الصورة الشائعة عنه، من دون أن تقصد إلى تعميق الحديث عن معنى من المعاني على نحو ما فعلت مرثيته للنقراشي بما فيها من عاطفة مشبوبة فرضها ما نعرفه من الغياب المفاجئ.
وبالطبع فإن هاتين القصيدتين مع جودتهما لا ترقيان في مستواهما البياني إلى قصائد الجارم نفسه في سعد زغلول (وهي قمة مدائحه ومرثياته ) لكنهما تقتربان بكل تأكيد من قصائده في النحاس باشا والشعراء شوقي وإسماعيل صبري وحفني ناصف والزهاوي، ففي تلك القصائد نجد الجارم يذيب نفسه وبيانه وخياله في موضوع القصيدة، وفي هاتين القصيدتين يواصل الشاعرالجارم ما أنجزه في قصائده الرائعة التي اشرنا اليها لتونا من قدرة رحبة على التصوير القوي الموحي ذي الأفق الإنساني الرحب الذي كان يمكنه بل يلزمه بأن يكفل لشعره أن ينحت تمثالاً ضخما، وأن ينصبه باقتدار ورشاقة على قاعدة منحوتة أيضا ببيانه الفذ، وذلك على نحو ما كان معاصره المثال العظيم محمود مختار يهتم بالتمثال والقاعدة معا، وكان الشاعر على الجارم يلجأ في هذا إلى كل ما هو قادر على استحضاره بحكم ثقافته وذائقته ووطنيته وانطباعاته.
ونحن نرى الشاعر الجارم في مطلع هذه القصيدة على غير عادته وعلى غير عادة الشعراء عامة يذكر اسم من يرثيه منذ البيت الأول ويختار له أن يسميه بابن محمود، وذلك لما اشتهر من اعتزاز محمد محمود باشا ١٨٧٧- ١٩٤١ بوالده محمود سليمان باشا، وهكذا فرض ذلك الوالد اسمه (كما فرض ظله ) فأصبحت القصيدة دالية القافية، وهي قافية ليست بالسهلة وإن كانت فيما لاحظناه محببة عند الشاعر الجارم، وعلى الرغم من الصعوبة في الحصول على مفردات تنتهي بالدال فإن المعجم الشعري للجارم كان قادرا على أن يزوده بالكلمات الجميلة، على نحو ما سنرى بالتفصيل في نهاية حديثنا عن هذه القصيدة .
يبدأ الشاعر على الجارم قصيدته سائلا عينه أن تجود بما تشاء فقد فقدت ابن محمود، الذي هو أشجع الرجال يوم النضال، والذي تعرفه الساحات، وتعرف المتعاونين معه والمتعاون معهم
و قبل أن نمضي في الحديث عن مضمون هذه القصيدة ودلالاته نذكر أنها تقع في 68 بيتا، وهو كما سنرى من الأرقام القريبة من متوسط أطول قصائد الجارم، وإذا كان الشئ بالشيْ يذكر فمما هو جدير بالذكر أن ترتيب قصائد الجارم في رثاء الزعماء السياسيين من حيث الطول كان على النحو التالي: رثاء سعد زغلول (90) رثاء الملك فؤاد (81)، رثاء النقراشي باشا (72)، رثاء محمد محمود (68) ومن الجدير بالذكر أن قصيدته في تكريم النحاس باشا (الذي عاش بعد الجارم 16عاما) كانت من 68 بيتا أيضاً . أما في رثاء الشعراء والمفكرين فإن ترتيب قصائده من حيث الطول، قصيدة خلود في حافظ وشوقي (99 بيتا) شوقي (84 بيتا)الزهاوي (81 بيتا)، عبد الوهاب النجار (77 بيتا)، محمد أمين لطفي (71 بيتا)، أبو الفتوح الفقي (69 بيتا) حفني ناصف (69 بيتا) عاطف بركات (68 بيتا) قاسم أمين (65 بيتا)
يبدأ الشاعر على الجارم قصيدته سائلا عينه أن تجود بما تشاء فقد فقدت ابن محمود، الذي هو أشجع الرجال يوم النضال، والذي تعرفه الساحات، وتعرف المتعاونين معه والمتعاون معهم، ويشهد له الحق بالحق والقدرة على إنفاذه، فهو الرجل الذي دعته مصر في أزمة من أزماتها وهي حيرى مبتئسه تعاني الهَوْل والسواد وليس لها إلا الإيمان والأبناء فاستجاب لها هو ومن كانوا معه. وعلى هذا النحو العمومي يتحدث الشاعر الجارم عن محمد محمود في أكثر من ثلثي قصيدته، وهي قصيدة مجيدة للتعبير عن السياق التاريخي كما نرى لكنها فيما يبدو صيغت على عجل حين كان الجارم نفسه مشغولا بأشياء أخرى كثيرة، وليس في هذا ما يعيب موهبة الشاعر ولا شاعريته فمن الواضح أنه كان في وسعه أن يُعيد ترتيب أبياتها من دون إضافة ولا حذف فيخرج منها قصيدة أخرى أكثر روعة من هذه القصيدة الرائعة، وعلى سبيل المثال فإن كل هذه الأبيات السابقة التي أشرنا إلى مجملها كان من الممكن أن تتأخر إلى قرب نهاية القصيدة، بعد أن يكون الشاعر قد رسم صورة الانسان في الزعيم محمد محمود وغذاها بالمديح الخاص الذي أضفاه على ه وألقاه في رثائه، ومن ثم تصبح هذه الأبيات الجميلة تأكيداً للمديح، أما أن يبدأ بها فقد بدت مع كل إعجابنا بها وكأنها من أبيات النسيب التي يبدأ بها الشاعر فيلقيها حتى يخضع له المعنى، مع أن المعنى مستقيم في طاعته كما سنرى في أبيات القصيدة، وعلى كل حال فإن هذه الأبيات الأولى حافلة كما أشرنا بمعاني كثيرة أجاد الشاعر الجارم التعبير عنها:
جُودِي بما شئتِ من ذوْبِ الأسَى جُودِي أوْدَتْ صُروفُ الليالي بابنِ محمودِ
أوْدَتْ بأشجعِ من حَفّ الرّعيلُ به يومَ النِّضالِ ومَنْ نادَى ومَن نودي
أوْدَتْ بمن تعرفُ الساحاتُ كَرّتَه إذا تنكَّبَ عنها كلُّ مَزْءود
ويشهدُ الحقُّ أنّ الحقَّ في يدهِ سيفٌ يروُعُ المنايا غيرُ مغمود
دعته مصرُ وللأحداثِ مَلْحَمةٌ والخطبُ ما بينَ تَهْدارٍ وتهديد
وأنفسُ الناسِ في ضيقٍ وفي كمدٍ كأنّها زفرةٌ في صدرِ معمود
حيرَى تلوذُ بآمالٍ محطَّمةٍ كما يلوذُ غريمٌ بالمواعيد
طارت شَعاعاً وهَوْلاً مثلما عصفت هُوجُ الرياحِ برملِ البيدِ في البيدِ
والجوُّ أكْلَفُ والدنيا مُقطِّبةٌ أيّامُها البيضُ من ليلاتها السّود
ومصرُ ليس لها حِصْنٌ ولا وَزَرٌ إلاّ الغَطاريفَ من أبنائها الصِّيد
لها سلاحٌ من الإيِمانِ تشرَعُه ينبو له كلُّم صقولٍ ومحدود
ثم يبدأ الجارم بعد هذا نوعا من تخصيص الحديث لشخص المرثي لكنه يجد أنه لابد له من يعاود الحديث عن الفريق وعن الجماعة، وليس من شك في أن ما يشرف أي ممدوح وأي مرثي أن تُحمد جماعته، وهو من ضمنها، لكننا بحكم أننا قراء ندرك أن لمثل هذا حدودا يفرضها تاريخ الشخص نفسه فقصيدة الرثاء في البداية والنهاية مخصصة لشخص واحد، وانظر إلى هذه الابيات حيث يبدأ الجارم بوصف محمد محمود بأنه خالدي العزم نسبة إلى خالد بن الوليد فإذا بالصورة تقوده إلى أوصاف الحرب والنزال، مع أن محمد محمود لم يكن رجل حرب ولا نزال وإنما كان رجل سياسة وإدارة، ومن الطريف أن الصور التي يقدمها الجارم في هذه الأبيات صور جميلة تستحق العناء الذي بذل فيه لكنها غير وثيقة الصلة بمحمد محمود باشا وانظر على سبيل المثال إلى قوله في البيت الثامن عشر” كم هشم الدهر من سني ليعجمهم” أو انظر إلى دلالة وألفاظ البيت العشرين كله:
فجاءها خالديَّ العزمِ في نفرٍ شمِّ الأُنوفِ صناديدٍ مناجيد
من كلِّ أرْوعَ عُنوانُ الجهادِ به قلبٌ ركينٌ ورأيٌ غيرُ مخضود
جاءوا يزاحمُهم عزمٌ وتفديةٌ كما تصادم جُلْمودٌ بجلمود
كأنّهم حينما شدّوا لغايتهم سهمُ المقاديرِ في قصدٍ وتسديدِ
صدورُهم بلقاء الهوْلِ شاهدةٌ والطعنُ في الظهرِ غيرُ الطعنِ في الجِيد
جادوا لمصرَ وفدَّوْها بأنفسهم والجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجود
كم هشمَّ الدهرُ من سنٍّ ليعجُمَهم ولم تزَلْ في يديْه نَضْرةُ العود
إن الذي خلق الأبطالَ صوَّرهم من ثَوْرة البحرِ أو بأسِ الصياخيد
يمشي الشجاعُ لحد السيف مبتسماً ويرهَبُ الغِمدَ ذُعراً كلُّ رِعْديد
ثم يتحدث الشاعر الجارم عن الأرزاق التي يقسمها الله سبحانه وتعالى، وكيف يعطي النفوس على مقدار جوهرها على حد قوله، ويصف الأبطال كما يصف المجد:
سبحانك اللّه إن تحرم فتزكيةٌ وإن تُثِبْ فعطاءٌ غيرُ محدود
تعطي النفوسَ على مقدارِ جوْهرِها ما كان لليثِ منها ليس للسيِّد
والمجدُ عَزْمةُ أبطالِ مسدَّدةٌ بريئةٌ النصلِ من شكٍّ وترديد
ويصل إلى ذروة الأبيات المتميزة في هذه القصيدة في البيت الثامن والعشرين الذي يقرر فيه أن العلا شأنه شأن الفاتنات له دلال يجعله يبتعد عنك كلما اقتربت منه:
وللعلا من صفات الغِيدِ أنّ لها دَلاً يروِّع تقريباً بتبعيد
ثم يتحدث الشاعر الجارم إلى محمد محمود باشا حديثا خاصا شبه مباشر يصف فيه إقبال من رضوا بزعامته على ه، وهو يشبههم بموج البحر، وهو تشبيه جميل لكنه يدفعنا إلى التحفظ على جماله لأنه يتضمن أن هؤلاء الذين يأتون غليه (في حالة المد) سيعودون عنه في حالة الجزر، ولا أعرف كيف فات هذا المعنى على استاذنا الجارم، وهو في بيت تال (31) يشير إلى مصاعب الطريق الذي سار فيه محمد محمود واتباعه فيجعلنا نتحفظ أيضا على الوصف الذي اختاره حين جعلهم يمشون في فيافي الشوك، وليس شرطا أن يكون السير في فيافي الشوط هو الدليل على الوطنية أو السياسة أو الحكمة أو التضحية! وعلى هذا النحو يمضي الشاعر الجارم حتى يصل إلى بيت من الأبيات المميزة هو البيت الرابع والثلاثون:
جاءوا إليك كموجِ البحرِ عُدَّتُهم رأيٌ أصيلٌ وصدرٌ غيرُ مفئودِ
فَقُدْتَهم غيرَ هيّابٍ ولاَ فَزعٍ إلى لواءٍ بحبلِ اللّه معقود
تمشي بهم في فيافي الشوْكِ معتزماً من يطلب المجدَ لا يبخلْ بمجهودِ
لا يستبيك سوى مصرٍ ونهضتِها فكل شيءٍ سواها غيرُ موجود
من يقصد النجمَ في على ا سماوتِه نأى بجانبِه عن كلِّ مقصود
وراءك الركبُ في يأسٍ وفي أملٍ لما يروْن وتصديقٍ وتفنيد
ثم إن الشاعر الجارم بعد هذا البيت يبدأ في تقديم بعض صفات زعامة محمد محمود الحانية (35) والقادرة على استشراف المستقبل (36) وهو يصوغ فكرة عبقرية بصياغة سريعة في بيت واحد كان كفيلاً له بمقطع كامل هو البيت السابع والثلاثون:
تحنو على ضعفِ من طال الطريقُ به حنانَ والدةٍ ثَكْلَى بمولود
وتلمَحُ الأفْقَ هل بالأفْقِ من نبأٍ وهل من الدهر إنجازٌ لموعودِ
وهل طيوفُ الأماني وهي حائرةٌ تدنو بطيفٍ من الآمالِ منشود
وبدلاً من أن يتعمق الشاعر الجارم المعنى الذي اجاد وصفه في هذا البيت فإنه يبدأ في الحديث المترقب عن مستقبل مصر في قلق، مجريا هذا السؤال على لسان محمد محمود حين عودته من المنفى الذي نفي إليه مع زعيم الأمة سعد زغلول أو هكذا نفهم من السياق التالي الذي يصور الفرحة بنجاح ثورة 1919 وصدور الدستور ومجيء زمن حرية الرأي (البيت 44) وإشراق الصباح:
وهل ترىَ مصرُ صُبحاً بعدَ ليلتها وهل تقَرُّ عُيونٌ بعدَ تسهيد
وهل لمعتَقلٍ في البحرِ من أملٍ في أن يَرَى قومَه من بعدِ تشريد
حتى بدت غُرّةُ الدُسْتورِ عن كَثَبِ كما تبدّى هلالُ العِيدِ في العيد
فأرسلتْ مصرُ بنتُ النيل من دمِها وَرداً تَزينُ به هامَ الصناديد
وصفَّقت لحُماةِ الغِيلِ تُنشدُهم من البطولةِ مأثورَ الأناشيد
والناسُ بينَ بشاشاتٍ وتهنئةٍ وبينَ شكرٍ وتكبيرٍ وتحميد
جاء الزمانُ فلا قوْلٌ بممتنعٍ على اللسانِ ولا حرٌّ بمصفود
وأشرقَ الصبحُ والدنيا مهلِّلَةٌ كأنّه بَسماتُ الخُرّدِ الغِيد
من ينصرِ اللّه لا جَوْرٌ يُجيدُ به عن الطريق ولا جَهْدٌ بمفقود
سيكتُبُ الدهرُ فليكتبْ فليس يَرَى إلا صحائفَ تشريفٍ وتمجيدِ
وبدءا من البيت الثامن والأربعين يبدأ الشاعر الجارم في الحديث الذي يرثي به محمد محمود والذي لو كان قد قدمه في بداية القصيدة لجاءت القصيدة كلها لتؤكد على ه فإن تأكيدها على المعاني التي قدمها عن محمد محمود كان أسهل بكثير، وهوعلى سبيل المثال يتحدث عن نشأة محمد محمود في بيت النبل والتضحية والآباء ذوي الأمر المطاع والرأي السديد.
نَمَتْ خلائقُه في بيتِ مَكْرُمةٍ في سُوحِهِ المجدُ فينانُ الأماليد
بيتٌ دعائمهُ نُبْلٌ وتضحيةٌ إذا بنى الناسُ من صخرٍ ومن شِيد
وسار في سَنَن الآباءَ متّئِداً أمرٌ مطاعٌ ورأيٌ غيرُ مردود
ثم هو يتحدث في أربع أبيات أخرى عن ثلاث سمات بارزة في محمد محمود هي الهمة (البيتان 51 و52) والفكرة (53)، والعزة (55 و56) حديثا شاعريا جميلا يقدم كل صفة من هذه الصفات في ثوب من التقدير بل التقديس الذي يكسب صاحبها مكانة من أرفع ما يمكن في العصر الذي عاشه، وهو يركز على صفة العزة التي يراها هو في محمد محمود بينما يشخصها كثيرون على أنها الكبر، وهو ينتصر لرأيه برشاقة الشعراء من دون أن يجهد نفسه في نفي ما يزعمه الآخرون، وإنما هو يُشخص ما يرونه بتفسير مختلف عما يذهبون اليه فيرى الكبر محمدة إذا كان فيه التسامي عما يودي بالعلا:
وهمّةٌ تتأبّى أن يُقال لها إن جازتِ النجمَ في مسعاتِها عودِي
تجرّدت لصعابِ الدهرِ واثبةً وَيْلَ المصاعبِ من عزمٍ وتجريد
وفكرةٌ لو تمشّت نحوَ معضلةٍ صفت مواردُها من كلِّ تعقيد
وعزّةٌ نظرت للكونِ مِن شَرَفٍ عالٍ يعِزُّ على رَقْيٍ وتصعيد
قالوا هي الكِبْرُ قلتُ الكبر مَحْمَدةٌ إذا تساميتَ عمّا بالعلا يودِي
ويستأنف الشاعر الجارم هذا الحديث الذي يزكي به شخصية المرثي من خلال صياغات تقليدية جميلة من قبيل تصوير انطباع الناظر إليه حين يرنو إليه فيغضي من مهابته، وبالإضافة إلى المهابة فإنه نفّاذ الذكاء، معتدل الرأي، قوي العزم، عزيز النصر، شريف الخصومة، كما انه مترفع عن الدنيا والدنايا، حائز على المعالي
ترنو إليه فتُغضِي من مهابتهِ فالطرفُ ما بينَ موصولٍ ومصدود
خاض السياسةَ نفّاذَ الذكاءِ فما رأْيٌ بنابٍ ولا عزمٌ بمكدود
فكم له وقفةٌ فيها مجلجِلةٌ وكم مقامٍ عزيزِ النصر مشهود
وكان خصماً شريفَ الصدرِ مرتفعاً عن الدنيّاتِ إنْ عادَى وإنْ عودي
فاسألْ مُناصرَه أو سَلْ مخالفَه فليس فضلُ ابنِ محمودٍ بمجحود
لمَّا رمَى زُخْرُفَ الدنيا وباطلَها ألقتْ إليه المعالي بالمقاليد
وهو أخيرا يخاطب محمد محمود فيطلب إليه أن يقبل هذا الرثاء ممن لم يعد قادراً على رثاء آخر، فقد تحطمت أوتاره، فأصبح العود يبكي لها كما تبكي هي عليه:
خذِ الرثاءَ نُوحاً ملؤُه شَجَنٌ لم تبقَ بعدَكَ أدواحٌ لتغريدي
ما في يدي غيرُ أوتارٍ محطَّمةٍ يبكي لها العُودُ أو تبكي على العودِ
ويعود الشاعر الجارم إلى التعميم في الحديث عن مناقب من يرثيه في البيتين التاليين
وكلُّ جمعٍ إلى بَيْنٍ وتفرقةٍ وكلُّ شملٍ إلى نأْيٍ وتبديد
أمست تجاليدُه في جوْفِ مظلمةٍ كم صَوْلةٍ وإباءٍ في التجاليد
ثم هو في البيت السادس والستين يخاطب محمد محمود باشا بخطابه التقليدي لكل من يرثيهم فيقول له نم ملء جفنيك (وقد قال للنقراشي نم قرير العين، ولأنطون الجميل وللشيخ عبد الوهاب النجار كذلك)
نَمْ ملءَ جفنيْكَ في رُحْمَي ومغفرةٍ ووارفٍ من ظلالِ اللّه ممدودِ
ويعود الشاعر الجارم إلى التعميم مرة أخيرة في البيت السابع والستين لكنه يعود إلى خطاب محمد محمود باشا نفسه في آخر أبيات القصيدة ببيت تقليدي لكنه جميل يخرج الجارم من هذا الجو ليتحدث حديثا شاعريا متوهجا أقرب إلى الرثاء الخاص بمحمد محمود فيتحدث عن الخلود والهمة والبطولة، والوثبة في مقابل الخمول والموت:
إنّ البطولةَ والأجسادُ فانيةٌ تبقَى على الدهر في بعثٍ وتجديد
لم يَخْلُ منكَ مكانٌ قد تركتَ به ما يملأُ الأرضَ من ذكرٍ وتخليد
والآن ننتهز الفرصة لنفي للقارئ بما وعدناه به من تأمل المعين الذي استقى منه الجارم 68 نهاية لأبيات قصائده، ونحن نجده وقد لجأ إلى الصفات والمصادر والاسماء والجموع والأفعال على حد سواء، ولم يكرر إلا كلمات قليلة، وها هي المفردات التي استخدمها الجارم ليصنع قافيته الدالية، وقد كتبت أرقام الأبيات التي وردت فيها الكلمات بعد كل كلمة في قوسين.
– كانت المصادر بالطبع هي الأكثر استخداما وقد استخدم الجارم منها المصادر التي على وزن تفعيل: تهديد (5)، تسديد (15)، ترديد (27)، تبعيد (28)، تفنيد (24)، شهيد (38) تشريد (39)، تحميد (43) ، تمجيد (47)، تجريد (52)، تعقيد (53)،تصعيد (54) تغريد(ي)، (62)، تبديد (64)، تجديد (67)، تخليد (68) واستخدم من الأسماء الشائعة التي هي في الأصل مصدر: العود (18)،العيد (40)، شيد (49) وشبيه بها: الجود (17)
ـ أما الصفات وأغلبها من وزن مفعول فقد استخدم منها مصدراً كرّره ثلاث مرات وهو: محدود في الأبيات (11 و12 و25)، واستخدم منها أيضا: مزءود (3)،مضمود (4)،محمود (6)، مخضود (13)، ملحود (24)،مفئود (29)،معقود (30)،موجود (32)، مقصود (33)،مولود (35)، موعود (36)،منشود (37)، مهنود (44)،مفقود (46)،مردود (50)،مصدود (56) مكدود (57)،مشهود (58)،مجحود (60)،ممدود (66).
– استخدم الشاعر الجارم من الأفعال: نودي (2)، يودي (55)،عودي من العودة (51)، عودي من العداء (59) . واستخدم من الجموع: المواعيد (7)، البيد (8) ، السود (9)، الصيد (10)، مناجيد (12)، الجيد (16) ، الصباخيد (19)، الأخاديد (21)، المواليد (23)، السيد (62)، الصناديد (41)، الأناشيد (42)، القيد (45)، الأماليد (48)، المقاليد (61)، التجاليد (65)
ـ استخدم من الأسماء التي هي في الأصل صفة: محمود (1)، مجهود (31) ومن الصفات المشتقة على غير وزن مفعول: رعديد (20)، ومن الأسماء الجامدة استخدم: جلمود (14)
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا