كان الدكتور إبراهيم شوقي باشا (1890 ـ 1962) نموذجا نادرا للعلماء العاملين القدرين على أداء حقوق الأستاذية كاملة بأهدأ نبرة، وهو من بين الأطباء ثاني طبيب يصل لمنصب مدير الجامعة إذ أنه هو الذي خلف على باشا إبراهيم الذي خلف لطفي السيد رئيسها الأول وهو بهذا ثالث مدير للجامعة بعد انضمامها للحكومة، كما أنه كان هو العميد الثالث لكلية طب قصر العيني في عهدها الجامعي، بعد علي باشا إبراهيم وسليمان عزمي، وهو رائد متقدم من رواد الجامعة المصرية والطب الإكلينيكي، وهو عميد أطباء الأطفال العرب في القرن العشرين، و من بين هؤلاء جميعا فإنه أكثر من يستحق لقب أبو الريش وهو اللقب الذي يطلق على مستشفيات الأطفال الجامعية في جامعة القاهرة.
تخرج الدكتور إبراهيم شوقي في مدرسة الطب المصرية (1913)، ونال بعثة علمية إلي بريطانيا حيث تخصص في طب الأطفال، وكان بمثابة أول مَنْ حصلوا على درجات علمية عليا في هذا الفرع، مما أهله لأن يتولى تدريس طب الأطفال وتأسيس المدرسة المصرية في هذا العلم، وقد ترقي في وظائف هيئة التدريس حتي أصبح أستاذاً ورئيساً لقسم الأطفال، ثم نال أعلي الأصوات في انتخابات العمادة (1940)، التي أجريت بعد أن خلا منصب عميد قصر العيني بخروج علي باشا إبراهيم إلي الوزارة فالجامعة، وقد فاز بتسعة وعشرين صوتاً، وتلاه الدكتور سليمان عزمي بواحد وعشرين صوتاً، فالدكتور محمد خليل عبد الخالق بسبعة أصوات، ومع هذا فقد اختير سليمان عزمي عميداً (كان لصاحب القرار أن يختار للعمادة واحداً من أكثر ثلاثة حصولاً علي الأصوات)، وكان تعيين الدكتور سليمان عزمي لثلاث سنوات (أكتوبر 1940 ـ أكتوبر 1943)، وجدد تعيينه بعدها في السادس من نوفمبر 1943 وحتي أحيل إلى التقاعد في نوفمبر 1945، وعندئذ عين الدكتور إبراهيم شوقي عميداً لكلية طب قصر العيني (1945 ـ 1947).
وفي أثناء عمله في هيئة التدريس بالكلية تمكن الدكتور إبراهيم شوقي من الاستقلال بقسم الأطفال، كما تمكن من إقناع الدولة بتخصيص مستشفى خاص للأطفال وتجهيز مستشفى أبو الريش الجامعي، وقد تأسس مستشفى أبو الريش في نهاية عشرينيات القرن الماضي على أحدث النظم الطبية بفضل تبرعات الأهالي، حتى إنه كما رويت في مقالات سابقة كان مزوداً منذ ١٩٢٨ بأجهزة التكييف المركزي. كما تمكن من إقرار استقلال علم طب الأطفال كمادة منفصلة في المقررات الدراسية.
بعد عامين في العمادة وفي ديسمبر 1947 عين الدكتور إبراهيم شوقي مديراً لجامعة القاهرة، وظل يشغل هذا المنصب عامين حتى نوفمبر 1949 حيث اختير وزيراً للصحة في وزارة حسين سري باشا الرابعة (نوفمبر 1949 ـ يناير 1950).
في أثناء عمله مديراً للجامعة عني الدكتور إبراهيم شوقي بتوسيع سلطات مدير الجامعة في اتجاه ان تكون قرارات الجامعة التنفيذية بمثابة قرارات وزارية لا تستدعي اعتماد وزارة المعارف لها، ونجح في هذا بادئا سلسلة من توسيع الصلاحيات التي تتوجت في قانون الجامعات ١٩٧٢ بأن صار مدير الجامعة رئيسا للجامعة لا مديرا فحسب. وفي هذا الصدد اهتم الدكتور إبراهيم شوقي بتنظيم الالتحاق بالجامعة وتيسير الدراسة لغير القادرين من الطلبة الممتازين، ومن مآثره التي يذكرها له الجامعيون أنه استصدر قرارا من مجلس الوزراء بجعل الإجازات الدراسية والمهمات العلمية للخارج من اختصاص مجلس الجامعة، فأتيح للجامعة التوسع في إيفاد أعضاء هيئة التدريس إلى الخارج، هذا فضلاً عن البعثات المعتادة للجامعة التي توفد عن طريق لجنة البعثات. كما دأب على توثيق الروابط العامة بين الجامعة والجامعات الأجنبية فعاون في استدعاء الأساتذة الزائرين، والسماح لبعض أساتذة الجامعة بالقيام بمهمات علمية والتدريس في الجامعات الأوروبية.
كان الدكتور إبراهيم شوقي قد تولى منصبه الوزاري وهو على مشارف عامه الستين متوجا خدمته. لكنه عاد ليتولى الوزارة مرتين أخريين بعد عامين، كانت أولاهما هي المرة الثانية له كوزير للصحة في وزارة علي ماهر الثالثة (يناير 1952) التي تشكلت عقب خروج الوفد من الحكم في اليوم التالي لحريق القاهرة، وظل محتفظاً بهذا المنصب طيلة عهد هذه الوزارة، أي حتي 1 مارس 1952، وأضاف إليه منصب وزارة الشؤون البلدية والقروية في الأيام العشرة الأولي من عمر تلك الوزارة (27 يناير 1952 ـ 7 فبراير 1952)، ثم إنه وعقب قيام حركة الجيش في ٢٣ يوليو عاد لتولي وزارة الصحة العمومية طيلة عهد وزارة علي ماهر الرابعة (24 يوليو 1952 ـ 7 سبتمبر 1952)، وقد أصبح في تلك الفترة القصيرة بمثابة الوزير التكنوقراطي الأول، وقد كلف بالإشراف على الوزارات الخدمية، وكان مرشحا لأن يكون رئيسا للوزراء في عهد العسكر بيد أنهم فضلوا أن يأخذوا الأمر بيدهم وفي يدهم وهكذا تشكلت وزارة الرئيس نجيب الأولى في سبتمبر ١٩٥٢، ومن الطريف أن اثنين من خلفائه المباشرين في وزارة الصحة كانا من تلاميذه في قسم الأطفال وهما: الدكتور نور الدين طراف، والدكتور محمد النبوي المهندس.
وصفه تلميذه الأشهر الدكتور مصطفي الديواني وصفاً مؤثرا في مذكراته: «كنت إذ ذاك عجينة غير مجربة فصورها الدكتور شوقي كما شاء هواه، علمني فأحسن تعليمي، وضرب لي كل دقيقة في عظمة الرجولة مثلا. بقيت بجانبه منذ ذلك الوقت، ووقع اختياره عيّ نائبا ثم مدرسا ثم أستاذا مساعدا له، ثم مهد لي السبيل إلي جبل الأستاذية الأشم.. فشكراً لله وله». ولخص الدكتور الديواني الحديث عن قيمة من قيم الإدارة تفوق فيها هذا الأستاذ ويسميها الدكتور الديواني «النسيان العادل»، وهو يتحدث عن هذه الخصلة فيقول:
«… علمني هذا الرجل فلسفة الرئيس الذي ينسي! فهو يكوّن عن مرؤوسه فكرة ويصدر عليه حكما، فإذا اقتنع بصلاحيته شفع له هذا فيما يجد في المستقبل من أحوال. فهو يدعوه مثلا إلي مكتبه ويأخذ في تقريعه في عصبيته المعروفة علي ما يعتقده تقصيرا، فإذا كثر الحديث والشد بين المتناقشين تكهرب الجو، وبدا الأستاذ وكأنه على وشك الوصول إلى قرار خطير، لكنه يسكت بعد أن يكون قد أوسع [مرؤوسا] له لوما، ويطلب منه في هدوء أن يذهب إلى عمله، وبينما هو علي هذه الحال من الثورة المكبوتة يدخل الكاتب ليعرض عليه بريد اليوم فإذا بين الأوراق واحدة تخص صاحبنا بطل القصة يطلب فيها من رئيسه الشفاعة له في بعثة دراسية أو درجة مالية، فيتحمس في التعليق علي طلبه معددا فضائله وحسناته متناسيا سيئاته التي أهاجته إحداها منذ دقائق قلائل! هذا هو النسيان العادل الذي يجب أن يتحلى بفضيلته كل رئيس».
ويعيد الدكتور الديواني الحديث عن هذه الجزئية من أخلاق أستاذه العظيم فيعرضها علينا بعبارات أخري تعبر عما امتاز به هذا الأستاذ من خلق «النسيان الاختياري»، على نحو ما امتاز بخلق «النسيان العادل»: «… وكانت لذاكرته ميزة فريدة. فهي تطرد الصغائر في أنفة عجيبة، لا يحمل لمرؤوس ضغنا ما دام الذي بدر منه لا يتعارض ومصلحة العمل. فأنت تدخل عليه لتعتذر له عن سخف بدر منك منذ أيام قليلة فتجده قد نسيه تماما، وينظر إليك متسائلا: متي حدث هذا؟».
«أما ما يتعلق بالعمل فهذا لا ينساه أبدا! والويل لمن يتراخى في هذا السبيل فإنه يصدر عليه حكما لا يغيره أبدا ولا يشفع له مرور الأيام». «وكان كبير الأخلاق جبار الذهن، يغدق العطف على مرؤوسيه دون أن ينتظر منهم كلمة ثناء. فهو يرد على أحدهم فيقول مثلا: لقد أرسلتك في بعثة لأن مصلحة العمل بالقسم تقتضي ذلك، وقد اتفق وجودك في نفس الأوان الذي تقررت فيه البعثة، فالمسألة لا تعدو مجرد المصادفة!».
ويلخص الديواني نظرته إلى أستاذه في قوله: «إنه كان سابقاً لزمانه»، وهو يعبر عن هذا المعني فيقول: «أما قدرته على رؤية البعيد المنظور وغير المنظور فقد جعلتني أؤمن بأنه يري المستقبل قبل الشخص العادي بخمس سنوات على الأقل، لذا كنت أرقب دائما الثورات تقوم ضد بعض ما يصدر من قرارات، فأقول لنفسي: سوف يفهمون صواب ما فعل بعد خمس سنوات».