كان للمفكر المصري العظيم؛ حفني بك ناصف ١٨٥٦– ١٩١٩ السبق في دخول مصر إلي عصر الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني الحديث، وقد حقق هذا الرجل العظيم هذا السبق بذكاء اجتماعي ومعرفي حاد.
وقد واكب في جهده هذا جهود الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده؛ في تأسيس مؤسسات أهلية ذكية كالجمعية الخيرية الإسلامية .
و مما يلفت النظر أن دور حفني ناصف في تفكيره و دعوته الي تأسيس نادي دار العلوم كان سابقاً في قيمته الفكرية علي دور عمر لطفي بك وأنداده في نادي المدارس العليا، ذلك أن إنجاز حفني ناصف لم يقف عند حد التفكير، وإنما تعداه إلي وجود النادي على أرض الواقع و وتوظيفه لهذا النادي ومجتمعه في مقاربا القضايا الكبري!
وإذا كان نادي المدارس العليا في نظر الكثيرين بمثابة أولى البؤرات الفكرية التي أدت إلي ثورة 1919 وما أعقبها من نهضة مصر؛ فإن نادي دار العلوم كان هو الأخ الأكبر الذي احتذاه رواد نادي المدارس العليا في أن يكون لهم دور فكري ومجتمعي، وأن يعملوا بروح المؤسسة لا بروح الفريق فحسب.
وهكذا ارتقي العمل الطوعي في ذلك العهد درجتين أولاهما من عمل فردي إلى عمل جماعي، وثانيتهما من عمل جماعي إلى عمل مؤسسي، وكان أكثر الفضل في هذا كله لحفني ناصف وسعة أفقه وقدرته علي ترجمة الأماني الجميلة إلى مشروعات ومؤسسات أو كيانات وبرامج.
وإذا جاز القول بأن سعد زغلول باشا هو الامتداد العملي والتنفيذي للشيخ محمد عبده، فإن حفنني ناصف كان بمثابة الامتداد التخطيطي والبرامجي لمحمد عبده، ذلك أننا نجد أثر حفني ناصف بارزاً في كل شيء يدين بالفضل لمحمد عبده وسعد زغلول ولأعلام ذلك العصر.. بما في ذلك الجامعة والمجمع اللغوي وطباعة المصحف، وتعريب العلوم ووضع المصطلحات وتقنين الإملاء وتطوير الطباعة وتيسيرها، ورقي النشر، وتعليم المرأة، ونهضة المجتمع، والاشتباك مع مؤسسات الاقتصاد الجديد في البنوك والمصارف.
ومن المفاخر التي لا يذكرها المصريون في ظل حالات الاستقطاب التي يعيشونها من جيل إلي جيل أن حنفي ناصف بك قد دعا زملاءه العلماء والمشايخ عبد العزيز جاويش (1876 ــ 1929) و محمد رشيد رضا (1865 ــ 1935) وعبد الوهاب النجار (1862 ــ 1941) ومحمد الخضري (1872 ــ 1927) إلى التباحث في موضوع الربا (هكذا دون لجوء إلى ما ألجأ إليه من التعميم بلفظ المعاملات المالية).
وانتهى هؤلاء المشايخ إلى الدعوة إلى وجوب إنشاء مصرف ينافس ( من باب الأمانة : كان اللفظ الذي استخدموه هو : يزاحم) البنوك الأجنبية، وهكذا كان هؤلاء المشايخ هم من مهّدوا الأرض لدعوة طلعت حرب والاستقلال الاقتصادي لمصر.
نعود لنؤكد على أن نادي “دار العلوم” كان بلغة عصرنا الحاضر مؤسسة بارزة من مؤسسات المجتمع المدني، ولم يكن ناديا للخريجين فحسب، وإن كان من أوائل نوادي الخريجين التي عرفتها المنطقة العربية.
لكنه تميز عن هذه النوادي جميعا بطابع فكري وعلمي كان بارزًا إلى حد مذهل، ولا تزال بقايا هذا الدور مستمرة، وكان حفني ناصف في خطوته هذه رائدًا في إعطاء ما يسمي الآن بـمؤسسات المجتمع المدني دورًا كبيرًا و مفصليا في قضايا الفكر وتطوير الحضارة نفسها.
ولم يكن حفني ناصف ـ وهو واحد من كبار الموظفين ـ منغلقًا في تصوراته حول حصرية السلطة في الإصلاح، بل إنه كان منذ مرحلة مبكرة في تاريخ نهضتنا مؤمنا بأهمية الدور غير الحكومي في ارتياد مناطق «المخاض الفكري» في قضايا التقدم.
ولهذا السبب فقد وجه حفني ناصف مؤسسته الوليدة المسماة نادي دار العلوم إلى بحث موضوعين فكريين على درجة كبيرة من الأهمية، أحدهما: موضوع الألفاظ الأعجمية التي بدأت تغزو اللغة العربية.
وثانيهما: موضوع الربا، والحديث عن دور البنوك الاقتصادية التي أُنشئت في البلاد، ومدى موافقة أعمالها لما تقرره الشريعة الإسلامية، وكأنه كان يعهد إلى هذا النادي الذي رأسه بوظيفة مجمعي اللغة العربية والبحوث الإسلامية اللذين لم تنشئهما الدولة إلا بعد هذا في بداية الثلاثينيات وبداية الستينيات.
عبقرية هؤلاء في إدراك الحاجة إلي المؤسسات المصرفية والنظام المصرفي، وتأكيدهم علي ضرورة وأهمية وجود مؤسسة مصرفية وطنية من قبل أن يستفزهم الخوف من الالتباس مع الموضوع الأكثر حساسية وهو «الربا»
أما دراسة العلامة حفني ناصف المبكرة عن حكم المعاملات الدينية من حيث خضوعها لتعريف الربا، فقد كانت دليلًا علي قدرة العلماء الأوائل علي التأصيل العلمي القادر علي تخطي المشكلات بالفهم الجيد للجوهر بعيدًا عن التشابهات الناشئة عن التقريب اللفظي أو الذهني.
ومن الجدير بالذكر أنه كان ميالا بكل ما يملك من الأمل إلى البحث عن صيغة فقهية جديدة للبحث في موضوع الربا، وتحديد المراد بلفظ الربا، ومدى انطباقه على صور المعاملات المعاصرة .
و قد أشرك معه في هذا البحث أربعة من العلماء الأجلاء، ومن المفاخر التي لا يذكرها المصريون المحدثون ولا يقدرونها حق قدرها أن هؤلاء الأعلام الخمسة: حفني بك ناصف والمشايخ: عبد العزيز جاويش، وعبد الوهاب النجار، ومحمد الخضري، و محمد رشيد رضا.
كانوا أول من نادوا بوجوب إنشاء مصرف مصري، يُنافس البنوك الأجنبية التي ملكت اقتصاد البلاد، وكأنما كان هؤلاء المفكرون الأعلام يرهصون بما أنجزه طلعت حرب باشا بعد سنوات.
ومن المهم أن ننتبه إلى عبقرية هؤلاء في إدراك الحاجة إلى المؤسسات المصرفية والنظام المصرفي، وتأكيدهم علي ضرورة وأهمية وجود مؤسسة مصرفية وطنية من قبل أن يستفزهم الخوف من الالتباس مع الموضوع الأكثر حساسية وهو “الربا”.
وهكذا فإنهم تجاوزوا مرحلة الانفعال الغاضب التي تدفع أصحابها إلى تجنب النظام المصرفي كله بسبب شبهة الربا، مع أن النظام المصرفي ضرورة للاقتصاد الوطني، ومع أن نظام الفوائد ليس هو كل النظام المصرفي بل إن من الممكن أن تكون هناك مصارف بلا ربا.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا