على مدى أربعين عاما كنت أطالع كثيرا جدا من المعلومات الخاطئة في كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل فأتعجب كيف وقع فيها، وهو الذي يتحدث بفخر عن تمتعه بمكتب وفريق عمل ومساعدين ومستشارين ومترجمين وموثقين …الخ، ومع الزمن وبحكم دراستي الطبية وممارستي للبحث العلمي وإشرافي على بحوث الدكتوراه وما قبلها وما بعدها فإنني كنت لا أميل إلى القول بأن هذه الأخطاء أكاذيب، فهذا تشخيص بسيط يستطيع أن يصل إليه الباحث العادي، لكن البحث العلمي يتطلب ما هو أبعد من وصف الخطأ بأنه خطأ. ومن الحق أن أعترف بأنني ظللت في كثير من هذه الحالات أعاني الحيرة إلى أن اكتشفت أول وجه من وجوه الحقيقة وهو أن بعض الروايات لا تروي ما حدث بالفعل وإنما تروي ما كانت الأجهزة المخابراتية قد رسمته، وعملت من أجل حدوثه حتى لو كان قولا أو حوارا، ولم أكن أتصور هذه الآلية إلا حين نجاني الله سبحانه وتعالى منها أكثر من مرة منذ سبع سنوات.
كنت قد أشرت في مدونة سابقة بعنوان “إليك ما قاله الأستاذ هيكل بالنيابة عن أمريكا في كتابه الانفجار 1967” إلى أن الهدف الأصلي من كتاب «الانفجار» الذي ألفه الأستاذ هيكل عن هزيمة 1967 قد ظهر بوضوح وتكرر تأكيده على نفسه، وعلى وجوده، وعلى أهميته طوال صفحات هذا الكتاب الضخم، حتي أصبح يكرر نفسه مع كل فصل، ومع كل باب حين يقول الأستاذ هيكل إن إسرائيل أخلّت باتفاقها مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الهدف من حرب 1967، فبينما كان الاتفاق يركز على تأديب جمال عبد الناصر، فإن إسرائيل استغلت الفرصة وابتلعت بالإضافة إلى ذلك الضفة الغربية، والقدس. وأضفت أنه من أجل هذا الهدف فتحت أمام الأستاذ هيكل خزائن الوثائق الأمريكية ليأخذ منها ما يدعم هذا الهدف، وليتظاهر بأنه أقنع من خلال الوثائق أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية أن إسرائيل هي التي خانت الاتفاق وأن أمريكا لم توافق على هذه الخيانة في أية مرحلة من مراحل هذه الحرب، وقد أورد الكتاب مجموعة من الوثائق الأمريكية الناطقة بهذا المعني.
وأشرت في مقال آخر إلى أن الأستاذ هيكل في هذا الكتاب كان حريصا على أن ينقض كل آرائه السابقة في الملك فيصل، وهي الآراء التي أخفاها بعد أن تم التفاهم الذي منح بمقتضاه كثيرا من الود السعودي حتى إنه تولى كتابة مقدمة كتاب التويجري التذكاري عن الملك عبد العزيز، فضلا عن الإمكانات الشاسعة التي مولت صدى مفتعلا لكتاباته الجديدة التي أصبحت تثمن (بطريقة غير مباشرة أو ملتوية) قيمة الإعلام السعودي والتوجهات السعودية وإلى حد أنه هو الذي أطلق مسميات من قبيل الحقبة السعودية وحقبة الثروة بدلا من الثورة مع كل ما في هذه التسميات من خيانة للكفاح التقدمي. وقد ناقض الأستاذ هيكل نفسه بسهولة من دون أن يعنى بالتوافق مع حجم أطروحاته السابقة التي قامت على التلميح والتجريح، والتي ضمنها فقرات كثيرة في أكثر من كتاب تناول فيها الملوك السعوديين بكل ما أمكنه من الموبقات.
وفي هذا الإطار نجد الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتاب الانفجار ١٩٦٧ وهو يورد أدلة كثيرة على أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يكن يستفيد من كل ما بذل جهده (وما بذله له محبوه من جهد) من أجل توسيع معرفته أو إحاطته بمجريات الأحداث والحوارات، وهذا على سبيل المثال نموذج واضح يشوه به الأستاذ محمد حسنين هيكل ذكري رئيسه الزعيم عبد الناصر بلا حرج حيث يتهمه بالتجسس، بل والتجسس المتكرر، وعدم الاستفادة مما حققه من خلال التجسس، هذا من حيث الشكل أما من حيث المضمون فإن الأستاذ لا يجد حرجا في تصوير الزعيم جمال معرضا للدفن على يد ولي العهد السعودي رغم ان ولي العهد السعودي [الذي هو الملك فيصل] الذي كان مشغولا في الوقت نفسه بتطويق أخيه الملك سعود، ولنقرا نص فقرة الأستاذ قبل أن نفاجئ القارئ بالحقيقة الغريبة والدامغة التي سنوردها بعدها.
ها هو الأستاذ محمد حسنين هيكل يقول: «……. وكان المثال الصارخ لذلك هو حرب اليمن التي حاول جمال عبد الناصر إيقافها بكل وسيلة أثناء اجتماع مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية (سبتمبر 1964) وقد حضره الأمير فيصل آل سعود نائباً للملك، وكان قد بدأ بالفعل عملية تطويق أخيه الملك سعود تمهيداً لعزله وقد أحس جمال عبد الناصر ومؤتمر القمة ما زال منعقداً في الإسكندرية، أن حل قضية الحرب في اليمن ما زال بعيداً، فقد وصله نص حوار جرى في حديقة قصر المنتزه بين الأمير فيصل والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة وفي هذا الحوار ورد على لسان الأمير فيصل قوله إنه «إذا لم ينسحب الجيش المصري من اليمن فنحن على استعداد لأن نجعل منها مقبرة كبيرة له» ولم تكن هذه أول مرة يسمع فيها «جمال عبد الناصر» مثل هذا القول أو يقرأه منقولا عن الأمير «فيصل» ولكنها كانت أول مرة يُتاح له فيها أن يتحقق من القول مباشرة ومن مصدر لا شُبهة حول صدقه!».
أما المفاجأة فهي أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة لم يحضر هذا المؤتمر، وإنما رأس الوفد التونسي رئيس الوزراء الهادي الأدغم. لماذا قال الأستاذ هيكل ما قال؟ أم أن الحوار كان بين طرفين آخرين وغير الأستاذ هيكل شخصيات أبطال القصة؟ أم أن الحوار تم تأليفه وطباعته من قبل أن ينعقد المؤتمر، ولم ينتبه المؤلفون إلى غياب المحاور أصلا، وهكذا ظل الملف المفبرك في مصر، وانتقل منها إلى أمريكا هكذا، ثم نقله الأستاذ هيكل من الوثائق الامريكية من دون أن ينتبه إلى أن الرئيس التونسي لم يحضر القمة التي حضرها هو نفسه أي الأستاذ هيكل من بدايتها لنهايتها، وتابعها صحفيا، وكتب عنها أكثر من مرة.