إذا أردنا نموذجا للمثقف العربي الفذ الذي يوصف بأنه تولى السلطة فلم يفدها ولم تفده، ووصم بها على الرغم من أنه لم يذق طعمها إلا قليلا فإنه هو صلاح الدين البيطار (191٢ ــ 1980) الذي كان باختصار شديد شريكا لميشيل عفلق (1910 ــ 1989) في تأسيس حزب البعث ثم شريكا له في الائتلاف مع الحزب الاشتراكي بقيادة أكرم الحوراني ١٩١١- ١٩٩٦ لتأسيس ما سمي بحزب البعث العربي الاشتراكي ثم كان وزيراً للخارجية السورية قبل الوحدة مع مصر ثم رئيسا للوزراء أربع مرات بعد الانفصال عن مصر، بل إنه من حيث الاسم أبرز رئيس وزراء سوري منذ قامت ثورة 1952 في مصر، ومع هذا كله فقد رفض هذا الرجل العمل مع نظام الرئيس حافظ الأسد، ونفى نفسه إلى باريس حيث يُقال إن المخابرات السورية نفسها هي التي اغتالته بمسدس كاتم للصوت في باريس بينما كان رفيق حياته ميشيل عفلق مقيما مع القيادة القومية للبعث في بغداد، وقيل يومها إن أحد الأسباب التي قد تبرر اغتياله ربما كان هو الحيلولة بينه وبين الانضمام إلى ميشيل عفلق في العراق فيكون المؤسسان للبعث مقيمين في العراق مما يُضعف من قيمة البعث السوري الذي أصبح بمثابة “أحد الممتلكات والمرتكزات” لرئيس الجمهورية السورية القوي الرئيس حافظ الأسد (1930 ــ 2000).
قبل أن نستعرض تاريخ حياة صلاح الدين البيطار نذكّر أنه كان يصغر ميشيل عفلق بعامين، ويصغر أكرم الحوراني بعام كما نذكر أن ميشيل عفلق عاش بعده 9 سنوات وهكذا عاش صلاح الدين البيطار 68 عاماً، وعاش ميشيل عفلق 79 عاما أما أكرم الحوراني الذي كان عام مولده فيما بين عاميهما فقد عاش 84 عاما، وعلى حين تولى أكرم الحوراني منصب نائب رئيس الجمهورية مع الرئيس عبد الناصر وتولى صلاح البيطار مناصب وزارية ورئاسة الوزراء فإن ميشيل عفلق كان مقلاً في المناصب ومع هذا فقد تولى وزارة التعليم قبل الوحدة، لكنه مقارنة بالبيطار عاش مكتفيا بالزعامة التاريخية في المقام الأول، ولا شك في أنه تمتع بالزعامة الفكرية منذ بدأ الفكر البعثي وحتى الآن، مهما كانت الانتقادات التي توجه إليه، أو اللعنات التي تصب عليه من كثيرين من أعدائه ونقاده على حد سواء.
وعلى حين كانت ثقافة ميشيل عفلق الأولى مرتبطة بالآداب فإن ثقافة صلاح الدين البيطار الأولى كانت مرتبطة بالعلوم لكنهما تزودا معا بالثقافة الفرنسية فيما بعد الجامعة، وعن طريق باريس عرفا الاتجاهات الاشتراكية أو التقدمية، عن قرب، وعن طريق استيعاب التجارب الأممية التي كان تاريخها الحقيقي يُتناقل شفاهة على المقاهي في باريس عرف هذان الرجلان وأشباههما الطريق إلى العمل المنظم من أجل خلق كيان سياسي حزبي أو متحزب مكتمل لا يزال قائما حتى يومنا هذا، حتى مع اضمحلاله، ولا شك في أن الكيان الذي أوجداه مع أقرانهما يمثل النموذج البارز للنجاح الأيديولوجي في عصر الأيديولوجيات أو عصر الحرب الباردة من قبيل الاختصار الموحي، ذلك أنه لولا عصر الحرب الباردة ما كان من الممكن لحزب البعث أن يتأسس ولا ان يتكرس، ولا أن يمتد ولا أن يشتد، ولا أن يواصل ولا أن يناضل، ولا أن يشارك ولا أن يبارك.
لم يكن اسم حزب البعث هو أول الأسماء التي لجأ إليها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وإنما كان اسم “الإحياء العربي” هو الاسم الأول الذي اعتمداه في 1939 وهو اسم يحمل الظلال الموحية ببدء حركة جادة وفاعلة تكفل وجود حياة جديدة من حياة سابقة
أما من شرفة التاريخ العربي المعاصر وباختصار تاريخي يبدو أيضا وكأنه مخل بالحقيقة (ولكنه متصل بالتجربة ومن ثم فإنه قد يمثل الحقيقة الناقصة) فإن حركة البعث التي باتت تعرف على أنها تغذت على أفكار ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار لم تحقق طيلة حياتها إلا فوزاً حقيقيا واحداً فقط هو فوزها على التجربة الناصرية، وهذا لا ينفي بالطبع أنها حققت نجاحات متعددة على فترات متباعدة في بيئات متعددة لكن هذه النجاحات كانت بمثابة أهداف تقابلها أهداف مضادة من خصومها بما لم يحسم لها فوزاً كاملا، أما فوزها الحقيقي والوحيد فقد كان على الناصرية، وهو فوز لا يُستهان به على الاطلاق ذلك أن الرئيس جمال عبد الناصر كان شيئاً كبيراً وكبيراً جداً حتى وإن كانت الناصرية هشة، بل هشة جداً.
جمع صلاح الدين البيطار في نشأته المجد من أطرافه، فقد نشأ في عائلة من عائلات الفقه والعلم والفضل، كان أجداده من العلماء وكان جده المباشر من الفقهاء المعدودين وكذلك كان والده وأعمامه الثلاثة، وقد تلقى تعليمه العام في دمشق فلما انتهى من الثانوية التحق مباشرة بجامعة باريس فدرس الفيزياء، والتقى في ذلك الوقت بميشيل عفلق الذي كان يدرس التاريخ والفلسفة، وبعد عودتهما عملا معا في مدرسة التجهيز الكبرى، وبدأ نشاطهما لكن عيون الحكومة كانت يقظة، فقيدت نشاطهما، فاستقالا، واختارا لنشاطهما مقهى الطاحونة الحمراء بالقرب من المدرسة التي عملا فيها، ولم يمنعهما الإيحاء الباريسي الذي يحمله اسم ذلك المقهى من اتخاذه مقراً لنشاطهما، فقد كانا يتمتعان بالذكاء العملي الكفيل بخلق الحركية المواتية في الزمن السريع .
وفي هذا المقهى أسسا مجلتهما “الطليعة” التي أصبح اسمها موحيا بعد ذلك حتى إن سميتها المصرية عرفت على أنها المرجع الأكاديمي والعملي لليسار المصري بل وللتنظيم الطليعي المصري نفسه، وربما أن التنظيم الطليعي المصري نفسه استمد اسمه من اسم مجلة البيطار كما حدث مع كثير من المنظمات الاشتراكية والشيوعية المصرية التي اعتمدت على هذا اللفظ واشتقاقاتها بديلاً عن مشتقات لفظة الريادة وما يرادفها.
لم يكن اسم حزب البعث هو أول الأسماء التي لجأ إليها ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وإنما كان اسم “الإحياء العربي” هو الاسم الأول الذي اعتمداه في 1939 وهو اسم يحمل الظلال الموحية ببدء حركة جادة وفاعلة تكفل وجود حياة جديدة من حياة سابقة، وبالطبع فإن المناقشات الذكية كانت هي التي قادت الرجلين إلى اختيار كلمة “البعث” في 1945 لتكون بديلاً أكثر دقة وبلورة وجاذبية وخلودا من كلمة “الإحياء” فضلاً عن سهولة النسب إليها، وسلاسة تضمينها في الاشتقاقات المختلفة. في 1946 تم انتخاب أول مكتب سياسي للبعث، وانعقد أول مؤتمرات الحزب في 1947 وانتخب صلاح الدين البيطار نفسه أمينا عاماً للحزب في ذلك العام، وفيما بعد عدة سنوات من النشاط الواثق اندمج البعث مع حزب أكرم الحوراني في 1953.
كان صلاح الدين البيطار قد بدأ في 1948 مواقفه القوية والذكية حيث عارض مساعي شكري القوتلي لمد رئاسته، وهكذا تقرر سجن البيطار في خارج دمشق، فلما انبعث شقاء اول انقلاب عسكري بقيادة حسني الزعيم في مارس ١٩٤٩ وهو كما عرف بعد ذلك ونشر انقلاب امريكي صرف كان من الطبيعي أن يكون البيطار من المعتقلين، وكان من الطبيعي أيضا أن يفرج عنه الانقلاب الثاني بقيادة سامي الحناوي، وكان من الطبيعي أيضا أن يقرر الانقلاب الثالث بقيادة أديب الشيشكلي اعتقاله لكنه استطاع الهرب إلى بيروت، واستطاع أيضا أن يشارك في إطاحة الشيشكلي فيما عرف بربيع الديموقراطية في 1954، ومن ثم اختير وزيراً للخارجية في وزارتي صبري العسلي الثالثة والرابعة .
بقي من صلاح البيطار كثير من النجاح الفكري والسياسي، كما بقي ذكره في الأدبيات الناصرية محملا بالهجوم الدائم والدائب وربما غير المبرر في بعض الأحيان، وكان وجوده عضوا بارزا في وزارة الوحدة بمثابة تحد كبيرا أمام نظرائه المصريين
فلما جاء عهد الوحدة مع مصر أصبح صلاح الدين البيطار وزيراً أيضا للثقافة والإرشاد القومي في أكتوبر 1958 وهو المنصب الذي تولى مسئوليته التنفيذية في مصر ثروت عكاشة لكن صلاح الدين البيطار لم يصبر على التعاون مع الرئيس عبد الناصر وسرعان ما استقال في ديسمبر 1959 قبل أن يمضي عامان على الوحدة، فلما حدث الانفصال وقع صلاح الدين البيطار على وثيقة الانفصال فلما استنكر الإخوان المسلمون الانفصال، وجد البيطار أن الأولى بتوجهه العروبي أن يستنكر هو أيضا الانفصال. ولما وصل حزب البعث إلى السلطة بانقلاب 8 مارس 1963 تقدمت مكانه صلاح الدين البيطار في السلطة وأصبح بمثابة رئيس الوزراء وشكل أربع وزارات وشارك في الحكم في عهدي لؤي الأتاسي وأمين الحافظ لكنه تعرض للاعتقال عند نجاح انقلاب صلاح جديد في 23 فبراير 1966 واستطاع الفرار إلى لبنان على نحو ما كان قد فعل في أيام الشيشكلي، ومع هذا فقد صدر حكم غيابي بإعدامه !! في 1969.
في يناير 1978 وبعد أن بدا أن الطريق بين الرئيسين السادات والأسد أصبح مختلفا للأبد رأى الرئيس السوري حافظ الأسد أن يستعين بصلاح البيطار بعد أن استقر ميشيل عفلق في العراق وتولى الرئيس الأسد بنفسه محاولة إقناع البيطار دون جدوى. وعاد البيطار إلى باريس وبقي بها حتى تم اغتياله في 21 يوليو 1980 في العاصمة باريس، ونقل جثمانه ليدفن في بغداد، ومن الجدير بالذكر أن ميشيل عفلق مات أيضا في باريس ولكن في المستشفى.
بقي من صلاح البيطار كثير من النجاح الفكري والسياسي، كما بقي ذكره في الأدبيات الناصرية محملا بالهجوم الدائم والدائب وربما غير المبرر في بعض الأحيان، وكان وجوده عضوا بارزا في وزارة الوحدة بمثابة تحد كبيرا أمام نظرائه المصريين جميعا، وأمام من كانوا يقارنون به بحكم مسئوليتهم من قبيل الدكتور محمود فوزي (الخارجية) بتحفظه وصمته، أو ثروت عكاشة (الثقافة والإرشاد القومي) بقلة محصوله الفكري النظري، لكن البيطار بكل تأكيد لم يكن وقتها مزعجاً للمصريين من حيث لم يكن يملك دبابة ولا بندقية.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا