إذا صح أني مدين لأستاذ معاصر من المعاصرين بفضل كبير ومتصل في استيعاب تاريخ طائفة ممن يستحقون تأريخ حياتهم، فإني أكثر ما أكون دينًا للأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي ١٩٢٣-٢٠١١ الذي أضاء لي ولغيري تاريخ أعلام النهضة الإسلامية وظل طيلة حياته علمًا معطاءً مشتعلًا متقدًا متوقدا في مجال الأدب والدراسات الأدبية والتاريخ والتحقيقات التاريخية.
وإذا صح أن هناك بين المسلمين المعاصرين من أرّخ التاريخ (ولا نقول كتب التاريخ فحسب) بذاكرته وبمكتبته وبأوراقه ونصوصه وبمعاصرته، فإنه هو ذلك الرجل العظيم الدكتور محمد رجب البيومي الذي عاش الحياة الفكرية والأدبية بوجدانه وعقله معًا منذ أن استطاع متابعتها وحتى توفي.. ولست أبالغ في هذا ذلك أن الدكتور محمد رجب البيومي عاش هذه الحياة بقلب محب للقيم العليا وروح مشرئبة وثابة وبذاكرة حافظة ومتميزة، وبذائقة سليمة وراقية، وبانتماء عميق ومتفتح، ولم يتوان لحظة من لحظات حياته عن أن يتقدم إلى الأمام في فكره ومنهجه ونقده.
كان في وسع مصر أن تفيد من علم هذا الرجل بأكثر مما قدمه هو، ولكن فشلها غير المتعمد في تحقيق مثل هذا الهدف النبيل كان دليلًا واضحًا على أن جوهر العلم يترنح فيها، وعلى أن الحياة العقلية والعلمية التي تعيشها مصر أصبحت في حاجة إلى تجديد وتهذيب لأصولها وقواعدها، بل إلى عمليات متوالية من استئصال الفساد والعشوائيات.. كان الدكتور محمد رجب البيومي وهو العلم الجليل يأبى بتواضعه على نفسه أن تحصل على ما تستحق من التقدير والتتويج، وكان يأبى على محبيه أن يطلبوا له ما يتوج جهده، ومع هذا فإن عارفي فضله كانوا لا يكفون عن تقديره وعن النقل عنه، وعن الرجوع إليه، وقد ظلوا يثنون عليه وعلى عمله وعلى روحه وعلى جهده على الدوام.
كان الدكتور محمد رجب البيومي قد تفوق إلى أبعد حد فيما يتفوق الأزهريون فيه من الدراية والإلمام ومن معرفة تراث الأولين وإضافات المحدثين وشطحات المرجفين وخباثات المدعين، وكان مع هذا قد تمكن من الشعر ومن النقد ومن التاريخ، فكان قادرًا على أن يعبر بالخيال وبالمجاز على قدر ما كان قادرًا أن يوفي التوثيق حقه، وأن يوفي الحقيقة بعض ضوئها المستحق حتى وإن لم يكن هو الضوء الساطع. وهكذا كان هذا الرجل العظيم أمة وحده: أزهريًا عالمًا أديبًا شاعرًا محققًا مؤرخًا.. لكنه كان فنانًا قبل كل شيء.
ظل الدكتور محمد رجب البيومي بمنزلة نجم المجلات الثقافية من كل مشرب ومأرب، وقد قدم في كل منها أسلوبًا متفردًا في معالجة الأدب والتاريخ بروح منصفة ومستوعبة دون أن يقع في مزالق العُجب أو الغرور أو الحقد أو مركبات النقص أو دوافع الانتقام. وقد تميز بأسلوبه الفذ الذي ينم عن شخصيته وكان في كتابته كما هو في الحياة إنسانا راقيا مستنيرا، واسع الأفق، خفيف الروح، مهذب اللفظ، قادرًا على استكناه الحقيقة، وفهم الدوافع.
لم يحدث في تاريخ مجمع اللغة العربية أن اجتمع رأي أعضائه على أن يكرموا بجائزة المجمع عامًا بعد آخر شخصًا واحدًا، ولكن هذا حدث مع الدكتور محمد رجب البيومي في العصر الذي اجتمع فيه من بين أعضاء المجمع: العقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، ومحمد فريد أبو حديد، وعزيز أباظة، وعبد الحميد حسن، ومحمد مهدي علام، ومحمد خلف الله أحمد، وقد نال هذا الرجل الموهوب المجد جوائز المجمع تباعًا عامًا بعد عام، ولم يستطيع أحد أن يجاريه في الفوز ولا في التفوق، ولا استطاعت الجائزة نفسها أن تتحمل استئثاره بها، فسن المجمعيون قانونًا يتيحها لغيره، لأنه لو بقي في الميدان ما نالها غيره، مهما كان الفرع أو الموضوع الذي سوف تمنح فيه. وحُقَّ لهذا الرجل العظيم أن يفخر بهذا الذي حققه عن جدارة وكفاءة.
عاش الدكتور محمد رجب البيومي حياته في خضم الصراع السياسي الذي ظلمت فيه تيارات الإسلام السياسي من الإخوان وغيرهم، فلم ينخرط أبدًا في أي هجوم على جماعة الإخوان أو غيرها من الاتجاهات الإسلامية التي مارست السياسة، وقد فعل هذا عن إيمان وتدين، وعن إنصاف وفهم، وعن أمل في المستقبل. وكما كان الدكتور محمد رجب البيومي موفقًا في التعبير والتفكير، فقد كان موفقًا إلى أبعد حد في الحكم على الأمور، وعن نفسي فإني لا أستطيع أن أذكر عدد القضايا التاريخية المعاصرة التي حققها تحقيقًا علميًا دقيقًا وأبان فيها عن وجه الحق والضلال، وعما خفي من المقدمات والملابسات، لكني أستطيع أن أقول إنه فعل هذا في أكثر من مائة قضية من قضايا العصر الحديث أدبا وتاريخا.
وعلى سبيل المثال فقد توقف الدكتور محمد رجب البيومي فراجع صورة سيد قطب التي رسمت على لسان نجيب محفوظ، (والله أعلم بصحة نسبتها إليه)، فلم يعبأ بأن يكون القول منسوبًا إلى نجيب محفوظ أصلًا، ولم يعبأ كذلك بأن يحقق هدف المغرضين من افتعال نص بلسان نجيب محفوظ للتقليل من عظمة سيد قطب، معتمدين على ما أمكنهم من افتراء وتدليس وتصدٍ للحقيقة، بغير حاجة إلى أن يناقش مدى صحة ما روي أو الهدف وراء روايته. ومع أني انتهجت منهجًا مخالفًا في مثل هذه القضايا، في كتابي «في ظلال السياسة» فاستحضرت النصوص الحقيقية والصادقة، وبنيت عليها واستندت إليها، فإني أشهد أن أسلوب الأستاذ محمد رجب البيومي كان هو الأنسب لتلك المرحلة التي اختلط فيها الباطل بالحق، وطغى الباطل فيها على الحق.
كان الدكتور محمد رجب البيومي ناقدًا أدبيًا من طراز رفيع قادر على التمييز وكأنه العالم المحلل في معمله، وكان على سبيل المثال قادرًا على الفصل الحق في مدى حاجة الإبداع الفني والأدبي إلى التشبيه والمجاز والاستعارة، وبين إقحام صور مفتعلة من هذه التقنيات الفنية على النصوص ابتغاء تحوير طابع الأدب إلى شيء بعيد عن الأدب. وكذلك كان الدكتور محمد رجب البيومي أستاذًا للدراسات الأدبية مستوعبًا لمناهج التفكير والنقد والكتابة. وكان، رحمه الله، واعيًا للعوامل المؤثرة في صنع المدارس الجديدة، وفي استمرار المدارس القديمة، وكان قادرًا على أن يميز بين المعقول والمنقول، وعلى التمييز بين المعقول واللامعقول، وعلى التمييز بين المنقول عن نص موجود أو فعل موجود وبين الانتحال والاصطناع.
وكما كان الدكتور محمد رجب البيومي ناقدًا أدبيًّا لا يشق له غمار وأستاذًا فذا للدراسات الأدبية فقد كان بتعبير القدامى ناقدًا بلاغيًا من طراز رفيع يعرف موضع الكلمة في الجملة، ومكان الجملة في النص، ومدى ما يمكن لموقف أن يحقق من تغيير في المعنى. ولعل روايته عما كان يقدره في قراءة الشيخ محمد رفعت للقرآن الكريم وما اكتشفه من أسلوبه في الوقف والوصل تكشف أيضًا بوضوح عن عبقرية الفنان المكتشف للفنان.
ولد الدكتور محمد رجب البيومي في أكتوبر 1923 بقرية الكفر الجديد التابعة لمحافظة الدقهلية وتلقى تعليما دينيا أزهريا نبغ فيه حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية، ثم نال الشهادة العالمية وحصل على الدكتوراه في الأدب والنقد بمرتبة الشرف الأولى. وارتقى في وظائف هيئة التدريس حتى أصبح عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة. وانتخب عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية. واختير رئيسًا لتحرير مجلة الأزهر، فأعاد إليها الرونق والأصالة والحياة. واختير مقررًا للجنة ترقية الأساتذة بجامعة الأزهر في تخصص البلاغة، كما اختير عضوًا في لجنة ترقية أساتذة الأدب والنقد. وكان في كل اللجان الأزهرية بمثابة الحكم العادل والمرجع النهائي طيلة ثلاث عقود من الزمان.
كان الدكتور محمد رجب البيومي كما أسلفنا قادرًا على التفوق في أي جائزة، وهو الوحيد الذي فاز بخمس جوائز من مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وسادسة من المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية:
– سنة 1962 عن المسرحية الشعرية (فوق الأبوة).
– سنة 1963، عن ديوانه الشعري (صدى الأيام).
– سنة 1964، في الدراسات الأدبية عن كتاب (الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير).
– سنة 1965، في التراجم الأدبية عن حياة (محمد توفيق البكري).
– سنة 1972 عن المسرحية الشعرية (بأي ذنب).
وكان الدكتور محمد رجب البيومي قد نال جائزة شوقي بالمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر سنة 1961، عن المسرحية الشعرية (انتصار).
الرسالة، والثقافة، والكتاب، والهلال، والأديب، والفيصل، والأزهر، والمجلة العربية، والأقلام، ومنار الإسلام، والحج، والضياء، والمنهل، ورابطة العالم الإسلامي، وعلامات، والأدب الإسلامي، وجذور.
حفظت المكتبة العربية من مؤلفات الدكتور محمد رجب البيومي:
– التفسير القرآني، المؤسسة العربية الحديثة.
– أحمد حسن الزيات بين البلاغة والنقد، دار الأصالة بالرياض.
– البيان القرآني، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
– خطوات التفسير البياني، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
– البيان النبوي، دار الوفاء للنشر.
– أدب السيرة النبوية عند الرواد المعاصرين، اللجنة العليا للدفاع عن الإسلام بالأزهر.
– الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير، الرياض.
– النقد الأدبي للشعر الجاهلي، الرياض.
– دراسات أدبية، دار السعادة بمصر.
– نظرات أدبية (4 أجزاء)، دار زهران بمصر.
– حديث القلم، جدة.
– قطرات المداد، جدة.
وحفظت المكتبة العربية من أعمال الدكتور محمد رجب البيومي الإبداعية:
– صدى الأيام، مطبعة السعادة.
– حنين الليالي، مطبعة السعادة.
– حصاد الدمع، دار الأصالة بالرياض.
– من نبع القرآن، دار الأصالة بالرياض.
– فاتنة الخورنق، دار الأصالة بالرياض.
– في قصور الأمويين (مشاهدة تاريخية)، مطبعة السعادة.
– انتصار، وهي المسرحية الحائزة على جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب.
– فوق الأبوة، مطبعة السعادة.
– ملك غسان، مكتب الجامعات للنشر.
– قبل الإبداع.
كذلك فقد حفظت المكتبة العربية من أعمال الدكتور محمد رجب البيومي البارزة في التراجم:
– النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين (5 أجزاء) دار القلم، بيروت. وقد طبعت أجزاء هذا الكتاب متفرقة في سلاسل عامة قبل أن تتفضل دار القلم بتجميعه في المجلدات الخمسة.
– ابن حنبل، مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
– هارون الرشيد، دار العلم.
– مع الأبطال، دار القلم، بيروت.
– صلاح الدين، دار القلم.
– أبو فراس، الدار المصرية اللبنانية.
كذلك فقد قدم الدكتور محمد رجب البيومي في دراسات الأدباء والعلماء المعاصرين وتراجمهم سبعة أعمال رائعة، مثلت نموذجًا للإبداع والسمو والرفعة في الفن والأدب والتاريخ:
– مصطفى صادق الرافعي، دار العلم.
– محمد فريد وجدي، دار العلم.
– أحمد أمين، دار العلم.
– محمد حسين هيكل، دار العلم.
– علي الجارم، الدار المصرية اللبنانية.
– أحمد محرم، دار الأدب.
– محمد متولي الشعراوي، دار التراث.
– الأزهر بين السياسة وحرية الفكر، دار الهلال.
– مواقف خالدة لعلماء الإسلام، دار الهلال.
– صفحات هادفة من التاريخ الإسلامي، المؤسسة العربية الحديثة.
– من القصص الإسلامي (جزان) المؤسسة العربية الحديثة.
– قضايا إسلامية (جزان)، دار الوفاء بالمنصورة.
وكان رحمه الله، بالإضافة إلى هذا كله، بمثابة المؤلف البارز صاحب السلاسل، وفي هذا الميدان أصدر:
– سلسلة إسلاميات (التي أصدرتها المؤسسة العربية الحديثة بالقاهرة:
ـ في ميزان الإسلام: جزان.
ـ من منطلق إسلامي: جزان.
ـ مجالس العلم في حرم المسجد.
ـ المثل الإسلامية.
ـ في ظلال السيرة.
ـ من شرفات التاريخ.
– سلسلة قصص الأطفال، في أجزاء متوالية: (أصدرتها دار الأصالة، ودار القاسم بالرياض).
ـ المغامر الشجاع.
ـ الهمة العالية.
ـ مؤامرة فاشلة.
ـ الفارس الوفي.
ـ يوم المجد.
ـ دجال القرية.
ـ الحبل الأسود.
ـ الفتاة المثالية.
ـ إلى الأندلس.
ـ رحلة الخير.
ـ الله معي.
ـ بطل شيبان.
ـ إلى الإسلام.
ـ لست وحدي.
ـ حكمة الله.