الدكتور أحمد السيد درويش (1916 ـ 1992) واحدا من ألمع أساتذة الطب الباطني، ومن أكفأ العمداء والنقباء الإقليميين طيلة حقبة الستينيات، كما كان من الوجوه المشرفة في المجتمع السكندري، وكان على صلة برجال الدولة في نظام الرئيس عبد الناصر، وتوثقت هذه الصلة إلى أقصى أحد في أخريات عهد الرئيس عبد الناصر حين أدخل شقيق الرئيس مستشفى كلية الطب في الإسكندرية، وكان الرئيس عبد الناصر ومعه نائبه وصديقه الرئيس السادات يترددان بكثرة (يوما بعد يوم ) على ذلك المستشفى لزيارة الشقيق المحجوز في رعاية مركزة تحت رعاية الدكتور العميد والأستاذ الكبير، وقد شاهد الرئيسان إنجاز العميد على الطبيعة وأصبح في حكم المقرر، على حد ما رأى أساتذتنا في طب الإسكندرية في أعين السلطة، أن تسند الوزارة إلى الدكتور أحمد السيد درويش في أقرب فرصة، فلما توفي الرئيس عبد الناصر فجأة، وجاءت أول فرصة عندما تشكلت وزارة جديدة في نوفمبر 1970 اختير الدكتور أحمد السيد درويش وزيرا للسياحة حتى جات الفرصة لتوليه وزارة الصحة بعد عشرة شهور كما سنرى إن شاء الله.
ولد الدكتور أحمد السيد درويش في قرية من قرى مركز الباجور في مديرية المنوفية 1916، وقيل في بعض المصادر إنه ولد عام 1915 وتلقي تعليما مدنيا والتحق بكلية طب قصر العيني وتخرج في كلية الطب عام 1939 وهي الدفعة التي تخرج فيها أيضا سلفه في وزارة الصحة الدكتور عبده سلام، وقد تخرج معهما في دفعة 1939 ثلاثة وثمانون طبيبا، كان منهم عدد من الأطباء المشاهير ( هم كما روى أستاذنا الدكتور مصطفي شحاتة من ذاكرة غير دقيقة تماما: عبد الرافع بلال، وجمال مسعود، وإبراهيم رجب، وعايدة اللقاني، وزهيرة عابدين، وفاطمة عابدين، وإن كان أستاذنا الدكتور مصطفى شحاتة يذكر أنه زامل طبيبا وزيرا هو رمزي هنري أبادير، وهو ما لم يحدث بالطبع فالوزير كمال هنري أبادير تخرج في الكلية الحربية في دفعة الرئيس جمال عبد الناصر .
اختاره الدكتور محمود صلاح الدين معيدا للأمراض الباطنة عند تأسيس طب الإسكندرية. وهكذا كان الدكتور درويش بمثابة التلميذ الأول للدكتور محمود صلاح الدين بك أستاذ الباطنة في الإسكندرية ووزير الصحة الأسبق. وكانت شهادته في دكتوراه الامراض الباطنة (1945) أول درجة دكتوراه تمنحها جامعة الإسكندرية. وواصل دراساته الطبية العليا في إدنبرة وبالتيمور (جامعة جون هوبكنز) في مجال الجهاز الهضمي (1945 – 1947). ويروى أنه أتيح له في 1946 أن يرافق إسماعيل صدقي باشا عند عودته بالطائرة بعد انتهاء مفاوضاته في بريطانيا وإصابته بوعكة صحية.
مارس الدكتور أحمد السيد درويش أيضا العمل السياسي في ظل الدولة الشمولية باقتدار وتألق، وكان قادرا على الخطابة والإقناع والتأثير، وكان يتمتع بشعبية كبيرة وتقدير علي المستويات الجامعية والنقابية والسياسية
عمادته الناجحة لطب الإسكندرية
تدرج الدكتور أحمد السيد درويش في وظائف هيئة التدريس بكلية طب الإسكندرية حتى نال درجة الأستاذية سنة 1958)، ولم يكن أحد من زملائه في قصر العيني قد نالها حتى ذلك التاريخ على نحو ما ذكرنا في مدونتنا: ” هؤلاء هم أول أساتذة الطب الذين تخرجوا في الجامعة ” المنشورة في 3 مارس 2020، ثم عين عميدا للكلية، وهو صاحب أطول فترة عمادة في طب الإسكندرية حتى الآن إذ عمل عميدا ( 196- 1970) وبسبب طول عهده واستقرار الزمن الذي تولي العمادة فيه، فإن الفضل ينسب إليه في كثير من الإنشاءات والتطويرات في طب الإسكندرية. وإليه يرجع الفضل في عدد من الإنشاءات المهمة رغم تقشف مرحلة الستينيات، ورغم النكسة التي أوقفت كثيرا من خطط التنمية: فقد أنشأ أكبر وأضخم مبني في كلية الطب، وهو المبني المكون من سبعة طوابق، تضم جميع الأقسام الأكاديمية والمكتبة العظيمة، وقسم التصوير الطبي، والمكاتب الإدارية للكلية، كما أنشأ مكتبة جديدة لكلية الطب في الدور السادس بالمبني الأكاديمي.
وأنشأ الجناح (د) من مبني أقسام الجراحة، وافتتح مستشفى الأطفال الجديد الذي بني في حديقة مستشفى الشاطبي من أربعة طوابق، ويسع 228 سريرا، كما افتتح مبني قسم التشريح الجديد، وأنشأ قسما جديدا لحالات الطوارئ، ووحدة خاصة لحالات الحروق، ووحدة جديدة للعناية المركزة، كما خصص معامل للتحاليل الطبية في كل وحدة من وحدات أقسام الجراحة، وفي كل وحدة من وحدات أقسام الأمراض الباطنية، والأقسام الأخرى، وأنشأ الدكتور درويش ناديا للأطباء في المستشفى، وقد أوفدت الكلية في عهده قوافل طبية علاجية للسفر إلى الدول الإفريقية لتقديم الخدمات العلمية والعلاجية (1970)، وكانت القافلة الأولي (1971) إلى دول شرق إفريقيا برئاسة رئيس الجامعة الدكتور محمد لطفي دويدار، أما القافلة الثانية (1974) فكانت برئاسة زميله الدكتور محمد جمال الدين مسعود.
نشاطه السياسي
مارس الدكتور أحمد السيد درويش أيضا العمل السياسي في ظل الدولة الشمولية باقتدار وتألق، وكان قادرا على الخطابة والإقناع والتأثير، وكان يتمتع بشعبية كبيرة وتقدير علي المستويات الجامعية والنقابية والسياسية. وقد ناب مع زميليه الدكتورين رشوان فهمي، وعلي نوفل عن أطباء الإسكندرية في الدعوة (1958) إلى إنشاء نقابة أطباء فرعية بالإسكندرية، وأصبح هو نفسه نقيب الأطباء بالإسكندرية، في الوقت الذي كان فيه الدكتور رشوان فهمي نقيبا لأطباء مصر كلها (1958). واشترك الدكتور درويش في إنشاء الاتحاد القومي 1961والاتحاد الاشتراكي 1963. وكانت معرفته بالرئيس السادات قد توثقت أيضا خلال زياراته لصديق عمره هاشم نصار في الإسكندرية. هكذا شارك الدكتور درويش في النشاط السياسي طيلة عهد الرئيس عبد الناصر، يذكر للدكتور أحمد السيد فضل كبير في الإفراج عن الطلبة الذين اعتقلوا في مظاهرات 1968، شارك الدكتور أحمد السيد درويش في أعمال اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي التي كانت تتكون من 150 عضوا فقط. وكان واحدا من النوادر الذين آزروا الرئيس السادات في اجتماع اللجنة المركزية الشهير قبل حركة التصحيح في 15 مايو 1971 .
دخوله الوزارة وتوليه ثلاث وزارات
في أعقاب وفاة الرئيس عبد الناصر اختير الدكتور درويش وزيراً في وزارة الدكتور محمود فوزي الثانية التي شكلها في الثامن عشر من نوفمبر 1970 وقد عين وزيراً للسياحة، وهو ما يدلنا على ما أشرنا إليه في المقدمة من الرغبة في تكريمه. وفي وزارة الدكتور فوزي الثالثة 15 مايو 1971 بقي الدكتور درويش وزيراً للسياحة. وفي وزارة الدكتور فوزي الرابعة (سبتمبر 1971) اختير وزيرا للصحة، وتولى بالإضافة إليها وزارة الشئون الاجتماعية بالنيابة، وظل يتولاها حتى تولتها الدكتورة عائشة راتب مع افتتاح الدورة البرلمانية في الحادي عشر من نوفمبر سنة واحد وسبعين، أي بعد خمسين يوماً من التشكيل الوزاري، وقد بقي الدكتور درويش وزيرا للصحة طيلة هذه الوزارة، أي حتى يناير 1972، خلفه الدكتور محمود محفوظ في وزارة الدكتور عزيز صدقي، وبهذا فقد كان أقصر وزراء الصحة في عهد الرئيس السادات عهدا بالوزارة، وقد أصيب بالشلل في أثناء توليه الوزارة في أكتوبر 1971 وبٍقي ملازما للفراش. وقد أصدر الرئيس السادات قرارا في 21 يناير سنة 1972 بتعيينه مستشارا لرئيس الجمهورية بدرجة وزير، فلما أصدر الرئيس السادات قرارا في 13 نوفمبر سنة 1974 بإعادة تنظيم ديوان الرئاسة وبإحالة أحد عشر وزيرا برئاسة الجمهورية إلى المعاش، كان منهم الدكتور أحمد درويش، اتبع ذلك بقرار جمهوري بتعيينه 1974 أستاذا غير متفرغ بكلية طب الإسكندرية، وهو المنصب الذي ظل محتفظا به حتى وفاته.
وجهات نظره في السياحة
وصفه زوج ابنته الأستاذ محمود كامل محرر الشئون السياحية في الاهرام بأنه «مقاتل من طراز فريد، اشتهر بشجاعة الفرسان وحكمة الساسة.. باسم الوجه دائما سريع البديهة شديد الذكاء والفراسة، بالغ الصراحة إلى حد الصدام»، ويرى محمود كامل باعتباره محررا سياحيا أنه كان لأحمد درويش فضل كبير على السياحة المصرية تمثل في قدرته (!!) علي إلغاء القرار الحكومي الذي كان يلزم جميع المصريين باستخدام الطائرات والبواخر المصرية في أسفارهم ومنعهم من أي تعامل مع الطائرات والبواخر الأجنبية، وكان هذا القرار قد حرم جميع هذه الشركات من أن يتعامل معها مصري واحد، وأن أحمد درويش نجح في إقناع المسئولين بإلغاء هذا القرار، وعقد أشهر مؤتمر صحفي في تاريخ السياحة المصرية (!!) يقول محمود كامل: «من يومها بدأت السياحة الحقيقية إلى مصر».
ويذكر له الأستاذ محمود كامل انه كان يلفت النظر إلى أحد الأمثلة الصارخة لتدهور السياحة في مصر متمثلا فيما حدث لمنطقة حلوان السياحية التي كانت من أجمل المناطق السياحية والصحية في مصر بحديقتها اليابانية، وعيونها الكبريتية حتى منتصف القرن العشرين، ثم تحولت إلى منطقة صناعية مزدحمة بالسكان والمصانع، وملوثة الهواء، ومهملة المرافق، وقد ألقى بمسئولية هذا على كل وزراء الصناعة السابقين، وقد أدي إبداؤه لهذا الرأي أن تضايق زميله الدكتور عزيز صدقي وزير الصناعة ونائب رئيس الوزراء من هذا التصريح واعتبره ماسا بشخصه، وعاتب الدكتور أحمد درويش علي ما جاء به، وهكذا كان من الصعب أن يستمر وزيرا للصحة عندما شكل عزيز صدقي وزارته.
كان الدكتور درويش عضوا في مجلس أكاديمية البحث العلمي (1973)، وأصبح رئيسا لمجلس البحوث الطبية والدوائية بها (1974)، كما اختير رئيسا للجنة اختيار المرشحين لجوائز الدولة التشجيعية
انضمامه لحزب الأحرار الاشتراكيين بقيادة مصطفي كامل مراد
لما شكل حزب الأحرار الاشتراكيين بقيادة مصطفي كامل مراد، اختير الدكتور أحمد السيد درويش نائباً لرئيس الحزب (في منتصف 1976 )، ورئيساً لوزراء حكومة الظل حين خطر ببال حزب الأحرار حين كان عليه أن يمثل المعارضة أن يكون له بعض أشكال المعارضة، فتشكلت هذه الحكومة التي يرأسها الدكتور أحمد السيد درويش، ولكن قواعد اللعبة السياسية سرعان ما تغيرت وجاء كل من الوفد والعمل لتقع علي عاتقهما مهمة المعارضة، وذهبت حكومة الظل هذه إلى ظل الظل.
وفي ديسمبر 1978 استقال الدكتور أحمد السيد درويش من الحزب ثم عدل عن استقالته، وأشرف على صحف الحزب (1987). وخاض انتخابات مجلس الشعب (1987) على رأس التحالف، لكنه لم يوفق.
نشاطه العلمي القومي
كان الدكتور درويش عضوا في مجلس أكاديمية البحث العلمي (1973)، وأصبح رئيسا لمجلس البحوث الطبية والدوائية بها (1974)، كما اختير رئيسا للجنة اختيار المرشحين لجوائز الدولة التشجيعية، وكلفته الأكاديمية بزيارة مراكز البحث الطبي في إنجلترا، ودراسة مجالات التعاون معهم، ثم أوفدته علي رأس وفد طبي لدراسة مرض البلهارسيا ومشاكله في السودان (1979).
جمعية الشبان المسلمين في الإسكندرية
تولي الدكتور درويش رئاسة جمعية الشبان المسلمين في الإسكندرية وهو الذي بدأ تقليد إقامة المعرض الدولي للكتاب فيها.
من قصيدة لأستاذنا الدكتور مرسي عرب في مديحه
درويش أعبر من صميم القلب صدق تحيتي
وأرد دينا بالوفاء يكون قدر محبتي
ولقد خبرتك صارما في الرأي تصرع خصمك
بفصاحة في القول قاضية بمثل السكتة
لكن رأيتك منصفا متفهما روح الشباب
ومنصتا في غير كبر تستجيب لفكرتي
عائلته ووفاته
من الطريف ان الدكتور أحمد السيد درويش سمى أولاده جميعا بأسماء تبدأ بحرف السين، وقد كرمه أستاذنا الدكتور مصطفى شحاتة بكتاب اختار له عنوان أستاذ الطب والسياسة.
توفي الدكتور أحمد درويش في 15 مايو 1992.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا