انتقلنا من مدرسة المتفوقين بكل جاهها وسلطانها ورصانتها وأساتذتها العظماء إلى جامعة القاهرة وبدأنا عامنا الجامعي الأول بأن أدينا بعض الخطوات الشكلية (من قبيل الكشف الطبي الصوري) وهي الخطوات التي كان المقصود منها أن تكون موحية لنا بكيان جديد لكننا كنا نكتشف في كل خطوة أن الكيان الجديد أقل تقدما وتنظيما من الكيان الذي قدمنا منه، وليس هذا مستغربا، استخرجنا بطاقة الطالب من كلية طب قصر العيني وتوجهنا من فورنا إلى كلية العلوم في الحرم الجامعي في الجيزة كي نقضي سنة إعدادية كاملة قبل أن تنتقل إلى أولى سنوات كلية الطب.
وعلى مدى ذلك العام كنا نتمم قليلا من إجراءاتنا من خلال كلية الطب في شرق النيل وكثيرا منها من كلية العلوم في غرب النيل، وبالانطباع الأول الذي يصفونه (في الأمثال الإنجليزية) بأنه أفضل الانطباعات أحسسنا أن الكيان الذي تمثله كلية العلوم أكثر انضباطا ومنطقية من كيان الطب، ومع الأيام ترسخ هذا الاعتقاد، كنا نقضي سنة في كلية العلوم لنمثل فيها فرقة من ثماني فرق تضمها تلك الكلية وهي بالتحديد السنوات الأربع لكلية العلوم وأربع سنوات إعداديات لكيات الطب وطب الأسنان والطب البيطري والصيدلة، ورغم هذه الآلاف المؤلفة فقد كانت الكلية تسير كالساعة المنتظمة في رحاب الجامعة واسعة الأرجاء..
وفيما يخصني فقد أنعم الله علي بكثير من النعم الغزيرة وأنا في كلية العلوم، فقد تم اختياري طالبا مثاليا لكلية العلوم ثم طالبا مثاليا للجامعة كلها، وبالبروتوكول الجامعي المتبع في ذلك الحين فقد ظل اللقب معي، وكان هو اللقب الذي أعتز به فيما يعرف بالكارت الشخصي المطبوع business card، وكنت (من باب الغرور القاتل الذي لم يكن له مبرر ظاهر إلا الغرور، ولا باطن إلا تقليد الوالد رحمه الله) أطبع لنفسي كارتا شخصيا منذ أصبحت طالبا في أول المرحلة الإعدادية، وهو ما لم يسمح لي به قبل ذلك إلا في حدود الآلة الكاتبة لا المطبعة، كذلك فقد كنت عضوا منتخبا في اتحاد طلاب كلية العلوم عن إعدادي الطب، ومثلت كلية العلوم في أكثر من عشرة أنشطة جامعية فزنا فيها سواء كانت على المستوي الجماعي أو على المستوى الفردي.
كان نظام السنة الإعدادية معمولا به منذ عقود، وقبل أن يستطيع أساتذة الطب بجاههم ونفوذهم أن يلغوه نهائيا، ويجعلوا طالب الثانوية العامة يدخل إلى السنة الأولى من كلية الطب مباشرة وبدون قضاء هذه السنة الإعدادية ولا النجاح فيما يعادل مقرراتها، وبدون المرور أصلا على كلية العلوم ولو من باب الزيارة أو السياحة.. وقد حدث هذا فيما يوازي الدفعة التي تخرجت عام 1987 فهذه الدفعة لم تمر على كلية العلوم بينما دفعة 1986 مرّت على كلية العلوم.. وكنت في القسم الذي أعمل فيه ألفت نظر الجميع إلى أن الدكتور طارق نجيب (من دفعة 1986، وهو رئيس القسم الآن) هو آخر الطوارق، أي الذين طرقوا باب كلية العلوم، وكان هو ثالث زميل في القسم يحمل اسم طارق، ولم يأت بعده طارق لمدة طويلة، وكان الفهم الظاهر للتسمية ينصرف إلى أنه ثالث وأصغر طارق بينما كان المقصود أنه من آخر دفعة طرقت باب كلية العلوم قبل الطب، لكن أستاذنا الدكتور لطفي بثقافته كان مصمما على أنني أقصد معنى ثالثا وهو أنه ينتمي بطباعه أو ينتهي بنسبه إلى طائفة الطوارق في المغرب العربي، ومن المدهش أن الدكتور طارق نفسه لم يُعن بأن يدرس أي وجه شبه أو اختلاف بينه وبين الطوارق.
ذهب أصحاب مذهب التأويل من زملائنا (الأساتذة) سواء في الطب أو في غيرها من الكليات إلى أن السبب في الكفاح الذي خاضه أساتذة الطب من أجل إلغاء السنة الإعدادية أنهم كانوا يريدون أن يجنبوا أبناءهم الوقوع تحت حكم أساتذة العلوم بما قد يتعارض مع ما هو متوقع من حصول هؤلاء الأبناء على الإكرام في امتحانات الطب، ومن الطريف أن درجات امتحانات كلية العلوم كانت تتوزع على النظري والعملي ولم يكن فيها محل للشفوي الذي يمكن الإكرام فيه وكان أساتذة العلوم يقولون بذكاء معروف عنهم إنهم لا يمانعون في أن يتولى أساتذة الطب تقدير الدرجات أو أن يشاركوا فيها وكان الأطباء يبتسمون لأن المشكلة لا تتعلق بالامتحان نفسه وإنما تتعلق باللا امتحان.
ومع هذا ومن باب إحقاق الحق التاريخي فإن القانون نفسه لم يكن يحسب تقدير السنة الإعدادية في التقدير النهائي لكلية الطب حين كان حساب التقدير محدوداً بحساب مرتبة الشرف، فلو فرضنا مثلاً وجدلاً أن طالبا حصل على الامتياز في كل سنوات الطب بينما لم يحصل في السنة الإعدادية إلا على تقدير مقبول فقد كان من حقه أن ينال مرتبة الشرف الأولى.. لكن الطبيعة البشرية كانت تسأل سؤالاً منطقيا: ما هو الضمان أن يظل الوضع على ما هو عليه إذا جاءت موجة تعديلات قانونية تفرض وضعا جديدا ومن ثم يكون من الصعب أن يتم الإبقاء على هذا الاستثناء، وهو ما بدا أنه على وشك الحدوث.
تضاعفت الخطورة النظرية حين بدأ التفكير في الأخذ بأسلوب المجموع التراكمي على نحو ما هو متبع الآن.. فقد كان أساتذة الطب من الوعي بحيث إنهم كانوا يتحسبون من أن يأتي وقت الموافقة على نظام المجموع التراكمي في وقت تكون هذه السنة الإعدادية لا تزال خارج قبضة أيديهم.. وهكذا كانت المسارات المتوازية تصب في الاتجاه إلى إلغاء السنة الإعدادية وقبول الطلاب في كلية الطب من دون المرور بكلية العلوم، وذلك اتساقا مع الزعم المفهوم بالطبع بأن دراسة الطب بمقرراته المتكدسة أحوج ما تكون إلى مثل هذه السنة الكاملة.
لست أذيع سراً (هو في الحقيقة غير مذاع) أن أقول إن المناقشات في هذه القضايا وصلت إلى تحكيم الرئيس مبارك نفسه، وقد يكون من المذهل لمن يقرأ ما أكتبه الآن أن يعرف أن الرئيس مبارك انحاز إلى المجموع التراكمي لسبب طريف جداً وهو أن هذا هو الأسلوب المتبع في الكليات العسكرية، وقد كان هو نفسه مديراً (عميداً) لإحدى هذه الكليات. لا أستطيع أن أمضي من دون أن اذكر طرفة في هذا الموضوع الذي كنت قريبا من إعداده وصياغته، فكنت إذا تحدثت بالمنطق في أيّ جزئية منه نهرني أساتذة الطب الكبار بحب وعطف قائلين: اسكت أنت الآن فأنت لا تزال شابا ولم تصبح أباً.. وكنت أصمت بطبعي الخاص وبالطبع العام، إذ لم يكن هناك فرصة لأي بديل غير الصمت فضلاً عن أنني كنت أصغر من أن أتعلم أو أتكلم.
أما وقد انتهيت من الطرفة فلا بد أن اذكر الحقيقة المرة وهي أن المرحلة الإعدادية لدراسة الطب في الولايات المتحدة الأمريكية لا تقتصر على سنة واحدة وإنما تتطلب دراسة أربع سنوات كاملة يحصل الطالب فيها على بكالوريوس العلوم قبل أن يبدأ دراسة الطب. ولهذا السبب فإنك تراني أنا وأساتذة الطب المصريين جميعا نتحدث عن أننا تعلمنا طبقا للنظام البريطاني ولا نقول أبداً تبعا للنظام الأمريكي.. والفارق كبير بالطبع. ومع هذا فإن دراستنا للكتب الأمريكية قاربت بيننا وبين المدرسة الأمريكية تماما لكنها لم تفعل الفعل نفسه في نظرتنا إلى الطب وعلوم الطب، ولعل هذه العبارة تفسر لزملائي الأطباء من قبل أن تفسر لغير الأطباء ما يرونه في مواقف كثيرة من بعض الزملاء الأطباء الكبار الممارسين والمتميزين من حيود ظاهر أو ابتعاد عن البناء العلمي في الفروض والنتائج.
وعلى كل الأحوال فإن خريجي دفعة آخر الطوارق (ببلوغهم الستين) سيتركون وظائف الأساتذة العاملة خلال عامين أو ثلاث بإذن الله ويكون كل أساتذة الطب العاملين من الذين لم يمروا على كلية العلوم وإنما تخرجوا في الطب 1987 وما بعدها بعد أن حصلوا على الثانوية العامة في 1981 وما بعدها. يعرف القراء بالطبع أن كليات طب الأسنان والصيدلة والطب البيطري لم تتبع ما نهجته كليات الطب في الخلاص من السنة الإعدادية وأنها ظلت تدرس لطلابها سنة إعدادية في كلية العلوم. وربما يعرف القراء أيضا أن بداية السنة الإعدادية في كليات الطب جاءت مع تحويل مدرسة الطب إلى كلية الطب، وتحول دبلوم الطب إلى بكالوريوس الطب، ذلك أن الطب كانت مدرسة عليا منذ عهد كلوت بك حتى قامت الجامعة فانضمت إليها، وكانت دفعة 1929 في كلية الطب هي أولى الدفعات التي تخرجت من “الكلية” على حين كانت الدفعات السابقة قد تخرجت من المدرسة.
وقد استتبع انضمام الطب إلى الجامعة أن يكون في مناهجها الدراسية ومقرراتها أو ما نسميه بلفظه الإنجليزي نفسه (curriculum) دراسة ترتبط بأصول العلوم البيولوجية والكيمائية والفيزيقية، ومقدمة للغة اللاتينية التي صيغت منها المصطلحات الطبية في اللغات الغربية، وهو ما كانت تقدمه كلية العلوم من خلال أربعة أقسام هي أقسام علم الحيوان وعلم النبات وعلم الكيمياء وعلم الفيزيقا، وكانت دراسة الكيمياء نفسها تتم في ثلاثة أقسام فرعية هي الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية والكيمياء الطبيعية، وكانت دراسة علم الحيوان تشمل مقررات نظرية وعملية في تشريح الحيوان وفي علم وظائف الأعضاء.
أختم بفقرتين في غاية الإيحاء والدلالة، الأولى أن من الطريف الذي قد لا يتكرر أن التخصص الدقيق لعميد الطب حين أصبحنا طلابا في الجامعة كان هو علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجي)، وأن التخصص الدقيق لعميد كلية العلوم وكان أستاذا لعلم الحيوان كان علم وظائف الأعضاء في المملكة الحيوانية، وأن التخصص الدقيق لوكيل الكلية وكان أستاذا لعلم النبات كان أيضاً هو علم وظائف أعضاء النبات في المملكة النباتية. الفقرة الثانية أن عميد كلية العلوم (الأستاذ الأشهر محمد فوزي حسين) كان هو الرئيس المنتخب لمجلس إدارة نادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، وأن نائبه في هذا المجلس كان هو عميد الطب (الدكتور حسن حمدي) الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجامعة. أما وكيل كلية العلوم الدكتور أحمد خليل فكان يجمع معه الوكالة منصب عميد كلية ناشئة مهمة جدا هي كلية التربية بالفيوم التي كانت نواة جامعة الفيوم كلها.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا