عاش الرئيس السوري أمين الحافظ ١٩٢١- ٢٠٠٩ حياة طويلة امتدت 88 عاماً لكنه كان في نصفها الثاني كله (43 عاماً) رئيسا سوريا سابقاً، وهو صاحب رقم قياسي فيما بين العسكريين العرب في هذا الوضع العجيب، لا يسبقه في هذا الا الرئيس الجزائري احمد بن بللا ١٩١٦-٢٠١٢ الذي عاش ٤٧ رئيسا سابقا أي نصف عمره أيضا، بيد أن حظ امين الحافظ كان اقل سوءا بكثير جدا من حظ بن بيللا .
نشأته وتكوينه
ولد الرئيس أمين الحافظ في 14 ديسمبر في 1921 وتخرج من الكلية العسكرية في 1946 وأشرك بعد تخرجه في حرب 1948 وتدرج في المناصب السورية العسكرية حتى أصبح فيما قبل وحدة مصر وسوريا ١٩٥٨ واحدا من أعضاء المجلس العسكري الأربعة والعشرين، وهكذا كان له تاريخ تقليدي مشابه لتاريخ كل العسكريين المصريين والسوريين الذين توسدوا منصة الحكم منذ الانقلابات العسكرية وحتى ألقى بهم في المقابر أو في السجون أو المنافي، وقد بدأ ابتعاده عن مركز السلطة مبكرا في أثناء الوحدة حيث تقرر ابعاده إلى الارجنتين !
دوره في التحول الجذري في يوليو ١٩٦٣
تخلقت وتصنعت أهمية أمين الحافظ في التاريخ السوري كرد فعل تلقائي وعكسي للحيوية الناصرية المفعمة بالرغبة في الانتقام من الانفصاليين البعثيين، حين زادت قناعة التوجه الناصري بأنه لا بد من انقلاب جديد على انقلاب مارس 1963 يصحح الوضع ليضبط البوصلة في الاتجاه الناصري، ومن الجدير بالذكر أن هذا حدث بالفعل لكنه فشل، وكان هذا الانقلاب الذي فشل بفضل مواجهة أمين الحافظ له قد بدأ على يد الضابط السوري الناصري جاسم علوان وهو المعروف بأنه الذي قام بانقلابه الناصري الذي لم يكتمل في يوليو 1963.. وهنا ظهر دور الرئيس أمين الحافظ الذي نجح تماما في اجهاض الانقلاب الناصري من خلال موقعه كوزير للداخلية، وبهذا فإن انقلاب يوليو 1963 ثبت أركان انقلاب مارس 1963 مع فارق مهم وهو أنه على حد الوصف الجوادي جاء بمن يكره الناصرية علنا وبنسبة 75% (وهو أمين الحافظ) ليحل محل من يكرهون الناصرية سرا وبنسبة 65% (وهم مجموعة لؤي الأتاسي) الذين كانوا قد حلوا محل من يكرهون الناصرية بنسبة 55% وهو مجموعة عبد الكريم النحلاوي.
عصر الرئيس أمين الحافظ
قبض الرئيس أمين الحافظ على السلطة السورية العليا والأولى والمطلقة في يوليو ١٩٦٣ صاعدا بثقة من منصب وزير الداخلية إلى موقع الرجل الأول متمتعا بطابع متميز جدا عن طابع كل من سبقوه، ذلك أن أمين الحافظ في معطياته ومقومات شخصيته كان أقوى منهم جميعا وهو ما كان يستطيع المراقبون ادراكه بسهولة، فهو كان عضوا في المجلس العسكري قبل الوحدة، وهو كان وزير الداخلية في نظام لؤي الأتاسي وهو الموقع الذي مكّن له من أن يجهض انقلاب جاسم علوان وأن ينتهز الفرصة فيستولي لنفسه على السلطة، وهو في أثناء الوحدة كان قد أبعد عن قصد إلى الأرجنتين فرأى الدنيا ورأى الهاربين من النازيين وتزود بثقافة سياسية حركية ووعي انقلابي ديناميكي مكناه من أن يكون مشروع رجل سوريا القوي، وهكذا فإنه لما تمكن من السلطة جمع كل السلطات في يده، وأصبح بمثابة قطب يتعامل مع الرئيس عبد الناصر نفسه بمنطق الندية وهو ما لم يكن يفعله الرئيس عبد الناصر قبل ذلك مع لؤي الأتاسي أو ناظم القدسي او غيرهما من الزعماء السوريين
والحق أن الرئيس عبد الناصر وجد نفسه على حين فجأة في مواجهة قبضة الرئيس أمين الحافظ القوية والمعلنة، بل إنه وجد نفسه وقد عاد خطوات من طريق الزعامة العربية فأصبح رغم مهابته أقرب ما يمكن إلى أن يكون رئيسا مصريا فحسب حتى وإن كانت مصر غائبة عن اسمه كرئيس للجمهورية العربية المتحدة في مقابل من يحتل بالبروتوكول مكانة الرئيس السوري حتى وإن لم يتسم بهذا الاسم الواضح الصريح كرئيس للجمهورية، لكنه في الواقع كان كذلك فقد كان الرئيس أمين الحافظ رئيساً لسوريا منذ 27 يوليو 1963 وحتى نجح انقلاب صلاح جديد عليه في 23 فبراير 1966، وفي أثناء رئاسته جمع رئاسة الوزراء كما جمع قيادة القوات المسلحة .
انقلاب صلاح جديد
في 23 فبراير ومع انقلاب صلاح جديد 1966 ألقي القبض بالطبع على الرئيس أمين الحافظ وسجن، لكنه في ظل مؤامات سورية أطلق سراحه ونفي إلى لبنان، فلما تمكن حزب البعث في العراق من الوصول إلى السلطة بانقلاب الرئيس أحمد حسن البكر في 17 يوليو 1968 كان من الطبيعي أن ينتقل الرئيس أمين الحافظ إلى العراق ظل الرئيس أمين الحافظ يعيش في العراق، وكان من المتداول انه كان مقربا من الرئيس صدام حسين، ولم يغادر الرئيس أمين الحافظ إقامته في العراق إلا عند وقوع الاحتلال الأمريكي في ابريل 2003، ويقال انه حاول أن يعود بطريقة طبيعية عبر الحدود البرية لكن السلطات السورية لم تسمح له، لكنه بعد شهور حصل على موافقة الرئيس السوري بشار الأسد على العودة فعاد في نوفمبر 2003 وأقام في مسقط رأسه حلب، والتزم بعدم الخوض في السياسة.
الناصريون يختزلون مرحلته في قصة الجاسوس إيلي كوهين
أما صورة الرئيس أمين الحافظ في الكتابات المصرية فقد تم تعميدها بمياه صهيونية خالصة التصهين لتكون صورة كاريكاتيرية من باب الانتقام والتشفي في ذلك الرئيس وذلك النظام، وركزت هذه التصويرات على عنصر واحد فقط وهو انه هو وليس غيره الذي كان مسئولا بغفلته عن التمكين للجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين وقد صورت الكتابات المصرية إيلي كوهين وقد نجح في خلق وتنمية صداقته بالرئيس أمين الحافظ حين كانا في الأرجنتين، بينما أثبت الرئيس أمين الحافظ بكل بساطة ووضوح أنه لم يصل الأرجنتين إلا بعد أن كان إيلي كوهين قد غادرها، لكن انتشار الكتابات المصرية وتكرارها خدم الصورة الإسرائيلية التي كانت تستهدف في المقام الأول الافتخار بتصوير الذكاء الإسرائيلي في صناعة “الأبطال الجواسيس”، ومع اننا مع ضيق المقام هنا لا نستطيع إيراد كل ما يخص موضوع الجاسوس إيلي كوهين فإننا نستطيع أن نلفت نظر القارئ إلى أن هناك أربع روايات مختلفة عن الطريقة التي تم اكتشاف جاسوسية إيلي كوهين من خلالها، وأقربها للمنطق هي القصة التي بدأت بشكوى السفارة الهندية في دمشق، مما قاد إلى اكتشاف محطة اللاسلكي السرية التي كان يبعث منها كوهين رسائله المشفرة أما الرواية المصرية فتصور الاكتشاف بطريقة أقرب ما تكون إلى طريقة سينمائية مصرية من خلال رؤية أحد ضباط المخابرات صورة كوهين مصاحبا لأحد الضباط السوريين في موقع متقدم، وهناك رواية سورية أخرى، ورواية سوفييتية.
وفي كل الأحوال فإن المبالغات المصرية في تصوير أهمية كوهين تميل بكل أسف، وهي معذورة، إلى العزف على أنغام الإسرائيليين الذين يحبون تضخيم أي انتصار يحققونه وذلك للتأثير به على معنويات العرب، ومن الحق أن نذكر ان اكتشاف كوهين تم في عهد الرئيس أمين الحافظ نفسه، ولو أن كوهين كان مرتبطا بقيادات كبرى في نظام الرئيس أمين الحافظ على نحو ما يحب الانهزاميون تصوير الأمر ما كانت محاكمته قد تمت ولا إعدامه قد تم. وقد تجدد الاهتمام بقصة إيلي كوهين في أعقاب الانقلاب العسكري المصري، والاحساس بالتغلغل، وتأجج هذا الاهتمام مع الفيلم الذي أنتجته نيتفليكس 2019 وأخرجه مخرج إسرائيلي هو جدعون راف وقام بدور البطولة فيه الممثل الساخر ساشا بارون.. ويكاد السوريون يؤمنون بأن علاقة الرئيس أمين الحافظ بكوهين لم توجد على هذا النحو الدرامي إلا في كتابات الناصريين والمصريين المعادين للرئيس أمين الحافظ الذي لم يلتق بكوهين إلا بعد اعتقاله، وبخاصة أنه لم توجد أي صورة تجمع الرجلين في الأرجنتين وفي دمشق، وهو ما لم يظهر إلا في الفلم الإسرائيلي الذي استند إلى كتاب فرنسي بعنوان “الجاسوس الذي جاء من إسرائيل”، يرى المهتمون أن الإسرائيليين هم الذين نشروه.
ومن الطرائف السوداء التي لا يمكن التحقق من بداية خيط الغزل فيها أن البعثيين السوريين ردوا على الناصريين بطرق لا تقل حبكة وتشويقا فأشاعوا مثلا أن كوهين هو ابن لسيدة يهودية، كان والد الرئيس جمال عبد الناصر قد تزوجها فيما بين والدة الرئيس عبد الناصر، وبين زوجته الأخيرة التي توفي عنها، والتي أنجب منها أخوة الرئيس عبد الناصر غير الاشقاء، وهي قصة تبدو مصطنعة على غرار أفلام الورش الأمريكية التي تنتج حلقات متصلة من التشويق، ومن حسن حظ التاريخ أن اللواء صلاح الضللي رئيس المحكمة التي حاكمت كوهين وحكمت عليه بالإعدام ادلى بأحاديث في 2004 وأوضح فيها بكل منطق أن كوهين كان جاسوسا لكنه كان جاسوسا عاديا كما تعرض اللواء صلاح الضللي لمصير وقصة رفاته الذي لا تزال إسرائيل تطالب به.
لا يمكن لنا أن نتجاهل الإشارة إلى أن الأستاذ محمد جلال كشك في ذروة تفاعلات المذهب الناصري المتصاعدة كتب كتابا عن كوهين حافلاً بالحماسة ضد الضباط السوريين الذين وردت أسماءهم في القصص التي روجتها الأجهزة المصرية من باب التعريض بالسوريين ونقض كتاباتهم.. ولم يكن الأستاذ محمد جلال كشك وحده الذي نشر انطباعاته الحماسية عن هذه القصة، بل إن هناك كتابات وكتابات مضادة كثيرة في هذا الموضوع، ومن الجدير بالذكر أن أرملة كوهين (المولودة حوالي 1925) كانت حتى عهد قريب (2019) على قيد الحياة في إسرائيل.
صورة الرئيس أمين الحافظ في أدبيات السوريين
بقيت في وجدان السوريين صورة الرئيس أمين الحافظ أقرب إلى صورة سفاح من الدرجة الأولى وإن لم يصل إلى القمة التي وصل اليها من خلفوه، وشاعت في الفلكلور السوري مقولة: “أبو عبدو السفاح نصف الناس في المزة (أي السجن) ونصفهم في الدحداح (أي المقبرة الشهيرة)، يتذكر السوريون بكل وضوح أن الرئيس أمين الحافظ هو أول من قصف حماة (1964) قبل حافظ الأسد بسنوات ويذكرون أيضا أنه اقتحم الجامع الأموي بدباباته في 1965.
ومن الجدير بالذكر ما يروى من أن عبد الحليم خدام (نفسه وليس أحداً غيره) كان محافظ حماة حين وقعت حملة القمع اللاإنسانية في عهد الرئيس أمين الحافظ الذي هو، بلا جدال، واحد من سلالة العسكريين العرب المعادين للشعب ولوعي الشعب ولهوية الشعب الإسلامية بالتالي إذا اقتضى الأمر. ومن الجدير بالذكر أيضا ما يروى من أن العماد طلاس رأس محكمة عسكرية حكمت بالإعدام على علماء ووجهاء حماة، ومن الجدير بالذكر ثالثا أن الرئيس أمين الحافظ رغم كل شيء ناور وأصدر عفواً عن جميع المحكوم عليهم، ومن الجدير بالذكر ثالثا أن الرئيس أمين الحافظ فيما بعد عقود من كل ثلك الأحداث كان حريصا على أن يصور نفسه منخدعاً في العلويين، والبعثيين، وربما انه عاش متأملا في الخلاف الذي وقع بين من انقلبا عليه وهما صلاح جديد بطل المرحلة الرابعة وحافظ الأسد بطل المرحلة الخامسة والأخيرة وقد تمكن الرئيس الأسد من الغدر بصلاح جديد فأودعه السجن حتى مات بينما كان الرئيس أمين الحافظ حراً وإن كان منفيا.