كان الشيخ نصر الهوريني واحدًا من عباقرة الأزهر الموهوبين والموسوعيين في دراساتهم اللغوية والأدبية الذين وظفوا موسوعيتهم من أجل اللغة العربية، فوضعوا الأساس المتين للدراسات اللغوية في متن اللغة ومعاجمها، ورسموا طرقا مبتكرة لتوحيد الكتابة العربية. وفضلًا عن هذا، فإن الشيخ الهوريني حقق عددا من الكتب المهمة، وشرح عددا آخر، وهو من أبرز أبناء جيله الذين أفادتهم الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية في تطوير المنهج العلمي. وعلى عادتنا في ضبط سياق التاريخ العلمي فإننا نكرر قولنا المجمل بأن الشيخ محمد عمر التونسي (1789 – 1857) هو رائد واضعي معاجم المصطلحات، والشيخ محمد قطة العدوي (1795 – 1861) هو عميد المحققين، والشيخ الهوريني (المتوفى 1874) هو عميد علماء المعاجم والنسخ والإملاء، وقد توج الشيخ إبراهيم الدسوقي ١٨١١-١٨٨٣ هذا كله بأن أصبح عميد علماء اللغة العربية في عصر المطبعة.
يلقب بأبي الوفاء، ومن الطريف أن والده كان اسمه نصر أيضا، وهو أمر نادر، وهكذا فإن اسمه على الطريقة الحديثة في كتابة الأسماء يصبح: نصر نصر يونس الوفائي الهوريني. هو واحد من العلماء المعاصرين لرفاعة الطهطاوي (1801-1873)، وقد كان من علماء الشافعية، وكان يحرص على أن يثبت نسبة نفسه إلى المذهب الأشعري، وقد تولى التدريس بالأزهر، ومدرسة الألسن، وسافر إماما لبعثة علمية في فرنسا في عهد محمد علي (كما كان الحال مع رفاعة) فساعده ذلك على معرفة لغتها، وتعمق في مناهج اللغة العربية والبحث بها، وإن كان مجد الشيخ رفاعة (الذي توفي قبله بعام) غلب على مجده بسبب شهرة من يتصدون للعمل العام. وحين اختير الهوريني للعمل بالمطبعة الأميرية كان أبرز مَنْ نشطوا في العمل بها تصحيحا وتحقيقا، وشرحا وتأليفا، ثم تولى رياسة تصحيح المطبعة الأميرية، وتولى في أثناء عمله في المطبعة تصحيح عدد كبير من كتب العلم، والتاريخ، واللغة على حد سواء.
مع هذا فقد عرف الشيخ نصر الهوريني على نطاق واسع بالتفوق في مجال التحقيق، بسبب إشرافه على طبع القاموس المحيط وتحقيقه، ويرى دارسو اللغة أنه هو العالم الذي يستحق أن ينسب إليه فضل الإلمام بفك رموز القاموس المحيط، ومعرفة إشارته، وطريقة الاهتداء إلى معانيه، وقد أنجز الهوريني هذا من خلال مقدمة علمية جميلة تضمنت الموازنة بين المعاجم العربية واصطلاحاتها المختلفة، وكانت أساسا متينا لكل ما كتب بعد ذلك في تاريخ المعاجم العربية، من عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي وحتى الآن. ويمكن لنا القول بلا مبالغة بأن الهوريني أحرز تفوقه في علوم «المعجمية العربية» بفضل تمكنه العميق من علوم اللغة وبخاصة فنون النحو والاشتقاق والتصريف، فضلًا عن بصيرته النافذة والناقدة في اللغة العربية، وهي بصيرة مستنيرة غذتها وعمقتها اللغة الأخرى التي اطلع عليها وتمكن منها.
ومن أجل إنجاز دراسته العظيمة في تاريخ المعجمية العربية رجع الشيخ الهوريني إلى كتب عديدة كان منها شروح المناوي والفاسي والزبيدي على القاموس، كما أنه لم يدرس القاموس بعيدًا عن واضعه، فقد ترجم للفيروز آبادي ترجمة وافية، وأبان عن فضله وما تميز به من منهج علمي وقدرات خارقة كشف عنها منهجه في تأليف القاموس. ومع أن أكثر الكتب التي رجع إليها الشيخ الهوريني كان لا يزال مخطوطا عندما نشر مقدمته العظيمة، فإنه أتم دراسته على هذا النحو الجميل الذي وصفه الدكتور محمد رجب البيومي بأنه: «يوحي بقوة الإرادة، وشدة الحزم، لأن قراءة النصوص اللغوية في اشتقاقاتها الغريبة المتنوعة مجهدة ومتعبة، فإذا كانت هذه القراءة في مخطوطات متآكلة ومخرومة فإن الإجهاد أشق، والكفاح مرير». «وقد حذر الهوريني مبكرًا قارئ القاموس المحيط من التعجل في القراءة، لأن المركب صعب، والعدة غالية الثمن، إذ تتطلب غوصا على خفايا التركيب، ودلالة اللفظ مجردا ومزيدا، وهذا ما لا مبالغة فيه».
ولما كان صاحب القاموس المحيط قد تعمد (أو اضطر إلى) أن يضع مقدمة عويصة المعنى تحتاج إلى شرح كاشف، فإن الشيخ نصر الهوريني ـ كما قرر أستاذنا الدكتور البيومي ـ قد تولى ـ بعد عصور من وضع القاموس المحيط ـ كتابة هذا الشرح، الذي كان صاحب القاموس يتمناه، على وجه مسهب رائع حقا! حتى كادت هذه الديباجة أن تفرد بسفر مستقل، لنفاسة ما جمعت من فنون الشرح والتحقيق، وقد دلت على وفرة المصادر بين يدي الهوريني، ومن بينها مصادر لم تطبع حتى الآن.
كان للشيخ نصر الهوريني تفوق في مجال آخر من مجالات خدمة اللغة العربية، فهو الذي تولى ضبط الرسم العربي للكتابة، وحروف الإملاء، فقد كانت كتب التراث لا تتقيد في الرسم الهجائي بقواعد متفق عليها، وكان كل مؤلف يكتب بما عنّ له، ومن ثم فقد كانت الهمزة ترسم على نحوٍ ما في كتاب، وعلى نحوٍ مغاير في كتاب آخر، وهكذا غيرها من حروف المد والوصل والقطع والعلة، مما يسبب ارتباكا لغير الدارس المتخصص، حتى جاء الشيخ نصر الهوريني فنشر كتابه «المطالع النصرية للمطابع المصرية»، ليكون بمثابة دليل عمل يجمع الطابعين على منهج واحد، ولم يتم له ذلك دون دراسة فاحصة لأقوال الأئمة في الرسم العربي، ومعارضتها بما اشتهر في كتب التراث ليرجح مذهبا على مذهب، وقد اضطر إلى مخالفة بعض الأئمة معتمدا على منهجه هو نفسه، وهكذا فإن الشيخ الهوريني جمع الكتّاب من الناسخين على مذهب واحد، كان موضع الاعتراض ممن عز عليه أن ينفرد الهوريني بهذا السبق الباهر.
وهذا هو ما لاحظه الدكتور محمد رجب البيومي الذي قال إن الأب أنستاس ماري الكرملي، على سبيل المثال، أصيب بالغيرة من هذا التفوق الذي أحرزه الهوريني في تأصيل قوانين الإملاء العربية، وهو فضل شبيه في جوهره بفضل لاحق للشيخ المراغي وأقرانه في تقنين الشريعة الإسلامية دون التقيد بمذهب واحد، ولم يخف الأب الكرملي تحفظه على نجاح الأستاذ الهوريني، حيث قال:
«أخذ الاختلاف يزول شيئا فشيئا من بين ظهراني أبناء النيل، أو كاد يزول، لأن الشيخ العلامة نصر الهوريني وضع رسالة «المطالع النصرية» ووشّاها بقواعد لم يتبع فيها إماما واحدا من أئمة العربية ولغوييها، بل جمع بينهم، لأن اختياره لهم لم يكن مؤقتا ولا دائما حسنا (هكذا يقول الأب أنستاس!) فقد خالف أحيانا سيبويه، والحريري، والخفاجي وغيرهم من أولئك الأساطين الأقدمين، كما خالف ثقات المتأخرين كجماعة الألوسيين، ومع ذلك راج كتابه أي رواج، لأنه تولى تصحيح أسفار المشاهير من الأقدمين، وكانت تطبع في مطبعة بولاق المصرية منذ تولى تصحيح ما يصدر فيها، حتى شاع رسم الهمزة على ما أراد (أي الشيخ الهوريني) لا على ما كان رسمها المؤلف الأصيل في كتابه».
وقد علق الدكتور محمد رجب البيومي على هذا الرأي الجميل «المشبع» بالغيرة للأستاذ الكرملي فقال: «إن كلام الأب أنستاس ينطق بفضل حاول إخفاءه، لأن الذي يقرأ جميع ما قال الأئمة، ويختار من أقوالهم ويترك، هو إمام مثلهم». «ويكفي أنه عصم القارئ من اضطراب الرسم، إذ كيف يقرأ اللفظ المهموز في كتاب على غير منحاه في كتاب آخر، ويكون الجميع جائزا لأن مؤلفا قديما أجازه؟! أليس ما ذكره الأب الناقد ينطق بفضل العالم الأزهري الكبير!».
على سبيل الإجمال فإن الشيخ نصر الهوريني أخرج للقارئ العربي والمكتبة العربية شرحه لمقدمة القاموس، وألف مقدمة وافية لصحاح الجوهري، وتولى تصحيح المزهر للسيوطي، كما تولى تصحيح مقدمة ابن خلدون والجزء الثاني من تاريخه! وقد اعتمد في تحقيق آثار ابن خلدون ـ كما نص على ذلك في المقدمة ـ على كتب تاريخية مهمة، منها شرح المواهب اللدنية، وتاريخ ابن كثير، وتاريخ ابن الأثير، ولم يشر لتاريخ الطبري، إذ لم يهتد إليه في زمانه. بقي أن نشير إلى ملحوظة مهمة وهي أن الشيخ نصر الهوريني كان معتدًا بنفسه اعتداد العلماء الواثقين، وقد سمى أكثر من كتاب من كتبه باسمه، وقد قدمنا الحديث عن «المطالع النصرية»، وقد سمى كتابه الذي شرح به رسالة بن زيدرن «التحريرات النصرية».
– تفسير سورة الملك.
– «المطالع النصرية للمطابع المصرية»، وهو الكتاب المرجعي الأول والأقدم في أصول الكتابة والنسخ وقواعد الإملاء في اللغة العربية.
– شرح ديباجة القاموس: مقدمة القاموس للفيروز آبادي.
– فوائد شريفة في معرفة اصطلاحات القاموس: مقدمة القاموس للفيروز آبادي.
– مختصر روض الرياحين لليافعي.
– تسلية المصاب عند فراق الأحباب.
– التوصل لحل مشاكل التوسل.
– شرح التوصل (لحل مشاكل التوسل).
– في خزانة الرباط.
– المؤتلف والمختلف.
– رسالة في أسماء رواة الحديث.
– سرح العينين في شرح عنين.
– تقييدات على رسالة في المجاز.
– التحريرات النصرية على شرح الرسالة الزيدونية.
– تعليقات على شرح ابن نباتة لرسالة ابن زيدون.
توفي الشيخ نصر الهوريني في سنة 1874