في أعقاب وفاة والدي رحمه الله (١٩٩٦) زارنا أحد العلماء الأجلاء من زملائه، ولم أكن قد التقيت بهذا العالِم الجليل منذ مطلع السبعينات (أي منذ ربع قرن) حين ذهبت مع والدي للقاء به في بيته في السيدة زينب للعزاء في أحد أقاربه الأقربين، وعلى نحو ما هو معتاد في مثل هذه الزيارات الخاصة التي لا يُفسدها زحام الحضور فقد انفسح المجال لبعض حديث هذا العالم الفذ الذي كان يُتقن الفرنسية على نحو ما يُتقن علوم الشريعة والقانون وإذا بهذا الرجل الفاضل يقول إنه يتابعني عن بعد ويرى فيّ صورة من والدي في كلّ شيء من الطباع والسمت والأخلاق.
في اليوم التالي كان ابن عمتنا في زيارتنا فاستدرجه أحد أشقائي لمثل هذا الحديث فإذا به يقول ما قاله زائر الأمس الكريم، ويزيد عليه أنه باعتباره قد عاصر والدي في كل حياته فإنه يراني قد ورثت طباعه في كل مرحلة من مراحل حياته، كان هذا الحديث بهذا التكثيف جديداً على مسامعي، صحيح أنني لم أكن من الذين يقولون إنهم لن يعيشوا في جلباب أبيهم، لكني لم أكن أظن نفسي أني لبست الجلباب ولم اغادره على حد ما وصف ابن عمتنا، أو أنني لست إلا صورة مطابقة من الأصل على حد ما وصف العالم الجليل.
في اليوم الثالث تحدث شقيقي الأصغر في الموضوع وكأنه قد درسه أو فكر فيه بطريقة واعية إذ أنه بدأ يذكر ما يعتبره فروقا صارخة بين الشخصيتين، وفي الحقيقة فإنه كان صادقا في كل ما ذكره، فقد بدأ بعادات الحياة فقال إن والدي رحمة الله عليه لا يأكل إلا في البيت بينما ابنه لا يأكل إلا من الشارع، وإن الوالد لا يتخذ قراراً يخص السكن أو الانتقال إلا بعد دراسة بينما ابنه يتخذ القرار قبل أوانه، وإن الوالد إذا مشى سار الهوينى بينما ابنه لا يسير إلا على عجل، وأن الوالد لا يقتحم على الناس خصوصيتهم بالسلام بينما الابن لا يكف عن تحية الناس وكأنهم ينتظرون تحيته لهم، وإن الوالد إذا سئل في صميم علمه استمهل السائل حتى يحقق المسألة تماما اما الابن فإنه إذا سئل عن أي شيء ليس له به علاقة أجاب، ومهما قيل عن أن إجابته تكون صائبة فإن أحداً لا يصدق انه ملم بكل العلوم إلى هذا الحد، وأن الوالد صريح بينما الابن مجامل بل إنه لا يمانع في أن يصف نفسه بأنه منافق، وأن الوالد محب للحق بينما الابن محب للحل مهما كان الحل بعيداً عن الحق، وأن الوالد صبور بينما الابن لا يعرف أن هناك معنى اسمه الصبر، ولا يعرف للصبر بداية ولا نهاية، وأن الوالد راض بما قسم الله له بينما الابن فيما يظهر للناس جميعا لا يشبع من المجد، وأن الوالد يعنى بأصول الأشياء بينما الابن يخلق للأشياء أصولاً من عنده هو ربما لا تعرفها الأشياء نفسها، وضرب على هذه الخصلة الأخيرة أمثلة مبهرة تدل على قدرته على النقد والاستيعاب وهما قدرتان تفوق فيهما شقيقنا الصغر علينا جميعا.
كنت في ذلك الوقت قد بلغت من النضج ما جعلني أبتسم وأقول له بكل صراحة إن كل مرافعته تؤكد ما ذهب إليه الناس ولا تؤكد نظرته، وبدأت اترافع عن نفسي بما قبل بعضه، وبما رفض بعضه. لكنني بعيداً عن موضوع هذه القصة، وهو موضوع ذاتي بحت بدأت أتأمل في أحكام البشر على بعضهم البعض حين ينسبوهم إلى آبائهم أو إلى أساتذتهم، ومع أنني كنت أمس هذا الموضوع فيما أكتب إلا أنني بدأت أحاول أن أطور “المس” إلى “تعمق”. وفي طريقي هذا الذي استمر ربع قرن، منذ توفي والدي وإلى الآن، جاءت أكثر من قصة قاسية لاختبار معارفي في هذا المجال، وتعاقبت فصول هذه القصص على مدى تلك الفترة، وأنا لا أزال أتلمس الحقيقة فلا أجدها لكن هذا لا يمنعني من أن أحوم حولها. أول ما ينبغي لنا أن ندرك حقيقته في توارث الطباع هو عامل السن فأنت إذا قارنت تصرفات الأب الآن بتصرف ابنه الآن تكون ظالما للحقيقة، وإنما الأدعى للصواب بالطبع أن تقارن بين السلوكين حين كان الرجلان في نفس السن، فتقارب سلوك الابن الثلاثيني بسلوك والده حين كان في الثلاثين وليس بسلوكه وهو في الستين.
وإذا أردت مزيداً من الدقة فإن السن الذي هو عامل من عوامل ضبط التجربة قادر على إضفاء الموضوعية على المقارنة وجعلها مقارنة عادلة، لكنه في حد ذاته ليس هو كل شيء، وإنما هو جزء من حالة يكون هو “أي السن” أبرز عواملها، وعلى سبيل المثال التبسيطي فإذا كانت بداية نشاط الأب الطبيب تبعا لظروف ذلك الزمان كانت في سن السادسة والعشرين فإنك تستطيع أن تعتبرها موازية لبداية نشاط الابن الطبيب في الرابعة والعشرين في الزمن الذي أصبح التخرج فيه مبكرا عما مضى، وهكذا يمكن لك أن تقارن بدقة أكثر، وقل مثل هذا في كل عنصر من عناصر المقارنة حين يكون بدء الحالة مع فارق في السن قد يبلغ عشر سنوات. ومن المفهوم بالطبع أن المقارنة لا تستلزم الحصول على قدر من المطابقة التامة أو الكلية وإنما هي تقرب الصورة بطريقة التماثل التشبيهي (نسميه في علوم التشخيص الطبي: الآنالوجي).
هكذا فإني أقصد بتقريب الصورة بطريقة التماثل التشبيهي ما يدل عليه هذا التعبير في لغة العصر الذي نعيشه، والمعنى واضح وإن لم يكن من مدخلات آليات التصوير البلاغية فيما مضى، وهو أن التشبيه بآلياته البلاغية المتعددة يقدم صورة تماثلية الوصف وليست صورة رقمية التحديد، وهذا بالطبع مفهوم في البشر.
وربما كانت دراسة التوائم المتطابقة (identical twins) دليلاً على عظمة الخالق سبحانه وتعالى فأنت ترى من التوائم المتطابقة الذين هم في دائرة الضوء كثيراً من الاختلاف في الأخلاق والطباع يجعلك تتنازل عن أي اقتناع مسبق بما بذلنا جهدنا فيه من الحديث عن المعيشة في جلباب الأب، لكنك تستطيع أن تدرك أن ظنك بالتطابق لم يكن إلا نوعا من أنواع التعسف الفكري (أو التكلف) الذي لا مبرر له، ويكفي لتصوير هذا التعسف أن يُطلب أحد من عبد الرحمن توأم الفنان الممثل عماد حمدي أن يحدثك عن شعوره بالتمثيل أو الممثلين أو الممثلات في فيلم ما من الأفلام بينما هو لم يخض هذه التجربة على الإطلاق.
فإذا انتقلت إلى توأمين أكثر شهرة وأضواء مثل علي أمين ومصطفى أمين فإنك تستطيع أن تدرك أن الاختلاف الكبير بين هذين التوأمين كان مرده في واقع الأمر إلى اختلاف دراستهما ومهجرهما الدراسي، فعلي أمين الذي يصورونه طيبا منظَما و منظِما و ملتزما ومرتبا درس الهندسة ودرسها في بريطانيا، أما مصطفى اللامع السامق الماحق اللاعب المؤثر المغامر فدرس العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية وهكذا يمكن لك بكل بساطة أن تتصور كل ما هو متاح من “مخرجات الشخصية” وكأنه نتيجة طبيعية لكل ما كان من المدخلات التي مرت بها هذه الشخصية أو تلك. ومن طريف ما يُروى في شان التوائم ما يحدث عندما يتزوج توأمان من زوجين توأمين، فإذا جاز أن العشرة تمكن الرجلين والسيدتين من التميز فإنك لا تستطيع أن تضمن أن ينجح الأقارب والمقربون في مثل هذا التمييز إلا بصعوبة بالغة.
وإذا جاز أن أخرج بك إلى إطار جديد من الفروق الناشئة بين شخصيات متطابقة من دون أن يكون للمتطابقين ذنب ولا مسئولية عن الفروق المتصورة فإني أذكر لك أنني زاملت توأمين، وكانت المدرسة قد جعلتهما في فصلين منفصلين، وكانا يحصلان على درجات متفاوتة، وحدث ذات مرة أن حاولت بفضول نزق أن اعرف السبب في اختلاف الدرجات التي يحصلان عليها، ولماذا حصل الأول على النهائية بينما حصل الثاني على النهائية ناقصة ما يوازي ثلاثة درجات من عشرة، وتقبل أستاذ جليل القدر من أساتذتي أن يساعدني في هذا الاستقصاء، وتتبعت الإجابة فوجدت الإجابة شبه واحدة في الحالتين، لكن الأستاذ مقدر الدرجات في الحالة الأولى رآها تستحق الدرجة النهائية بينما الأستاذ المقدر الثاني رآها لا تستحق أكثر من سبعة من عشرة، وهكذا بدا المتطابقان غير متطابقين رغم تطابق الفعل. أستطيع أن أمضي بك في ذكر أمثلة كثيرة تدلنا على اختلاف المخرجات بالرغم من تطابق المدخلات بسبب ما نُسمّيه في الحاسبات ظروف المعالجة، أو ما نسميه في النقد: أسلوب المقاربة، لكنني واثق من أن المعنى الذي اردت إيضاحه قد أصبح واضحاً بما فيه الكفاية.
أخيراً، أقص قصة من قصص العباقرة الملهمين، دخلت ذات صباح قاعة تفضي إلى مكتب، لم أكن قد عرفت أن العالم الجليل يجلس هادئا في المكتب مع من أتى للقائه، تحدثت في القاعة بصوت غير عال لكنه مسموع جداً، قال العالم الجليل لمن كان يجالسه: يبدو أن هذا الذي يتحدث في القاعة هو [الأستاذ] الجوادي، سأله جليسه بأدب شديد: ولماذا يبدو؟ كان الجليس يقصد أن يقول لماذا لم يحسم العالم الجليل الامر فيقول بالقطع؟ لكنه لم يدر بخلده أنني لم أكن قد شرفت باللقاء مع هذا العالم الجليل من قبل، وكان هذا شيئاً مخالفا للمعهود في مثل هذه الحالات، أي أن الجليس كان عنده عذره في ان يتصور أننا التقينا مرات لا مرة واحدة، أما العالم الجليل فلم يكن يتصور أن سؤال جليسه يرتبط باليقين والشك، وإنما كان يتصوره يرتبط بالمعرفة، ولهذا فقد أجاب العالم الجليل جليسه بالسبب بكل بساطة: لأن نبرة صوته هي نبرة صوت والده كما هي في أذني منذ أربعين عاماً. ما كان أصغرني في ذلك اليوم أمام نفسي، وما أصغرني اليوم أيضا. رحم الله والدي ورحم زملاءه الأجلاء أحياء كانوا أم أحياء، وأكررها حتى لا يظن القارئ أنها خطأ مطبعي: رحم الله والدي ورحم زملاءه الأجلاء أحياء كانوا أم أموات.