الرئيسية / المكتبة الصحفية / #أنطون_الجميل السياسي الوحيد الذي اصطفاه كل أنداده ورثاه كل أقرانه

#أنطون_الجميل السياسي الوحيد الذي اصطفاه كل أنداده ورثاه كل أقرانه

أبدأ هذه المدونة بحديث في غاية الأهمية من الوجهة السياسية ألخصه في القول بأن أنطون الجميل ١٨٨٧ – ١٩٤٨ بالنسبة لتاريخنا الحديث (سياسيا وثقافيا وصحفيا) يمثل الظاهرة الفذة التي ينبغي للمفكرين والموهوبين (و رجال العلم والفكر والتكنوقراطيين) أن يحتذوها إذا ما مارسوا السياسة، وتتضاعف هذه الأهمية إذا ما كان الامر مرتبطا بجماعات الإسلام السياسي او المسيحية السياسية أو العلمانية السياسية على حد سواء فقد كان هذا الرجل كما نرى من تاريخ مولده من جيل رواد أدبنا المعاصر الكبار (الرافعي والجارم العقاد وطه وهيكل والزيات واحمد امين والمازني ومعهم من رجال الفكر المراغي ومصطفي عبد الرازق) لكن أنطون الجميل الذي كان مواكبا لهم في العمر وربما أصغر من بعضهم كان ألمع منهم جميعا وظل ذكره كذلك بالرغم من وفاته المفاجئة كما كان محل ثقتهم بأكثر مما كانت ثقتهم في بعضهم البعض ، وذلك على الرغم من انهم يفوقونه موهبة وعطاء للفكر والفنون الأدبية، وكان جوهر تفوق هذا الرجل مرتبطا بأخلاقه التي هي مرتبطة بالدين والقيم الدينية ! وهو ما سنراه في كثير من آراء هؤلاء الأعلام في هذا الرجل .

 

وعلى سبيل المثال فإننا نرى في رثاء الأستاذ العقاد لأنطون الجميل ذرى من التقدير والحب لم يحظ بها غيره، ونرى في الشاعر علي الجارم لأنطون الجميل (وهو موضوع مدونتنا) صورة معبرة عن المشاعر الناضجة في صداقات الكبار الناضجين الذين لا تجمعهم الزمالة إلا بعد أن يكونوا قد بلغوا مكانتهم المجتمعية العالمية، ولهذا فإن هذه الصداقة تحفل بالتقدير المتزن، وتخلو من شوائب الخلافات والخصومات التي قد تفرضها طباع الشباب فتترك بعض آثارها ندوبا للجروح التي تصيب النفوس الحساسة من بعض المواقف، ولعل رثاء الاستاذين العقاد والجارم لأنطون الجميل يمثلان نموذجين بارزين لهذا المعنى الجدير بالانتباه حين نجد طرزا من صداقة مبرأة من المشكلات والسبب في هذا الصفة أن أصحابها بدأوها على كبر .

 

بيد أن حالة أنطون الجميل مع الأستاذين العقاد والجارم تشمل عنصراً آخر أهم وهو أن هذه الصداقة والزمالة نشأت بسبب اجتماعهم واشتراكهم في العمل العلمي في المجمع اللغوي حيث تكون المناقشات على مستوى عال ومتقدم من الفكر والعلم، وحيث يكون على صاحب الرأي أن يلجأ إلى أسانيد قوية ليحصل على الموافقة على رأيه، بعيداً عن فتح المجال للمناقشة فحسب، أي أن هذه المناقشات في هذا المستوى تستدعي قراراً، وليست فتحا لباب المناقشة أو المرافعة فحسب، فهذا على سبيل المثال مصطلح لا بد أن يقرر أو ان يُعدّل، وهذه قاعدة لا بد أن تؤصل أو أن تُرفض.. وهكذا.. من هنا كان إعجاب الشاعر علي الجارم يتولد على سبيل المثال بأنطون الجميل أو علي توفيق شوشة باشا أو بأسلافهما من المجمعيين الذين عرفهم من قبل كالأستاذ أحمد الاسكندري بك والشيخ حسين والي والمستشرق نللينو، ونحن نعرف أنه تولى رثاء هؤلاء الثلاثة معاً قبل أن يتصدى لرثاء أنطون الجميل.

 

ومن العجيب أن الجارم في هذه القصيدة، وفي قصيدة رثائه للشيخ عبد الوهاب النجار قبل سنوات كان يستشعر باللاوعي دنو أجله من حيث لا تدري جوارحه، ومن حيث لا تنبئ الظروف المحيطة، وهو لهذا يبدأ قصيدته في رثاء أنطون الجميل بقوله: حنّ شعري إلى اللقاء، وهو يمضي متأملا متئدا متزنا المقطعين الأولين من هذه القصيدة النونية العذبة وكأننا نستمع ابن زيدون في غرامياته، فنرى الجارم يتحدث جائلاً بين الدموع والظنون والعبقريات والاذهان والاماني والطيور والرجاء والألحان والأغصان والبدر والروض وبكاء الأطفال والصبر والتجلّد والدمع والندوب.

 

حَنَّ شِعري إلى اللّقاءِ وأنَّا / أينَ ألقاكَ ليتَ شعري؟ وأنَّى؟

ضَرَبتْ بينَنا المَنونُ بِسُورٍ / حَجبتهُ العقُولُ عَنْها وعَنَّا

تَتَلاقَى بِه الدموعُ حَيارَى / وَتَغُوصُ الظنونُ فيه فَتضنى

كم حوَى مِن ورائه زَهراتٍ / وغُصُونًا رَيّا المَعاطفِ لُدنَا

كم حوى من ورائِه عبقريا / تٍ، ورأيًا عَضْبَ الشَّباةِ وذهْنَا

كم حَوى مِن صحائفٍ لم تُتمَّمْ / وأناشيدَ لم تَعِشْ لتُغنَّى!

وأمانٍ زُغبٍ تطير إلى القَبـ / ـر، خِمَاص الحشى، فُرادى ومَثْنَى

حَجَبَ السورُ خلفَه لي رجاءً / خانَه الدهرُ في صِباهُ وأخْنَى

أسكتَتهُ قوارعُ الموتِ لَحنًا / ولوتْهُ زَعازعُ الموتِ غُصنَا

هُو في البدرِ حينما يطلعُ البد / رُ، وفي الروضِ حينَما يتثَنَّى

ما بُكاءُ الأطفالِ أجدى عليهِ / لَا، ولَا الصبرُ والتجلُّدُ أغنَى

فيه أسْعدتُ كلَّ باكٍ بِدَمعي / وأعرتُ الثكْلى الحزينَةَ جَفْنَا

كلَّما مرَّت النوادبُ صُبحًا / ضربَ القَلبُ بالجَناحِ وحنَّا

 

وهو في البيت الرابع عشر يخلص من هذا كله إلى أن يتحسر على شبابه بطريقة مبتكرة فيقول: يا شبابا فقدت فيه شبابي، ثم يستعرض رؤيته للحياة بطريقة شبه عدمية على نحو ما قد رأيناه فعل في قصيدته عن الشيخ عبد الوهاب النجار، وهو هنا يعترف بأنه وأد الرجاء فأصبح لا يرتجي ولا يتمنى بل إنه أصبح يرى في الميلاد نفسه موتاً ودفنا وهو يبدو وكأنه استقى هذه الحكمة من قراءة مجمل التاريخ والقرون، حيث يذهب الأسى بالرجال وتمضي القرون قرنا بعد قرن .

 

يا شبابًا فقدتُ فيه شَبابي / أدْركِ الوالهَ الشجيَّ المُعنَّى!

قد وأدتُ الرجاءَ في هذه الدْ / دُنيا، فلا أرتجِي ولا أتَمنَّى

وخنقتُ السنينَ أو ما علاها / فرأيتُ الميلادَ مَوْتًا ودَفْنا

مَنْ يُعمِّرْ يجدْ أخلَّاءَهُ في الأر / ضِ أوفَى مِمَّن عليها وأحنَى!

يذهب الأمسُ بالرجال فيُنسَوْ / نَ، وتَمضِي القُرونُ قرنًا فقرنا

رِيشَةٌ في مهامهِ البيدِ طارَت / أيْنَ طارت؟ اللهُ أعلمُ مِنَّا!

وخِضَمُّ الماضِي يَعُجُّ بمن فيـ / ـه، ويغْشى قوْمًا، ويغمرُ مُدنَا

وظُعونُ المنونِ منذُ سليل الطيـ / ـنِ تَطوي الصحراءَ ظِعنًا فظعنَا

سُفنٌ تلتقِي على شاطئ الغيـ ـ/ بِ، لتَلقى هُناكَ سُفنًا وسفنَا

ما لنا غيرَ أن نقولَ حيارى / بلسان الدموع: كانُوا وكُنَّا

 

وتزداد جرعة التشاؤم في أبيات الجارم التي تتدافع بها أمواج الحزن حتى يصل إلى البيت الرابع والعشرين الذي هو قمة البلاغة والتعبير المبتكر عن غلبة النزعة العدمية حيث يطلب ممن يسمعه ألا يقول إن صالح الذكر يبقى، وذلك ان الحقيقة التي أدركها الجارم بعد عناء وجعلها بمثابة الشطر الثاني من بيته البليغ تقول إن كل شيء يبقى في الدهر ليفنى..

لا تقلْ: إنَّ صالحَ الذكرِ يبقى / كل شيءٍ في الدهرِ يبقى ليفْنَى

 

وهو يردف هذا البيت البليغ في تعبيره ببيتين يتساءل فيهما عن جدوى الذكر الجميل وقد أمسى هو نفسه تحت الصفائح

ما غنائي بالذكر يبقى جميلًا / حين أمسي تحت الصفائح رَهْنَا؟

ما رجائي والسيفُ أضحى حُطامًا / أن أرى بعده نِجادًا وجَفْنَا؟

 

ينتهي الشاعر علي الجارم من هذا المقطع النوني الطويل الباعث على الحزن والوجوم بل على اليأس والقنوط ليبدأ مباشرة في الحديث عن فقدان أنطون الجميل فيجعل من هذا الفقدان مُجدّداً للأحزان من دون أن يُحدثنا عن هذه الأحزان، لكن مستمعيه يعرفون انه كان قد انتهى في شهوره الأخيرة من رثاء وراء رثاء، وهو يتحدث ببيت عابر عن عنصر الفجاءة في موت أنطون الجميل :

قد فقدنا «أنطونَ» بالأمس والحز / نُ على فقده يُجدِّدُ حُزنا

أَخَذَتْه فُجاءةُ الموتِ أخذًا / رِيعَ مِن هولِه الصباحُ وجُنَّا

 

ويردف الشاعر علي الجارم هذا ببيتين تقليديين في معانهما لكنه يُجيد صياغتهما بالقافية النونية المنونة ذات الصدى القادرة على إحداث الرنين في نهاية كلّ بيت.

كم سلَوْنا عَن صاحبٍ بحبـــيبٍ / فإذا بالحبيـــبِ يُخـــلِفُ ظنَّــــا!

نتداوى مِن لاعجِ الشوقِ بالشــ / ــوقِ ونطوي أسًى لننشر شَجْنَا

 

وسرعان ما يصل إلى أقوى أبيات القصيدة وأبلغها وهو البيت الذي أوحى له به موت أنطون الجميل المفاجئ، وهو الموت الذي انقذ الجميل من انحناء الرأس بسبب السن وهو لهذا يقول في هذا البيت المُعجز أن أنطون مات قبل أن تُدركه الشيخوخة حتى لا يُجبره تقدُّم السن على إحناء رأسه وهو الذي عاش حياته كلها مرفوع الرأس لا ينحني لعظيم.

ما حنى الرأسَ مرةً لِعظيمٍ / فأبى أن يراهُ لِلسِّنِّ يُحنَى

 

بيد أن الشاعر علي الجارم بعد ان بلغ هذه الذروة في مدح أنطون الجميل يعود إلى حزنه فيعبر عن أمنية الطبيعة في أن يمتد العمر بأنطون الجميل، فلماذا لم يتريث الدهر! ويعود الشاعر علي الجارم إلى الظرف العام الذي جعله ومعه اقرانه يرثون ويندبون كل يوم حتى اضحى ندب الرجال أي المراثي فناً.. وهو بالطبع يعرف أن المراثي كذلك، لكنه يقصد أن الرثاء أصبح هو الطابع المسيطر على الشعر في ذلك العام، ولذلك فإنه سرعان ما يوضع المعنى في بيتين تقليديين يقول فيهما إن الشعر شُغل عن الجمال والكأس وحب الصبايا بالمآتم والنعوش.

أنجمٌ أشرقتْ فأطفأها المو / تُ، كما تُطفأ المصابيحُ وهْنَا

ما على الدهرِ لو تريّثَ حِينًا / أو على الدهرِ مَرَّةً لو تأنَّى!

كُلّ يومٍ نرثي ونندبُ حتّى / صار ندبُ الرجال في مصر فنَّا

ورحا الموتِ لا تني تملأ الأر / ضَ ضجيجًا وتنثر الناس طحْنَا

نَسِيَ الشعرُ في صراع الرزايا / رنَّةَ الكأسِ والغزالَ الأغَنَّا

شغَلتْه مآتمٌ ونعوشٌ / عَنْ هَوى زَينبٍ، وعَن وَعد لُبنى

كم سلَوْنا عَن صاحبٍ بحبيبٍ / فإذا بالحبيبِ يُخلِفُ ظنَّا!

نتداوى مِن لاعجِ الشوقِ بالشـ / ـوقِ ونطوي أسًى لننشر شَجْنَا

 

يبدأ الشاعر علي الجارم بعد هذا المقطع الثالث من نونيته، ويستهل هذا المقطع بقوله مات أنطون، وكأنه يعترف أخيراً بالحقيقة الماثلة أمام أعين الجمهور ويبدأ في الحديث عن سجايا أنطون الجميل من المجد والعزة ورجاحة العقل وحكمة القول وقوة الأداء، وحسن المعاني، وجمال المبني، والتزامه المطلق بالذوق الرفيع والحياء الراقي والإيمان الواضح والاستغناء عن الفضالات. ثم هو يكرر سؤال نفسه في لوعة، وعلى مدى خمسة أبيات، معبراً بتساؤله عن شعور الفقدان والافتقاد، فهو يفتقد الخلق والسماح والبشاشة والسناء والفكاهة والسياسة والدهاء وسعة الصدر والصفاء، ولعمري إن هذه الأبيات في وصف أنطون الجميل مما تتقاصر دونها همم الشعراء مهما أوتوا من البلاغة، لكن حب الجارم الناضج لأنطون الجميل كان كفيلاً بأن يدله على كل هذه المزايا في سهولة ويسر.

 

ماتَ «أنطونُ» وانقَضت دولةُ المجـ / ـدِ، وكانت به تَعِزُّ وتغنَى

وغدا عَبْقِرٌ وواديه أضغا ث/ ًا، وعادت رَجاحةُ العقْلِ أفنَا

ورأينا الأقلامَ يَشقُقْن صدرًا / بعده حَسرةً ويقرَعْنَ سِنَّا

نندبُ الكاتبَ الذي يُرسل القو / لَ قويَّ الأداء مَعْنًى ومَبنَى

لا ترى لفتةً به تجبهُ الذو / قَ، ولا لفظَةً تُخْدشُ أُذْنَا

موجِزٌ زاده الوُضوحُ جمالًا / والتخلِّي عن الفَضالاتِ وزْنَا

أين ذاكَ الخُلقَ السميحَ؟ كأن لم / يكُ بالأمسِ يملأ الأرضَ حُسنَا

والبشاشاتُ أينَ مِنِّي سناها؟ / والأفاكيهُ مِنْ هُناك وهُنَّا

والسياساتُ؟ والدهاءُ الذي كا / نَ سِلاحًا حينًا وحينًا مِجَنّا؟

أينَ ذاكَ الصدرَ الذي يحملُ العب / ءَ، عظيمًا، وليس يحملُ ضِغنَا؟

كم غزتْهُ الخُطوبُ دُهمَ النواصي / وهو أصفى من الصباح وأسنَى

 

وفي المقطع الخامس يجد الشاعر علي الجارم نفسه بعد كل هذا التمجيد لصديقه والثناء عليه في حاجة إلى الحديث المباشر إليه، فيبدأ في توجيه خطاب يائس له، ويسأله كيف يسبقه إلى الموت وهو أصغر منه؟ كيف يسبقه إلى الموت، وقد كان أكثر منه إقبالاً على الحياة بمرحها وضحكها وشبابها وعزمها.. كيف يسبقه إلى الموت ويترك الدنيا التي كان يملأها بالحياة والخير؟

يا أخي، هَلْ يليقُ أن تدخلَ البا / بَ أمامِي، وأنت أصغرُ سِنَّا!

قِفْ! تأخّر، قد كنت تُعلي مكاني / ما جَرى؟! ما الذي نَبا بك عنَّا؟

كنتَ بالأمس، كنت بالأمسِ رُوحًا / مَرِحًا ضاحِكًا، وصَوْتًا مُرِنّا

كنت مَعنًى من الشباب وإن / شاخَ، وعزْمًا لم يعرف الدهرَ وهْنَا

تملأُ الأرضَ والزمانَ حياةً / هادئَ النفسِ وادِعًا مطمئنا

تبذلُ الخيرَ لم يُكدَّر بمنٍّ / وكثير مِنّا إذا مَنَّ مَنَّا

 

وفي المقطع السادس ينتقل الشاعر علي الجارم بمسرح حديثه إلى مجمع اللغة العربية الذي كان بمثابة مسرح لقائه الدائم في السنوات الأخيرة بالجميل، فيتذكر مشهد الجميل في هذا المجمع وهو علم، وركن، ومصباح خير، وحكم عدل ذو حجة، ولسان عفيف، وقول هادف، وحب للوفاء.

مجمعُ الضادِ كنتَ للضادِ فيه / عَلَمًا يُحسِرُ العيونَ ورُكنَا

كنتَ مِصباحَنا المنيرَ إذا غمـ / ـمَت سبيلٌ، وطالَ ليلٌ وجَنَّا

كنتَ يومَ الجِدالِ بالحُجَّةِ البيضا / ء تمحو سحائبَ الشكِّ وكنّا

عِفّةٌ في اللّسانِ صَيّرت الأيـ / ـيَامَ تشدو بمدحِك اليومَ لُسْنَا

تبلُغُ الغايةَ القصيّةَ ما أدْ / مَيتَ جُرحًا، ولا تعمدتَ طَعنَا

كلُّ قِرْنٍ لدى النضال يرى فيـ / ـكَ لمعنى الوفاء للحق قِرنَا

 

وفي المقطع السابع يعود الشاعر علي الجارم ليُبدي حسرته وألمه من الموت الذي يقطع الرجاء في الكمال عندما يمد الإنسان يده للكمال، ثم يردف هذا التقرير بخمسة أبيات من شعر الحكمة الراقي يبدأها بقوله الحكيم: إننا كلما قوي عقلنا ضعف جسمنا وأصبح الموت لنا شفاء وامنا.

حَسْرتَا للفتى إذا قارَب الشوْ / طَ طوتْهُ المنونُ غَدْرًا وغَبْنًا

كلَّما مدّ للكمالِ يديهِ / صَدَّ عنهُ الكمالُ كِبرًا وضَنَّا

إنْ قَوِينا عَقْلًا ضَعُفْنا جُسومًا / ورأينا في الموتِ بُرءًا وأمْنَا

وشئونُ الحياةِ شتَّى ولكنْ / حُبُّنا للحياةِ أعظَمُ شأنَا

لو يعيشُ الإنسانُ عُمْرَ السُّلحفا / ةِ لأغنَى هذا الوجودَ وأقنَى

ما الذي نرتجيه والْعُمْرُ طَيفٌ / إنْ فَتحْنَا العينين بانَ وبِنّا؟

نحنُ في هذه الحياةِ ثِمارٌ / كُلُّ شيءٍ إن أدْرَكَ النضْجَ يُجْنَى

 

وفي المقطع الأخير يعود الشاعر علي الجارم إلى مخاطبة صديقه أنطون الجميل خطاب اليائس من رده، ومع هذا فإنه يتطلع إلى هذا الرد الذي يتوقعه من صديق صادق الوفاء، وهو يتوسل إلى هذا بأن يقول إن روحه أصبحت أدنى إلى روحه، وهو يسأله هل يلتقي به، روحا بروح في عالم الأرواح، أو هل يستظل بذراه؟

يا أخي، هل تُجيبُ إن هتف الشو / قُ حبيبًا صِدْقَ الوفَاء وخِدْنَا؟

إن أكنْ فيكَ دانِيَ القلْبِ بالأمـ / ـسِ، فروحي لروحِك اليوم أدْنَى

أتراني إنْ حان حَيْني قَمينًا / أن أرى فِي ذَراك ظِلًّا وسَكْنَا

 

وحين يقترب الشاعر علي الجارم من نهاية رثائه فإنه يلجأ إلى لازمته الشهيرة فيقول “نم قريراً” (على نحو ما قال بعد ذلك للنقراشي نم قرير العين، وعلى نحو ما قال للشيخ عبد الوهاب النجار: نم ملئ الجفون). ثم يختم القصيدة ختاماً ثانيا أبلغ من كل ختام يصل فيه إلى ذروة أخرى من ذرى مديحه لأنطون الجميل وهو يقول له في البيت الثالث والسبعين إن يكن في الحياة صفو، فما عاد للحياة بعد أنطون معنى. والحق أن الجارم مع براعته في هذا الوصف البديع لم يكن يخرج عما ارتآه أقرانه في حق أنطون الجميل من المزايا والشمائل.

 

نَمْ قريرًا، فإنَّ في ضجعةِ القبـ / ـرِ سَلامًا للعاملين ويُمْنًا

وجَدَ الساهرُ المجدُّ وِسادًا / ورأى الطائرُ المحلِّقُ وَكْنَا

إنْ يكنْ في الحياةِ مَعنًى مِن الصفـ / وفَما للحياةِ بَعْدَكَ معْنَى

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com