كان صلاح الشاهد كبيراً للأمناء في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وأنور السادات، وكان قبل ذلك أمينا وأمينا أول في رئاسة الجمهورية، وقد كان بدأ حياته الوظيفية كأمين لرئيس الوزراء النحاس باشا زعيم الامة الذي كان يشجع الرياضيين بكل ما يمكنه في ذلك العصر، ولما كان الشاهد بطلا من أبطال السباحة، كما النحاس باشا نفسه فقد رأى ذلك الزعيم تعيينه في هذه الوظيفة التي ظل يمارسها حتى جاء الرئيس جمال عبد الناصر رئيسا للوزراء في 1954 فوثق به كل الثقة ورأى أن ينقله معه ليكون أمينا لرئيس الجمهورية كما كان أمنيا من قبل لرئيس الوزراء.
كان صلاح الشاهد قريبا في السن من الرئيسين أنور السادات وجمال عبد الناصر إذ ولد عام 1919، وكان لهذا السبب قادراً على أن يستكشف كثيراً مع طبيعة تفكيرهما وأهدافهما في الحياة، أما فيما يتعلق برأيه في رؤساء الوزارة في عهد الباشوات فإننا نراه معجبا كل الإعجاب وله كل الحق في هذا بالزعيم مصطفى النحاس كما نراه معجبا بدرجة كبيرة بعلي ماهر باشا وتاريخه وبالهلالي باشا وشخصيته وظرفه وبديهيته لكن موقف صلاح الشاهد من حسين سري كان يختلف تمام الاختلاف عن موقفه من الشخصيات الأخرى، والسبب في هذا هو حسين سري باشا الذي وصًفْتُه في مدونة سابقة من مدونات الجزيرة بأنه واحد من أضعف رئيسين للوزراء فيما قبل الثورة، والآخر هو بطرس بطرس غالي الذي وصفته أيضاً بأنه لم يكن يعرف الفرق بين الزيادة والسيادة!
أما حسين سري فهو كما يصوره الشاهد بكل صدق وأمانة ودون أن يتطرق إلى تكوين الأحكام «رجل منشغل إلى أبعد الحدود بالشكليات، غير مهتم بالدفاع عن صورته ولا عن نزاهته ولا عن فهمه في القضايا الخلافية، وغير قادر على استيعاب العوامل الحاكمة في شخصيات الموظفين أو الضباط الشبان فما بالك بالساسة الشبان، وهذه مجموعة من الأمثلة التي اخترناها مما ذكره الشاهد في مذكراته من واقع عمله مع حسين سري باشا في منصبه كرئيس للوزراء. ويجدر بالذكر أن صلاح الشاهد فعل شيئاً قريباً من هذا في صورة جمال سالم الذي قدر له أن يشغل المنصب لفترة قصيرة بالنيابة عن الرئيس جمال عبد الناصر.
المثل الأول موقف سري باشا مع شقيقه الأكبر
” كنت قد قابلت في العاشرة والنصف مساء المرحوم الدكتور بهي الدين بركات باشا لأتلقى منه تعليمات بانتظاره في رئاسة مجلس الوزراء الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي. وفي الساعة الواحدة صباحا اتصل بي تليفونيا المرحوم الأميرالاي عميد محمد وصفي قائد حرس الوزارة والياور الخاص للمرحوم إسماعيل صدقي باشا والمرحوم حسين سري باشا وطل مني الحضور إلى منزل سري باشا، فذهبت وتقابلنا مع سري باشا الذي طلب مني أن أحضر إلى الرئاسة في التاسعة صباحا ليجري مشاورات تأليف الوزارة ويتم إعداد مراسم التشكيل.
وبعد وصول سري باشا بقليل حضر إلى المكتب في بولكلي محمود بك سري الشقيق الأكبر لسري باشا وطلب مقابلته فسارعت بفتح الباب ودخل محمود بك وفوجئت بحسين سري باشا يقول لي: إيه اللي جاب البيه دي هنا، أنا مشي قلت ما حدش يخش إلا لما تقول لي وأوافق. فقلت له: يا رفعة الباشا أنت قلت لي على أنك رئيس وزراء وحتى الآن لم تحلف اليمين وامبارح كان بهي الدين بركات باشا نام على أنه رئيس وزراء وصحا من النوم ليجد نفسه كما هو، ومن حق الأخ الأكبر الدخول على الأخ الأصغر ما دام هذا لا يشغل مصبا رسميا ورفعتك لم تحل اليمين للآن. فأصر على خروج محمود بك الذي غادر المكتب وفي عينيه دمعتان .
المثل الثاني سري باشا واليوزباشي مهندس حسين زكي
طلبي مني رئيس الوزراء ووزير الحربية حسين سري باشا استدعاء المهندس يوزباشي حسين زكي من سلاح المهندسين لمقابلته. وجرت العادة أنه في مثل هذه المقابلات يتحتم علي البقاء مع رئيس الوزراء لحضور أوامره. وعند مقابلته لرفعة رئيس الوزراء سأله رفعته: هل أنت المهندس المشرف على بناء المصنع الحربي بطره؟
فأجاب بالإيجاب.
ثم سأله: إلى أي مرحلة وصلت في البنا؟
فأجاب: الأساس والأعمدة المسلحة والسقف المسلح انتهينا منه.
فرد عليه: ضروري من إزالة كل هذا.
فدهش اليوزباشي وقال لرئيس الوزراء: أهد مليون جنيه دفعت في إنشاء هذا المصنع الحربي؟
فقال له: نعم.. إنه أمر مني بإزالته فورًا.
فاحتد اليوزباشي قائلا: يا أفندم مش معقول
وخبط رئيس الوزراء على المكتب بيده وصرخ: أنا وزير الحربية بأمرك.
وقال له الضابط.. الأمر يصدر إلى من رئيسي مدير سلاح المهندسين أما أنا فلن أزيل وأعلم يا رفعة الباشا جيدا أن سبب هذا الطلب مرده لأنكم عند خروجكم من الوزارة تعينون بشركة الأسمنت بطره عضوا بمجلس إدارتها ولا تريدون لمصنع الأسمنت أن يكون هدفا حربيا، وخرج اليوزباشي غاضبا.. ثائرا..
ويردف صلاح الشاهد بأن يذكر أن هذا المهندس هو الآن رئيس مجلس إدارة شركة فيبرو للأساس.
المثل الثالث: تعليماته بالنسبة للضيوف وموقفه مع حيدر باشا
عندما حلف سري باشا اليمين وعاد الرئاسة وقال اسمع يا صلاح الآتي: تحضر معي كل المقابلات إذا كان الضيف في درجة أقل من سفير. وعند تحديد الموعد تراعى الدقة المتناهية في دخول الضيف وخروجه بمعنى لو حددنا لسفير مثلا نصف ساعة من الساعة العاشرة مثلا يدخل على في تمام العاشرة ويخرج عشرة ونصف بالضبط وإلا فمسئوليتك خطيرة فاهم يا صلاح. وكثيرا ما كنت أنتزع الضيف من أمام رئيس الوراء انتزاعا، لا أحد يدخل علي دون موعد محدد مسبق، وأذكر أن المرحوم الفريق محمد حيدر باشا حضر دون موعد وكان القائد العام للجيش ودخل علي سري باشا الذي طلبني وقال: خذ سعادة الباشا وصله للسيارة .. وخرج حيدر باشا يمضغ شفتيه ويتعجب من تصرفات بلدياته سري باشا.
الرابع: حوار سري باشا مع القائممقام محمود سيف اليزل خليفة
وكان القائم مقام محمود سيف اليزل خليفة مديرا لمكتب وزير الحربية قبل أن يعين حسين سري باشا وزيرا لها ودخل لكي يعرض بريد الوزارة على الوزير مرتديا الزي العسكري الصيفي البوشرت وغضب الوزير لارتداء القائم مقام مثل هذا الزي بدون قميص أو رباط عنق وقال له: يا حضرة .. تاني مرة تلبس قميص وكرافته. فقال له مدير المكتب: متأسف أنت وزير وأنا مدير مكتبكم للشئون العسكرية والإدارية أما تغيير الزي فهو من سلطة القائد العام للقوات المسلحة وأخشى أن غيره فأحاكم بتهمة.. لبس غير لائق، فثار مرة أخرى غاضبا وقال له. أنا الوزير الذي أصدر التعليمات وليس القائد العام. وأصر القائم مقام سيف اليزل على موقفه وانصرف دون عرض البريد. ويردف صلاح الشاهد بأن يذكر أنه لولا قيام الثورة لتغير مصير القائم مقام وأحيل إلى التقاعد بدلا من أن يكون أول سفير مصري في السودان الشقيق لمدة سنوات طويلة.
المثل الخامس: تعنت سري باشا مع السفير البرتغالي
حددنا الساعة الحادية عشرة لمقابلة طلبها سفير البرتغال تليفونيا من القاهرة وقد تأخر الديزل الذي كان موعد وصوله محطة سيدي جابر الساعة 40‚10 وكان به السفير الذي وصل إلى بولكلي بعد الموعد المحدد بخمس دقائق فرفض سري باشا مقابلته برغم أنه كان يعرف أن السفير صديق شخصي للملك فاروق ومقرب منه، وأنه يشاركه رحلات صيد البط أسبوعيا، فقلت له إن السفير حضر دون أن تكون معه ملابس يستطيع بها المبيت في فندق حتى الساعة التاسعة والنصف من اليوم التالي وهو الموعد الجديد. فقال: لقد قصدت تحديد الموعد بهذه الصورة لينام من غير بيجامه ويتعلم أنه يحضر في الموعد المحدد له بالضبط. وتمت المقابلة في اليوم التالي
السادس: ضعف سري باشا أمام زوجته بسبب قبوله لكريم ثابت
” ولم ألاحظ على المرحوم سري باشا موقفا يمكن أن يوصف بالضعف إلا أمام قرينته المرحومة ناهد هانم عندما كانت تؤنبه بشدة على تعيين كريم ثابت باشا وزيرا في وزارته برغم ما يعلمه عن فساد تصرفاته وما عمله ليخرجها من رئاسة الهلال الأحمر. وكان رد سري باشا أن الملك عاوز كده ولازم نسمع كلام الملك. وكان موجودا المرحوم الدكتور هاشم الذي كان يلطف من حدة حرم سري باشا باعتباره هو الذي أثر علي سري باشا وقال: كريم حا يبقى كويس وحيسندنا في القصر والسياسية عاوزه كده .. وكان هذا الموقف من هاشم باشا سببا في تغيير معاملة سري باشا له حتى إنه كان قبل أن يدخل مكتب سري باشا يقرأ الفاتحة ويترك السيجارة على مكتبي ويزرر الجاكت . أما كريم ثابت فكان إذا طلبه سري باشا يسألني، خير إن شاء الله ثم يتجه إلى المرآة ويعدل وضع الطربوش على رأسه ويترك السيجار على مكتبي ويدخل وهو يرتعد.
السابع: مع اليوزباشي عادل طاهر
كان اليوزباشي عادل طاهر ياورا لوزير الحربية وكان حسين سري باشا يحب رياضة المشي فكان يسير في مناطق نائية مثل: الرأس السوداء والمكس وطريق أبو قير لمسافة خمسة كيلومترات يوميا.. وكان يرافقه في هذه المرحلة المرهقة الياور عادل طاهر صامتا. وفي يوم أراد أن يتجاذب معه أطراف الحديث لكي يخفف عن نفسه مشقة السير. فقال له: يا أفندم المشي رياضة جميلة. ولكن رئيس الوزراء انفجر قائلا: اسكت أنا ماشي افكر في مهام الدولة مش في البامية والملوخية اللي بتفكر فيها أنت. فسكت الياور على مضض وهنا أحس رئيس الوزراء بأنه كان عنيفا مع الياور الشاب فسأله الرئيس: أنت رياضي؟
قال له: طبعا يا أفندم
قال له: بتلعب أيه؟
فأجاب: كل أنواع الرياضة
فسأله رئيس الوزراء: هل لعبت الشيش؟
فقال: نعم فقال له: أي النوعين لعبت؟ فأجاب: النوعين، وهنا حدث حوار طويل بين رئيس الوزراء وياوره حول الشيش لإلمام الرئيس بفنون اللعبة بسبب أن زوج إحدى كريماته كان بطلا من أبطالها. وأصبح عادل طاهر كأنه في طابو سير يمشي دون حديث.
الثامن: حديثه أخيرا عما يسميه: قلبه الطيب
” والذين عرفوا المرحوم حسين سري باشا على حقيقة يذكرون ذلك القلب الطيب والإنسان الذي يغطي هذا كله بتكشيرة وصوت عالي في حدة ثم لا يلبث أن تنبثق منه حقيقته رحمه الله رحمة واسعة. ذات مرة أعطاني خمسمائة جنيه لمصاريف البيت من ماله الخاص طبعا وأخذت أصرف منها وكان من بينها تذاكر سفر لابنته وزوجها الأستاذ إسماعيل مظلوم وكان ولد إسماعيل أغنى ماليا من سري باشا. وطلبني سري باشا ذات يوم وقال: أنت أغنى ولا أنا. فقلت: ما أعرفش ثروة رفعتك عشان أرد على السؤال فقال: لا.. لا .. أنا أغنى. فلما سألته عن سبب السؤال قال: حسابي كام عندك. فاستأذنته وأحضرت بيان المصروفات وناولته لدولته فمزقه ورماه في سلة المهملات وثار غاضبا. مش عيب تجيب لي كشف مكتوب .. قول لي عايز كام وبس. فقلت له مبتسما: على كل حال دي حركة كويسة ضيعت رفعتك أصل الحساب وأنا مخي مش دفتر ورفعك أكلت من علي الذي دفعته.
فقال لا.. أنت عارف الحساب، وآدي كمان خمسمائة جنيه أخرى
فقلت له: يبقى أنا أغنى من رفعتك لأنني عاوز 6٥٢ جنيها فوق الخمسمائة الأولى فضحك وأعطاني 652 جنيها وطلب أن يكون الحساب أسبوعيا. ولم يمض على ذلك أسبوع حتى استقال من رئاسة الوزارة. وطلبني من منزله تليفونيا لأوافيه بأوراقه الخاصة. فلما سلمته الأوراق بكي وقال: يا صلاح أنا ماعنديش أولاد وأنا كنت سعيد بعملك معي كنت أعتبرك ابني!
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا