ليس من السهل علي أن أكتب عن أخي الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم ١٩٤٥- ٢٠١٤ باسمه الكامل، وأنا الذي لم أخاطبه أبدا إلا بكنيته المحببة إلى نفسه: أبو همام، ومن الطريف أنه استصفى هذه الكنية لنفسه، واستوفاها من أدب الأستاذ العقاد حيث كان همام هو بطل روايته سارة، ومن الحق أن أقول إن أبو همام اختار لوظيفته في الحياة أن يكون بطل سارة، وأبا لهذا البطل في الوقت نفسه، وكرر اختياره هذا في هوايته وهكذا أصبح الرجل العظيم شاعرا وناقدا للشعر في الوقت نفسه، كما أصبح أستاذا للأدب ومؤرخا لحركة النقد في الوقت ذاته، فلما أنجب اختار لابنه اسم همام كما توحي الكنية، وكنت بعيدا عما يرويه أراه برؤية أخرى، فقد كنت أراه وكأنه في كنيته وأبوته يعبر من حيث لم يصرح التصريح المتأجج عن حبه للشاعر العربي الكبير أبو تمام حبا لا يقل عن حبه المعروف للعقاد.
كان أبو همام نموذجا للناقد اليقظ بكل ما تعنيه الكلمة من معان فهو يقظ للنص، ويقظ لما وراء النص، ويقظ لتاريخ النص، ويقظ لأثر النص، وبالطبع فإنه يقظ لما استوحاه صاحب النصوص من نصوص أخرى سواء بالاقتداء أو الاهتداء أو المعارضة أو التقليد، وهو قبل ذلك وبعده يقظ لشيء أهم، وهو يقظته لنفسه وواجبه تجاهها فيما يتمثل في الحرص لها على وجود في آلية النقد وصورته ومخرجاته، ولهذا فإنه كان قادراً على أن يجتهد من أجل أن يتفرد بأحكام نقدية لم يسبقه إليها غيره.
كان أبو همام بالإضافة إلى يقظته التي ألممنا بها قادراً على الإبانة، وكان هذا من أبرز ما يميزه فلا يمكن لك أن تقول إنه كتب فكرة غامضة، أو أنه لم يستطع أن يعبر عن الفكرة التي راودته وهو يمارس نقده أو وهو يكتب دراسته، وقد كان بحكم التمكن من مهارة الباحث الكاتب قادرا على استدعاء الأفكار في توال ورشاقة بحيث يبدو وكأنه لا يفعل إلا الاستطراد، أو بحيث يبدو وكأنه يكتب في تعاقب مع النص وتعانق مع المعنى بينما الأفكار نفسها تذكره بنفسها، لكنه في حقيقة الأمر كان يملك بعدا أعمق من هذا وهو مهارة الربط الذكي بين الأفكار بحيث تبدو وكأنها تصنع كيانا واحداً مؤتلفا غير مختلف مع قدر من التداعي الحر الذي يجعلك لا تترك النص، ولا تمل مما يقدمه لك فيه مهما كانت المعاني التي يقدمها بعيدة عن الحياة العامة ومتصلة بالحياة الافتراضية بما فيها من التصوير والاستعارة وما تحث عليه من التأمل والاستثارة.
ولا جدال في أن تاريخ الأدب العربي قد فقد أبا همام في الوقت الذي كان الباحثون والأكاديميون يتوقعون منه أن يبدأ سلسلة من الأعمال الكبيرة التي تتوج دراساته العديدة التي أنجزها بذكاء وعناية عن أدبنا العربي المعاصر الذي عاش معه وعاش فيه، وكان قد بدأ هذه الأعمال بدراسات رائعة عن عدد من أعلام الشعراء الذين لم يحظوا حتى الآن بنظرة شاملة مستوعبة لمجمل إسهامهم الشعري، وكان من هذه الدراسات كتابه الأكثر أهمية عن مدرسة ما بعد الديوان، حيث قدّم شعراء هذه المدرسة تقديما علميا أكاديميا لم يُسبق إليه فيما يتعلق بهذه المدرسة، وأضاف للمكتبة العربية دراسات مستفيضة عن شعراء لم يسبق لأحد أن كتب عنهم بهذا التوسع الواعي مع الحاسة الأكاديمية المستوعبة والنقدية العالية.
كان لي الشرف أن ناقشت أبا همام في كثير مما كتبه فوجدته متحفّزاً ومشحونا بما كان ينوي أن يقدمه في هذا المجال، ولأني لا أعرف على وجه التحديد ماذا ترك من نصوص جاهزة للنشر وما لم يترك فإني أتمنى أن يكون قد شمل بدراساته كل من يستحقون عنايته النقدية والأدبية من الشعراء المعاصرين.
كان أبو همام قبل كل شيء شاعرا ، بل لعل الشعر كان ايسر عليه من النقد والدرس على نحو ما توحي التورية في العنوان الذي وضعته للحديث عنه، لكنه في الوقت ذاته كان يتايمن في نقده على نحو ما توحي به أيضا التورية في عنواني، وكان من الطبيعي إذاً ان يختار أبو همام موضوعات دراساته النقدية على نحو لا يخلو من الحب أو من التعاطف على أقل تقدير، ولهذا السبب فقد كان من النقاد الذين يحبون من ينقدون عملهم وإبداعهم ولم يكن من الذين ينتصرون لفكرة يعلونها على صاحبها أو على غيرها من الأفكار، كما أنه كان معنيا بالجمال والبيان في المقام الأول يلتمسهما معاً من دون أن يبحث عن التناقض بينهما أو عن مأزق من مآزق اللغة الشاعرة التي تحاول أن تضع بصمتها على ما تراه، ولأن أبا همام شاعر فإنه بعقله الباطن كان يتصور نفسه في مكان الشاعر على نحو ما هو في موضع الناقد، ومن ثم فإنه كان بحرفية الأستاذ الذي لا ينحاز لنفسه وإنما ينحاز للحقيقة التي يريد أن يقدمها، يبحث للشاعر عن التفسير الكفيل بإبراز موهبته في الخلاص من مآزق المفارقة بين الشعور والتعبير وما بين الكينونة المبتغاة والشعرية القلقة، وما بين إشراقة المعنى بلفظه وظلاله القائمة ومعاناة المبدع مما حوله من الظلال القاتمة.
وكان أبو همام يفعل هذا كله بحس الشاعر الممارس لا بحس الفيلسوف أو دارس الفلسفة الذي يذهب بعيداً في اجتلاء المعاني الفلسفية التي تفرض نفسها على صاحب الفكرة والشعور، لهذا فإنك لا تستطيع أن تجد في نقد الدكتور أبو همام ولا دراساته نزوحا إلى فلسفة التعبير ولا إلى فلسفة الشعور، وكأنه ترك الحديث عن فلسفة التعبير لمدرسة زميله السابق عليه بسنوات قليلة الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف (1941 ــ 2015) حين درس بناء الجملة الشعرية، وكأنه ترك الحديث عن فلسفة الشعور لزميلهما السابق عليهما بسنوات أخرى الدكتور صلاح فضل (المولود 1938) وهو يتحدث متسلحاً بالفلسفات النقدية التي تفسر اللغة نفسها حتى لو اقتضاها هذا أن تفككها.
أصدر أبو همام ستة دواوين متفرقة كانت جميعا من الشعر العمودي:
– الخوف من المطر (1974)
– لزوميات وقصائد أخرى (1985)
– هدير الصمت (1987)
– مقام المنسرح (1989)
– أغاني العاشق الأندلسي (1992)
– زهرة النار (1998)
وقد تُرجمت بعض قصائد أبي همام إلى الإسبانية والفرنسية والإيطالية، كما كُتبت دراسات عن شعره بالإسبانية، وأجيزت عدة رسائل تدرس شعره وتحلل دواوينه.
– المازني شاعرًا (وهو رسالته للماجستير قبل بعثته إلى إسبانيا)
– شعراء ما بعد الديوان
– في الشعر العماني المعاصر (كتبه أثناء إعارته بجامعة السلطان قابوس)
– في الحديث النبوي
– حديث الشعر
– تحقيق التراث
– حدائق الأزاهر في مستحسن الأجوبة والمضحكات والأمثال والنوادر (لابن عاصم الغرناطي المتوفي سنة 1426): طُبع في بيروت، ثم أعادت نشره دار الكتب المصرية.
– مخطوطات أخرى نادرة لم تُنشر، منها كتاب “الفصوص” لصاعد البغدادي، ومخطوطات أخري لابن الخطيب وابن حاتم الأندلسي.
– خاتمان من أجل سيدة (مسرحية، 1984)
– قصائد من إسبانيا وأمريكا اللاتينية (1987)