الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / #عبدالعزيز_جاويش الزعيم الوحيد الذي اكتتب الشعب لتتويجه وساما من الذهب

#عبدالعزيز_جاويش الزعيم الوحيد الذي اكتتب الشعب لتتويجه وساما من الذهب

 

الشيخ عبد العزيز جاويش هو أبرز زعماء مصر في عهد الليبرالية اشتباكا بقضايا الوطنية والهوية معا لا يتفوق عليه أحد في ذلك الاشتباك الواسع الممتد ، ولا يناظره فيه إلا الزعيمان مصطفى كامل و سعد زغلول اللذان قادا هذه الحركة في معتركها ، أما النحاس باشا و معاصروه فقد تولوا الزعامة والقيادة بعد أن كانت الهوية المصرية قد تحددت بالاستقلال والدستور والبرلمان والحياة الحزبية . ومن حسن حظ مصر أن الشيخ جاويش كان هو الروح التي منحت الحياة  للحركة الوطنية ، وأنه كان هو القلب الذي أنبض ونبّض أداء زعامتي مصطفى كامل و سعد زغلول على الرغم مما هو معروف للكافة من اختلاف توجهاته و مساره وخطابه عن سعد زغلول لكن  تنبيض جاويش و استثارته الإيجابية لزعامة سعد زغلول كان حقيقة مطلقة حتى مع اختلاف التوجهات السياسية المعلنة . 
فضلا عن هذا فإننا قبل أن نمضي مع ملحمة حياة  الشيخ عبد العزيز جاويش نحب ألا ننسى القول بأن الشيخ عبد العزيز جاويش كان هو ذلك الرجل الذي وقع عليه اختيار الزعيم التركي أتاتورك ليكون القائم بمهمة وزير الثقافة والإرشاد في الدولة الجديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ، وقد قام هذا الرجل بهذه المهمة بالفعل ، لكنه لما وجد الزعيم التركي أتاتورك يحيد عما يراه صوابا و يشرع في إلغاء الخلافة العثمانية  قرر أن يفارقه ، ولم يكن أمامه من مخرج إلا الهرب ، والعودة إلى مصر سرا ، وهذا موضوع لحديث طويل آخر إن شاء الله . 
و إذا ما قدر لمصر المعاصرة أن يرتفع سهمها في المحيط الدولي إلي ما تنشده أدبيات المصريين المتطرفين في شوفونيتهم المصرية أو المصريين المخلصين المتمسكين بانتماء مصر كلية للإسلام وانتماء الإسلام لمصر ، فسوف يكون اسم عبد العزيز جاويش من حيث الرمزية هو أبرز رموز النهضة القومية بلا جدال، نعم سوف يكون اسمه سابقا حتى على أسماء الزعيمين سعد زغلول، ومصطفي كامل، والمعلمين جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ذلك أن جهود هؤلاء جميعا قد تجمعت وتبلورت على أفضل ما تكون في شخصية جاويش، وآرائه، ونشاطه، وآثاره.  وع هذا فإن التفكير التاريخي المعاصر في مدي التأثير الذي تركه كل زعيم لا يجعلنا نقدم اسم عبد العزيز جاويش على هؤلاء، وإن احتفظنا به معهم، أو قريبا منهم، مع الاعتراف بأن جهود الشيخ جاويش وإمكاناته كانت كفيلة بأكثر مما حققه غيره لولا أن التيار الوطني كان لايزال (بل لايزال حتي الآن) أضعف من أن يفي لمصر بآمال عبد العزيز جاويش  لها، وهي آمال تستند إلي واقع بأكثر مما تعول على خيال، لكن همة معاصريه وظروفهم لم  تتح لها أن تمضي إلي نهايتها على نحو ما كان جاويش يؤمل ، و مما يؤسف له أن الأمر لا يزال كذلك . 


قيمته العملية 


الأستاذ عبد العزيز جاويش هو النموذج الأول في العصر الحديث للزعيم السياسي ذي النزعة الخلقية الذي مارس السياسة في أعلى مستوياتها باقتدار، ومارس التربية والتعليم بسعة أفق وذكاء، وقدم لوطنه تلاميذ أفذاذا في كل ميدان، و احتفظ بأخلاقه العالية، وروحه السامية طيلة حياته.  وهو أيضا النموذج الأول في العصر الحديث للزعيم السياسي لم يعرف عنه أنه تنازل عن مبدأ أو هدف، وقد جمع العلم والفهم والحماس والعمل الدؤوب. و تعددت مواهبه كما تعددت إنجازاته وآثاره، وقد سبق عصره وسبق أنداده ولم يحظ اسمه حتي الآن بما يستحق من تخليد وتكريم.
من وجهة النظر المادية البحتة أو المادية الجدلية فإنه إذا كان مضي السنوات كفيلا ببلورة الحقائق تبعا للأثر مع إغفال التحزب فإنه يمكن لنا من الناحية العملية وبعد انقشاع غبار المعارك أن ندرك على سبيل الاجمال أن هناك مكانة عالية لزعماء الوطنية في مصر تالية مباشرة لمكانة زعيمي الأمة سعد زغلول باشا ومصطفى النحاس باشا  وأن الشيخ عبد العزيز جاويش بك مع الزعيمين مصطفى كامل باشا و محمد فريد بك يحتلون هذه المكانة متفوقين بذلك على كل رؤساء الوزارات والأحزاب ومتفوقين على الملوك والحكام وعرابي باشا والبارودي باشا ، ومن الإنصاف أن نذكر أن ثورة ١٩٥٢ في بدايتها كانت واعية تماما لهذه الحقيقة فيما يخص الشيخ جاويش لكنها لأسباب قاهرة بعد عقد من الزمان قبلت على مضض بأن تتظاهر بأنها قبلت أن تؤخر مكانة الشيخ عبد العزيز جاويش بك وكان هذا التنازل غير المبرر مظهرا من المظاهر المبكرة و المكتومة للمضي نحو هزيمة ١٩٦٧.  


مقارنته بالأستاذين الأفغاني ومحمد عبده 


فإذا ما انتقلنا إلى الأصول الفكرية للنهضة الحديثة فإنه يمكن النظر إلي عبد العزيز جاويش على أنه الرمز الثالث للإصلاح الديني مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقد فاق تأثيره العملي في هذا المجال جهود سلفيه حتي وإن لم ينتبه إلي هذا المؤرخون، حتي وإن تعمد عدد من أبناء مدرسة محمد عبده تجاهل دوره محتفظين لأنفسهم فرادي بمحاولة خلافة محمد عبده.
وقد ذهب المستشرق تشارلز أدمس في كتابه عن الإسلام والتجديد في مصر إلى ما استطاب للكثيرين أن ينقلوه عنه وهو أن الشيخ عبد العزيز جاويش كان تلميذا لمحمد عبده، ولكنه كان في حياته السياسية العنيفة كان أقرب إلي جمال الدين الأفغاني منه إلي الشيخ محمد عبده! وواقع الأمر أن التوجهات لا تقاس هكذا، ولا تقاس بمعزل عن الظروف التي دعت إلى الاعتدال أو التطرف، وربما كان منهج جاويش أكثر قربا من منهج الشيخ محمد عبده لو أن الظروف تعاقبت في اتجاه آخر في السنوات التي أعقبت وفاة محمد عبده.


تأثره بالأستاذ الإمام محمد عبده 


كان تأثر الشيخ عبد العزيز جاويش بأستاذه محمد عبده عميقا ، إذ كان حريصا على حضور دروسه في التفسير،  ثم على انتهاج طريقة هذا الأستاذ في الكتابة  والبحث و المحاضرة  ، وقد فسر الشيخ عبد العزيز جاويش بعض أجزاء من القرآن الكريم فكان تفسيره في رأي الدكتور محمد رجب البيومي أقرب التفاسير إلي أسلوب الشيخ محمد عبده.
 كتابه المبكر “الإسلام دين الفطرة” 
كتب الشيخ عبد العزيز جاويش كتابه الشهير “الإسلام دين الفطرة” 1905 في لندن، متبعا فيه طريقة الإمام في البحث الديني، واستشهد كثيرا بآرائه.. واستوحى الشيخ عبد العزيز جاويش اسم الكتاب من قول أحد طلبته الإنجليز أثناء تدريسه بلندن: “يخيل إلي يا شيخ أن هذا الدين لا ينافي الفطرة”.. فسعى الشيخ عبد العزيز جاويش لتأصيل المفاهيم حول الإسلام وبيان أثر القرآن في تحرير الجنس البشري. حين نفدت طبعته الأولى قامت جريدة “المؤيد” بنشره كاملا في نفس السنة، ثم أعيد طبعه أكثر من مرة، وترجم إلى اللغة الإنجليزية


مقارنة العقاد بين عبد العزيز جاويش و محمد رشيد رضا في تأثرهما بالأستاذين 


يقول الأستاذ العقاد في معرض حديثه عن الشيخ جاويش: 
“………  وبين الشيخ رشيد رضا  والشيخ جاويش جامعة لا غنى عن الإشارة إليها لتقدير كل منهما معًا، وكل من دخل معهما في هذه الجامعة، فبعد جمال الدين ومحمد عبده أصبح من همِّ كل شيخ ناشئ أن يصبح أستاذًا إمامًا أو نمطًا آخر من جمال الدين. ومن هنا نشأت مدرسة رشيد رضا، ومصطفى المراغي، وطنطاوي جوهري وعبد الحميد الزهراوي، ومحمد الخضري، ومحمد المهدي، والنجار، وغيرهم. ولكن الشيخ عبد العزيز كان يتشبه ﺑ جمال الدين؛ حيث يتشبه أقرانه على الأكثر بالأستاذ الإمام. وفارق آخر بينه وبين الشيخ رشيد أن الشيخ رشيد كما قلنا كانت به جفوة عن الفكاهة والكياسة. أما الشيخ عبد العزيز، فقد كانت فيه من أبناء البلد الظرفاء مشابهة كثيرة.


مكانته في الحزب الوطني 


استقر النظر إلي عبد العزيز جاويش على أنه ثالث ثلاثة الرموز التاريخية للحزب الوطني مع الزعيمين مصطفي كامل ومحمد فريد، وفي الحق أن التأثير الضخم الذي تركه جاويش في هذا الحزب وصحافته وكوادره يفوق تأثير الزعيمين الأولين ، حتي مع كون مصطفي كامل صاحب الفكرة، وباعث النهضة، ومع إخلاص محمد فريد البالغ للفكرة ، و تفانيه فيها ، أما الشيخ عبد العزيز جاويش فقد لعب دور زارع الأمل والصحوة، وصانع نخبة الحزب، وفكره السياسي والعملي بما كان يكتبه كل يوم إلى أن  آن أوان الصراع الفكري والاجتماعي والسياسي ، وبما كان يتناوله في كل مقال من فهم وطني، وتنظير عقيدي على أرفع مستوي، وهو ما لم يكن أحد غيره قادرا عليه، وهو بلا جدال أبرز كتاب الحزب الوطني، وأبرز كتاب جريدة اللواء.
أما دور عبد العزيز جاويش في التمهيد لثورة 1919 فدور لا يمكن نكرانه، حتي مع ما نعرفه عن أنه لم يكن ممن قاموا بزعامة هذه الثورة حين قامت بسبب ظروف نفيه وهجرته، بل إنه بدأ يعارض آليات سعد زغلول وتوجهاته بأقصى صور المعارضة الفكرية ، لكننا نستطيع أن نلمح أن النسيج الذي استخدمته زعامات ثورة 1919 قد اعتمد في المقام الأول على ما تم تكريسه من الخيوط المغزولة التي غزلها جاويش، من قبل،  وأجاد تقويتها، والتمهيد بها للنهضة الوطنية التي تمثلت في ثورة 1919 وما تلاها.
اتصاله بالحزب الوطني وخلافته لمصطفى كامل في رئاسة تحرير اللواء  
كان الشيخ عبد العزيز جاويش يكتب في جريدة اللواء منذ كان طالبا بدار العلوم، لكنه لم يبدأ علاقته المباشرة بزعامة الحزب إلا حين  قابله الزعيم محمد فريد في مؤتمر المستشرقين الذي عقد في  ١٩٠٥ ، وقد لفت الشيخ عبد العزيز جاويش نظر الزعيم محمد فريد حين قام بالرد على المستشرق الألماني “دلفروسي” الذي ادعى في كلمته أن القرآن الكريم كان أول كتاب عربي وضع بالعامية لعرب ما قبل الإسلام، فرد عليه الشيخ ردا قويا قائما على العلم بتاريخ اللغة وتاريخ الدين، كما بدا تمكنه من اللغات الأجنبية وغيرته على لغة قومه ودينهم، فعرض عليه محمد فريد أن يعرفه بالزعيم مصطفى كامل الذي كان في رحلة عمل بلندن فوافق الشيخ عبد العزيز جاويش وسافر على الفور وقابله، وكان هذا اللقاء فتحا جديدا في حياة عبد العزيز جاويش.
 ولما وقعت حادثة دنشواي (1906) تكثف اتصاله بالزعيم مصطفي كامل وأيده في جهوده المناهضة للاستعمار البريطاني، واشترك في تحرير جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني .
وحينما توفي الزعيم مصطفى كامل رأى الزعيم محمد فريد بك أن يتولى الشيخ عبد العزيز جاويش خلافة الزعيم مصطفى كامل في رئاسة تحرير “اللواء”  وعندئذ برز اسم الشيخ عبد العزيز جاويش كأحد رواد مدرسة الصحافة الوطنية وحاملي لوائها،  وبخاصة بعد أن تولت اللواء قيادة  الحركة الوطنية . 
وعلى صفحات هذه المجلة كتب الشيخ عبد العزيز جاويش عدة مقالات هاجم فيها الاحتلال والمحتلين وصنائعهم، فسيق إلى المحاكمة على نحو ما سنذكره بالتفصيل .


أول مقالاته حين رأس تحرير اللواء 


كتب الشيخ عبد العزيز جاويش في أول مقال افتتح به عمله رئيسا لتحرير اللواء في 3 مايو 1908:
” بعونك اللهم قد استدبرت حياة زادها الجبن ، وخدر العزيمة،  ومطيتها الدهان والتلبيس في أسواقها النافقة،  تشتري نفيسات النفوس بزيوف الفلوس ، وتباع الذمم والسرائر بالابتسام وهز الرؤوس”
” وبيمنك اللهم أستقبل فاتحة الحياة الجديدة حياة الصراحة في القول، وحياة الجهر بالرأي حياة الإرشاد العام، حياة الاستماتة في سبيل الدفاع عن البلاد العزيزة، أستقبل هذه الحياة بعد أن قضيت في سابقتها ثماني حجج بلغت فيها ذلك المنصب الذي كنت فيه بين محسود عليه ومرجو فيه، أستقبل هذه الحياة المحفوفة بالمخاطر، منبريا في ميدانها، فإما الصدر و إما القبر موقنا بما أعد الله لعباده العاملين المخلصين من الظفر والفتح المبين عارفا أن :    الحي لا يموت إلا مرة   والموت أحلى من حياة مرة
“وكيف لا نقدم من أنفسنا قرابين بين أيدي أهرام هذا القطر ونيله؟ أم كيف لا نصرف كل مرتخص وغال في سبيل تحريره، وقطع اليد الغاصبة له جزاء بما كسبت، فلنتمسك بهذا المبدأ الشريف ما حيينا ولنعتصم به ما بقينا ولنرفع أصواتنا حتى نطرق بها أبواب السماء فنستنزل المقت والسخط على من دخلوا بلادنا وقبضوا بأيدي جبروتهم على نواصينا، واستخدموا في سبيل إصابة غرضهم أفرادا إذا ما لقوكم قالوا إنا معكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين” .
” فاللهم أسالك لسانا ناطقا بالصواب والحكمة ……….
”  فما أحوج الأمة إلى كلمة حق يستمعونها، وجميل عظة يعونها، وما أضمن الجرائد أن تتعاون وتتضامن على البر والتقوى ، وما أخلقها حتى تكون يدا واحدة على أعدائها، يحذرونها ويخشون بطشها،  وما أحراها أن تعلم أنها بتفرقها وتخاذلها إنما تشمت عدوا مبينا ، وتكمد صديقا شفيعا 
” فأرسل اللهم على هذه الأمة وقادتها ومرشديها من عندك روحا يجمع شتيتها ويوحد كلمتها ويعصم أقدامها من الزلل وآراءها من الخطأ والخلل آمين”.


ملخص للقضايا التي اتهم بها وهو في رئاسة تحرير اللواء 


في بدايات تولي الشيخ عبد العزيز جاويش لرياسة تحريراللواء كتب  مقالا تحت عنوان “دنشواي أخرى في السودان” قدم على أثره للمحاكمة عام 1908 وحكم عليه لكنه نال البراءة في الاستئناف. 
أعيد الشيخ عبد العزيز جاويش للمحاكمة في العام التالي لنشره مقالا عن ذكرى دنشواي وحكم بحبسه ثلاثة أشهر، غير أن الشعب قدر له هذه الوطنية فقدم له وساما بعد الإفراج عنه.
أما المحاكمة الأكثر شهرة في التاريخ فكانت محاكمته 1910 بسبب اشتراكه مع محمد فريد في كتابة مقدمة لديوان “وطنيتي” للشاعر علي الغاياتي، وسجن ثلاثة أشهر.
الحكم عليه بالسجن ستة أشهر بسبب مقاله عن دنشواي بعد حكم البراءة  
أجاد الدكتور محمد رجب البيومي عرض وتصوير قصة الحكم بالسجن على الشيخ جاويش في المرة الأولي ، وذلك حيث قال:
” … كتب الأستاذ مقاله الناري بجريدة اللواء (28 مايو 1908) تحت عنوان دنشواي أخري في السودان، 70 مشنوقا، و13 سجينا، فتحدث عن جريمة الاستعمار الإنجليزي في إبادة سبعين سودانيا دون جريرة سوي غيرة بعض السودانيين على شرفهم حين هم بالاعتداء عليهم ضابطان إنجليزيان، فحالوا دون ما يبتغيان، ودارت معركة أسفرت عن قتلهما في حومة العدوان! فكان الجزاء الرادع أن يقتل بهما سبعون، ويسجن ثلاثة عشر من الأبرياء!” 
“وظهر مقال الأستاذ جاويش ليكون أول صوت يجلجل في صحف الشرق بالمأساة، فاهتزت لها الدنيا، واجتمع مجلس العموم البريطاني ليعلن غيظه من صاحب القلم الصاعق، ورأي المستوزرون في الحكومة المصرية أن يلبوا رغبة سادتهم المحتلين، فقدموا الرجل للمحاكمة بدعوي نشر أنباء كاذبة لم تتحقق، ولكن الأستاذ، ومعه نخبة من رجال المحاماة، قد استطاعوا أن يبرزوا صدق هذه الوقائع، ويعلنوا أن الكاتب الكبير لم يخرج عن أمانة القلم حين بيّن للناس ما يفعله المحتلون بإخوانه المسلمين! واضطرت المحكمة إلي إعلان براءته، فخرج من ساحة القضاء مرفوع الرأس، وحملته الجماهير هاتفة مصفقة إلي دار اللواء”.
” ثم جاءت ذكري دنشواي، فكتب الأستاذ في مأساة اليوم مقالة رنانة كان لها وقع الصاعقة على الاحتلال، إذ أن جميع أساتذة المعاهد، وطلاب المدارس قد سارعوا إلي حفظها كنشيد وطني تردده البكر والآصال، وقد أحدثت من التأثير والفزع في نفوس أبطال المأساة و مجرميها من رؤساء الاحتلال وصنائعهم المرجفين، ما جعل النيابة العامة تطلب إدانة الأستاذ بتهمة إثارة الرأي العام، فعقدت جلسة عاجلة لمحاكمته، وبيت الأمر بليل، إذ صدر الحكم قبل المناقشة فقضي على الكاتب الكبير بحبسه ثلاثة أشهر”
قصة وسام الشعب 
خرج  الشيخ عبد العزيز جاويش بطلا ، وكانت الجماهير في انتظاره لتستقبله وتمنحه وساما صنعته له خصيصا، وكان جاويش أول مَنْ حصل على هذا الوسام الذي لا يدانيه وسام آخر مهما علا قدره، وقد وصف استاذنا البيومي هذا التكريم المجيد فقال :   
” وأراد الشعب المجاهد أن يرد على هذا الظلم الصارخ فأعلن اكتتابا عاما يشترك فيه العامل والفلاح والموظف والتاجر ليقدموا وساما ذهبيا إلي الأستاذ، سمي إذ ذاك وسام الشعب، وما حانت ساعة انطلاقه من الحبس حتي أقيمت له حفلة تكريم كبري في فندق شبرد، وتقلد فيها الأستاذ وسام الشعب في مظهر وطني رائع، تحدثت به الركبان، وكان وسامه بين الأوسمة قمة لا تنال.
قصة الحكم عليه بالسجن الثاني 
كان من الطبيعي أن يكتب الشيخ جاويش مقدمة ملتهبة لديوان وطنيتي للشاعر على الغاياتي، ولم يكن غريبا أن تحكم عليه السلطة المتعسفة بالسجن ثلاثة أشهر أخري.
التجهز لدور رجل الدولة 
عرض الشيخ عبد العزيز جاويش فكرته عن إصلاح التعليم في المؤتمر السنوي للحزب الوطني 1910 حيث بدأ بالحديث عن البعثات العلمية ورياض الأطفال. 
 وفي العام التالي ١٩١١عقد الشيخ عبد العزيز جاويش ومعاونوه مؤتمرا كبيرا في مدينة المنصورة عام وألقى خطبة جامعة في إصلاح التربية والتعليم. 
ثم ما لبث أن اختارته وزارة المعارف مرة أخرى لكرسي تدريس اللغة العربية بجامعة أكسفورد، ويدل هذا الاختيار على تقدير علم الشيخ عبد العزيز جاويش وفضله.


سماته الشخصية 


كان عبد العزيز جاويش، كما وصفه أهل عصره الذين أدركوه، جميل السمت، حسن الشارة، متواضع النفس، حلو الحديث، لطيف الروح، شديد الحياء، جريئا في الدفاع عن دينه، شجاعا في الذود عن وطنه، صريحا في الإبانة عن رأيه، سباقا إلي كريم المساعي. و كانت في طبعة حدة تظهر على قلمه أو لسانه إذا أوذي في كرامته أو وطنيته أو عقيدته، وكان أسلوبه خطابيا يؤثر بالعاطفة أكثر مما يؤثر بالمنطق، وكان يجري فيه مجري الأسلوب المنسوب إلي الإمام علي كرم الله وجهه في نهج البلاغة.
مواهبه 
جمع الشيخ عبد العزيز جاويش التفوق في الخطابة والصحافة والكتابة والتربية والتعليم والعمل السياسي والعمل المدني، وهو بلا جدال نموذج فذ للعلماء المشتغلين بالسياسة والثورة والعمل المدني جميعاً فضلاً عن أنه مارس العمل الوظيفي بنجاح في لندن وبرلين وإستانبول والقاهرة وهو ما لم يتح إلا للنوادر في تلك الأجيال.
وصل الشيخ جاويش إلى ذروة مجده الجماهيري والصحفي في مجلة اللواء التي حقّقت بفضل كتاباته أرقاماً عالية في التوزيع لم تصل إليها صحيفة من قبل، وعُرِف بوطنيته المندفعة وهجومه على الاحتلال والمتعاونين معه، وكما سنفصل القول فقد حوكم أريع مرات، وسجن في مرتين منهما ، كما حكم عليه بالنفي فاستقر في إستانبول ،   وطورد وهو في منفاه ، وعاد سراً إلى القاهرة. واستأنف عمله في مجال التعليم و ان لم ينل ما كان جديرا به من الوظائف العالية كما توسع في أنشطته المدنية و كان من مؤسسي جمعية الشبان المسلمين وكان نائبا لرئيس مجلس إدارتها.

 
دوره التربوي 


لا يمكن لأي مؤرخ اجتماعي أو تربوي أن يقفز على الدور التربوي لعبد العزيز جاويش سواء في النظرية التربوية أو أصول التربية أو إصلاح التعليم الديني، أو تطوير التعليم القومي، ذلك أن دوره هو بالذات من بين أدوار نظرائه وأسلافه ، ممن لم يتولوا الوزارة ، يمثل الدور الأكبر الذي يشهد له بعبقريته و وطنيته، ويكفي أن نشير إلي أنه كان سابقا بأكثر من عقدين من الزمان على جهود  الأعلام من رجال الأزهر والمعارف (على حد سواء)، على الرغم من أنه لم يكن يكبرهم إلا بعدد من السنوات يعد على أصابع اليد الواحدة ( وعلى سبيل المثال إذا قارناه بشيوخ الأزهر السبعة الذين تولوا المشيخة بعد وفاته فإننا نجد أنه ولد في نفس العام الذي ولد فيه الشيخ محمد الخضر حسين 1876،   وتلاهما الشيخان الظواهري  ومأمون الشناوي في 1877 ، والشيخ حمروش في 1880 ، و الشيخ المراغي في 1881، والشيخ عبدالمجيد سليم في 1882 والشيخ مصطفى عبد الرازق في ١٨٨٥ ).
 وفيما بين أقرانه من الدراعمة فقد كان الشيخ عبد العزيز جاويش فلتة في زمانه ، فيما حققه وأداه ، و وصل إليه ، وعلى المستوى المهني والوظيفي و البيروقراطي فإنه كان أول اثنين هما أنبه أبناء جيله من خرّيجي دار العلوم ، أما الثاني فهو محمد عاطف بركات باشا ناظر دار القضاء الشرعي ووكيل وزارة المعارف، وابن أخت الزعيم سعد زغلول ، وقد ولد عاطف بركات قبله بأربع سنوات ،وتخرج قبله بثلاث سنوات ، وتوفي قبله بخمس سنوات، لكن حضور جاويش المتأجج كان يفوق أستاذية بركات المنتجة بمراحل : 
    محمد عاطف بركات باشا     1872            1894        يونيو 1924
    عبد العزيز جاويش بك        21يونيو1876         1897        5 يناير 1929


نشأته وتكوينه 


اسمه بالكامل عبد العزيز بن خليل جاويش.. تصفه بعض المصادر التاريخية (الزركلي وغيره) بأنه تونسي الأصل، وهو ما قاله هو نفسه في إحدى محاكماته ، ويصفه البعض الآخر بأنه ليبي الأصل، والظاهر أن الإقليم الذي نشأت فيه عائلته كان من المناطق التي تعددت تبعيتها مع الزمن، لكن هذا لا يعني شيئا في تاريخ حياة رجل كانت إنجازاته أكبر من المفهوم الضيق للوطنية أو الجنسية. و من غير المختلف عليه أن والده وفد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الإسكندرية واتخذ فيها متجرا للواردات الليبية، ومن هنا جاء الاعتقاد في أنه ليبي، و قد حاول  هذا الأب محاولات شتى لترغيب ولده في العمل معه بالتجارة، ولكنه فضل العلم على التجارة.

و من الطريف أن أم  عبد العزيز جاويش تركية وإن كان الشائع أنها مصرية  

ولد عبد العزيز جاويش بالإسكندرية في 31 أكتوبر سنة 1876 في هذه الأسرة الميسورة التي تعمل بالتجارة، ونشأ فيها وتعلم مبادئ القراءة والكتابة على نحو ما كان يتعلم أبناء جيله، وحفظ القرآن الكريم في أحد الكتاتيب، فحفظ كتاب الله وهو في الرابعة عشرة ثم بدأ يطلب العلم بجامع إبراهيم باشا بالإسكندرية، وبعد إتمامه دراسته الابتدائية انتقل للقاهرة ليجاور في الأزهر الشريف وهو في السادسة عشرة ، و واصل دراسته في الأزهر حين كان نجباء الأزهريين يومئذ يعدون أنفسهم للالتحاق بمدرسة دار العلوم لأنها أقرب الطرق إلي الحصول على وظائف التعليم والمحاماة،، وما إن سمع بأن هذه المدرسة دار العلوم تجري اختبارا لطلاب الأزهر حتى سارع لدخوله ونجح فيه ضمن  ستة عشر طالبا واستكمل دراسته بدار العلوم واشتهر بين زملائه بالجد، والاستقامة، والغيرة على الدين وتخرج فيها 1897.
أفاد عبد العزيز جاويش من دراسته في الجامع الأزهر ودار العلوم إفادة قصوى، وساعده على تفوقه تمكنه من آداب اللغة العربية، وتبحره في أصول الدين الإسلامي، وعقب تخرجه في دار العلوم (1897) عين مدرسا للغة العربية بمدرسة الزراعة، لكن عمله لم يطل، فما لبث أن وقع عليه الاختيار ليكون مبعوث وزارة المعارف إلى لندن التي سبقه إليها  زميله عاطف بركات باشا ،  ودرس في جامعة كانت تتولى تخريج رجال التربية،  وفي أثناء بعثته في بريطانيا أتقن الشيخ عبد العزيز جاويش اللغة الإنجليزية ومن ثم أتيحت له الفرصة ليعيش الحياة الإنجليزية بكل تفصيلاتها.
عاد الشيخ عبد العزيز جاويش إلى مصر في المرة الأولى (190١) وتولي مناصب عديدة في وزارة المعارف العمومية فاشتغل مدرسا ثم مفتشا للغة العربية في مفتشا بوزارة المعارف .


رائد التربية الحديثة 


في تلك الفترة المبكرة من حياته عني الشيخ عبد العزيز جاويش عناية شديدة بإصلاح ما كان يسمى بحرفة (مهنة) التعليم التي كانت تسير على طريقة التلقين وتحفيظ الدروس واستظهارها، وأصدر في هذه المرحلة كتابيه الرائدين العظيمين “غنية المؤدبين” و”مرشد المترجم”. 
أما كتابه “غنية المؤدبين”  الذي طبع ١٩٠٣ فيعد بمثابة الكتاب العربي الأول في أصول التربية الحديثة، ونلاحظ أن التربية في ذلك الوقت كانت تعبر عن نفسها بلفظ التأديب الذي هو أرقى بكثير من التربية . وقد قدم الشيخ عبد العزيز جاويش بمؤلفه هذا  كتابا مرجعيا  في  التربية للمعلمين ، وبهذا الكتاب التربوي كان الشيخ عبد العزيز جاويش أسبق من عالجوا أمراض مهنة التعليم وأول من قدم الأساليب الحديثة ، ومنها طريقة الاستنتاج بالمحاورة،  ولهذا كان كتابه هذا فتحا جديدا في علوم التربية .

 
الأستاذية المشاركة في أكسفورد 


اختير الشيخ عبد العزيز جاويش ليشغل منصب أستاذية اللغة العربية في أكسفورد متعاونا مع المستشرق مرجليوث أو مساعدا له منذ 1904 وحتى 1906 حيث خلفه الأستاذ محمد حسنين عبد الرازق الذي وصل إلى مناصب عليا في وزارة المعارف.
ومن الجدير بالذكر أن إقامات الشيخ عبد العزيز جاويش المتعددة في بريطانيا أتاحت له أن يناقش البريطانيين في فكرتهم عن الإسلام على مستويات متعددة ومن منظورات مختلفة .
تبلور الفكر التربوي للشيخ عبد العزيز جاويش
لا يزال هذا الفكر بحاجة إلي كثير من الدراسة الجادة باعتباره فكرا أصيلا ومنفتحا في الوقت ذاته ، و سوف نحاول أن نلقي عليه بعض الضوء.
كان الشيخ عبد العزيز جاويش كما ذكرنا لتونا أول مَنْ ألف في فلسفة التربية ، وكان كتابه غنية المؤدبين أول كتاب مصري فرق بين معني التربية ومعني التعليم، و دعا إلي الاستنباط والتعليل والحوار في الدرس، وهاجم الإلقاء الخطابي، والاستظهار اللفظي، كما دعا إلي القدوة الصالحة حين يريد من المدرس أن يكون مثالا حيا بشخصيته، لا كتابا جامدا بمعلوماته، وهو على سبيل المثال يقول :
” ويهمنا أن يكون المعلمون في سيرهم وأخلاقهم مثالا حسنا من جميع الوجوه لتلاميذهم، ولمن جاورهم من الناس، وعليهم ألا يقتصروا على تعليم تلاميذهم المواد المقررة في فهرس مواد التعليم، بل [أن] يجتهدوا في تعويدهم المحافظة على الأوقات، وعلى الجد والطاعة، والتأمل في الأمور، والذوق في المعاملة، والشفقة بالناس” .


دعوته المبكرة للتعليم المتخصص

 
و يتصل بهذا على مستوي الفكر التربوي أيضا أن عبد العزيز جاويش كان أول مَنْ دعا إلي إنشاء مدارس رياض الأطفال، ووضع مناهج تربوية لها، وكان أول مَنْ دعا إلي إنشاء معاهد تعليمية خاصة للتجارة، والصناعة، والزراعة، وهو ما أخذ به أحمد حشمت باشا عند توليه وزارة المعارف، ثم إنه كان أيضا أول مَنْ دعا إلي وضع برامج التربية النسوية.


فكرة التعليم الوطني الموازي 


وكان عبد العزيز جاويش من الذكاء التنموي و السياسي بحيث قاد مبكرا الدعوة إلي تبني فكرة التوجه لإنشاء تعليم وطني مواز لا يخضع لسلطة الاحتلال الإنجليزي (والمستشار الإنجليزي على وجه التحديد)، وخطا خطوات جبارة في هذا المجال بإنشاء مدرسة نموذجية هي تلك التي سماها المدرسة الإعدادية، كما خطا خطوات أخري بتنظيم بعثات تعليمية أهلية إلي باريس من بين طلاب المدرسة الإعدادية هذه، وبهذا أثبت جاويش مبكرا أن في وسع الجهود الوطنية (والحكومية) أن تؤسس لتعليم وطني حقيقي ومتكامل بعيدا عن الاعذار التقليدية المتمثلة في  نقص التمويل، وقواعد توزيع الموازنات الحكومية.
إنشاؤه أول المعاهد الحرة لتعليم اللغات 
أسس الشيخ عبد العزيز جاويش في ١٩١٩ مدرسة ليلية أسماها “الإعدادية الليلية” ليتعلم فيها الأزهريون اللغة الفرنسية .


سعيه لإنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة


كان لعبد العزيز جاويش كذلك نشاط تربوي مبكر ومتعدد في محيط الدول الإسلامية، ومما يذكر له في هذا الشأن بالخير أنه سعى لإنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ووضع أساسها عام 1914 ، ومن محاسن المصادفات أن المملكة السعودية احتفظت بهذا الاسم الجميل للجامعة العظيمة التي أسستها في المدينة المنورة .
الشيخ عبد القادر المغربي يروي دور جاويش  في إعادة افتتاح المدرسة الصلاحية بالقدس 
كان الشيخ عبد العزيز جاويش هو تولي من إعادة هيكلة وإصلاح كلية صلاح الدين بالقدس الشريف، حين عهد إليه بإدارتها. وقد كان الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع اللغوي في مصر من الذكاء بحيث حفظ قصة هذا الانجاز للتاريخ حين روى عنها ذكرياته في في كلمته الافتتاحية في مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة  ونشرت مجلة الرسالة  هذه الكلمة كاملة في ٢٥ ديسمبر ١٩٥٠ وكان الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع قد دعي للحديث عن موضوع تنازع اللغات في طائفة من الكلمات فأدار الحوار حول هذا الموضوع من خلال روايته [في الوقت ذاته و بطريقة سينمائية موازية ]  للإنجاز الذي تحقق على يد الشيخ جاويش بافتتاح تلك المدرسة بعد الحرب العالمية الأولى قبل أن يعيد الفرنسيون الاستيلاء عليها : 
” ألا تحبون أن تسمعوا أن الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله نجح في إقناع (جمال باشا) قائد الجيش الرابع في الحرب العالمية الأولى (حرب سنة 1914) – إقناعه باسترداد المدرسة الصلاحية في القدس من أيدي الرهبنة الفرنسية المسماة بالآباء البيض وإرجاع تلك المدرسة سيرتها الأولى: مدرسة دينية أزهرية عمائمية لكنها عصرية باسم (الكلية الصلاحية) نسبة إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان بنى تلك المدرسة على ظهر مغارة كانت تأوي إليها السيدة حنة وطفلتها السيدة مريم. وكان هذا من صلاح الدين بعد أن أنقذ بيت المقدس من براثن الصليبيين، وجعل المدرسة داراً للحديث باسم السادة الشافعية.
“نجح الشيخ جاويش في هذا وفاز بأمنيته، وباشر تأسيس الكلية وترتيب فصولها وتنظيم برامجها. ودعيت من (طرابلس الشام) إلى معاونته في عمله، فلبيت الطلب، وأسرعت إلى القدس ….. وأعلن خبر افتتاح الكلية الصلاحية في طول البلاد وعرضها، واجتلبت الأساتذة إليها، واقبل الطلاب من كل حدب عليها. وكانوا يؤمونها لا لطلب العلم وحده، بل للتخلص من أهوال حرب كانوا يعتقدون أنها شر وبلاء عليهم وعلى دولتهم. وكان الخلاف بين الترك والعرب لحين نشوب تلك الحرب في منتهى شدته، وعلى أحر جمرته.”
“وكان من أساتذة الكلية المرحوم محمد رستم حيدر الوزير العراقي، والمرحوم إسعاف النشاشيبي الأديب الفلسطيني؛ ومن طلابها المرحوم محمد الأنسي البيروتي رئيس وزراء شرق الأردن. وعباس باشا ميرزا الشركسي وزير داخليتها اليوم، والشيخ يوسف ياسين الوزير السعودي، وصبحي بك الخضرا السياسي الفلسطيني. وليس الشأن أيها السادة في هؤلاء وأولئك، وإنما الشأن في رهط من أبناء مصر الأحرار أووا إلى الكلية في ذلك الحين العصيب كما أوى فتية أهل الكهف إلى كهفهم. فخصص لهم نقيبهم الشيخ جاويش جناحاً من بناء الكلية؛ فكانوا يقيمون فيه ولا يبرحونه إلا ريثما يتناولون قوتهم في مطاعم المدينة. ثم يأوون إلى كهفهم دون أن يشعر بهم أحد.”
“ولا غرو أن يكون مدار حديث هؤلاء الفتية في خلوتهم على الحرب ونتائجها، والحملة التركية ومناهجها، وكنت أنا وصديقي الشيخ جاويش ننظر في أمور الكلية وقبول الطلاب الحائزين للشروط، ونريح أنفسنا أحياناً بزيارة الفتية في كهفهم، بل الأشبال في عرينهم”.
“وما كان أشد اغتباطي حين أخذني الشيخ جاويش من يدي لأول وصولي إلى الكلية، وجاء بي إلى أولئك الأشبال في منامتهم. هذا مستلق على سريره وبيده كتاب، وآخر منتبذ ناحية يقرأ جريدة، وذاك ينفض الغبار عن معطفه، وهنالك من يأمر الفراش ببعض حاجته”. وقدمني إليهم صديقي الشيخ جاويش باسم (المغربي) المحرر في جريدة المؤيد منذ خمس سنين. فهشوا إلى لقياي، وأخذت أعانق من أعرف، وأصافح من لم أكن اعرف؛ ثم قال لي الشيخ جاويش: هذا فؤاد بك سليم، وهذا الدكتور أحمد فؤاد المصري نزيل الآستانة، وهذا عبد الملك حمزة بك، وهذا عوض بحراوي بك، وهذا فلان: وأشار إلى واحد منهم سماه باسم إسماعيل بك، بل قد نسيت إن كان (إسماعيل) اسماً له أو اسماً لأبيه. وكان هذا الفتى النجيب مربوع القامة أبيض اللون بديناً. وكان أكثرهم مرحاً وتفاؤلاً وأقلهم مبالاة بما تأتي به الأقدار” .
“وقضينا أيها السادة مع هؤلاء الفتية المؤمنين بربهم وبوطنهم ساعة من الزمن في مطايبة ومفاكهة وأحاديث مختلفة ثم كنت أزورهم من وقت إلى آخر. وكان الشيخ جاويش يغيب عن الكلية لمراجعة مقر القيادة التركية في بعض المهام ويترك الأشبال في عرينهم ينتظرون إيابه بلهفة وفرط استشراف. وكانوا في غيبته أحياناً يفكرون ويقدرون، وطوراً يزأرون من الغيظ ويزمجرون. ثم يعود الشيخ إليهم بما يسرهم تارة، ويؤلمهم تارة أخرى.
كلما ذاق كأس بأس مرير … جاء كأس من الرجاء معسول
” واتفق ذات ليلة أيها السادة أن تركت غرفتي وتخطيت الرواق المؤدي إلى عرين الأشبال أزورهم. وكان يتدلى من سقف الرواق قنديل قديم من قناديل الأديرة يتنفس عن أشعة ضئيلة لا تتبين معها الأشباح إلا بصعوبة؛ وإذا بشبح كالعملاق يعترضني ويلقي بتجليده عليَّ قيل أن يتوسمني أو يتبين من أنا، فسألته قائلاً:
– من يكون حضرة الأخ؟
– عبد الحميد سعيد (قالها بلهجة المشتاق المتحبب وعجب من سؤالي مع أن طوله وعرضه رحمه الله ينبئان عن شخصه ثم قال)
– ألست الشيخ عبد العزيز جاويش؟
– لا: بل أنا عبد القادر صديق الشيخ جاويش ومغربي مثله.
” فتبسم ضاحكاً من قولي وعجب من هذا الشبه بيني وبين صديقه. وانقلبنا إلى مأوى الأشبال متشابكي الذراعين نحدثهم بما وقع. فقامت فيهم ضجة صاخبة مرحة قللت من العبوس، ورفهت بعض الشيء عن مخاوف النفوس، وكان (عبد الحميد بك سعيد) حين جئت الكلية من طرابلس غائباً في قضاء مهمة وراء منطقة القدس. فلما رجع ودخل على إخوانه هللوا لمقدمه؛ وكان أول ما سألهم عن صديقه الشيخ جاويش فقالوا: هو في المنامة الكبرى يتفقد الطلاب قبل نومهم، فلم يطق صبراً وخف إليه مسلماً عليه. فصادفني في الرواق وكان من أمرنا ما كان”.
” والأشبال في أحاديثهم أيها السادة قلما كانوا يتخطون المشاكل الدولية عامة، والمسألة المصرية خاصة. وكانوا يتنسمون أخبار الغزاة، ويستطلعون طلع الحركات والمقارنة بين الاستعدادات. وكثيراً ما كانت تقع بينهم مناظرات في أي الأعمال والمساعي أنجح؟ فترتفع أصواتهم، وتحتدم نار الجدل بينهم. وكان أقواهم حجة وأعنفهم لهجة، ذلك البطل المصري، يافعة السياسة (الدكتور أحمد فؤاد): فإن إقامته في الآستانة أكسبته مزايا في الجدل وسعة اطلاع على المناورات الدولية وتفقهاً في أسرار القضية المصرية” .


حفظ التاريخ للشيخ جاويش صورته في تلميذه الدكتور طه حسين 


كان الشيخ عبد العزيز جاويش محظوظا إلى أبعد حد في حياته الفكرية في الحياة و بعد الممات على حد سواء ، فلم يكن من الزعماء الوطنيين من رزق الخلود في صورة تلميذه الأديب على نحو ما رزقه الشيخ جاويش في الدكتور طه حسين ، حتى إنك إذا أردت أن تبدأ تعريفا وافيا شافيا يعرّف القراء بالشيخ عبد العزيز جاويش فإن بوسعك أن تقول إنه الأستاذ الذي أخذ منه الدكتور طه حسين 95% على الأقل من شخصية طه حسين، صحيح أن الأستاذ المرصفي هو أستاذ طه حسين الأول سبقاً وأن الأستاذ أحمد لطفي السيد هو أستاذ طه حسين الأشهر معرفة ولكن الشيخ عبد العزيز جاويش هو أستاذه الأكثر أثراً فيه، وفي جملة واحدة فإنه هو الذي علم طه حسين فن الاشتباك مع كل شيء وهو الذي علمه قواعد الاشتباك في كل شيء ، وهو بلا شك الذي علمه السياسة وكيف يتناولها، وكيف ينحاز إلى مثل عليا يختارها أو يفضلها،  وكيف يفرض رأيه وكيف يدافع عنه، وكيف يُهاجم خصومه وكيف يشتط في هذا الهجوم ، وكيف يوظف الأدب للسياسة، ويطعم السياسة بالأدب تطعيما لا يُبقي فيه للسياسة إلا القدر المستتر خلف صياغات الأدب الظاهر والمستشري في كيانها الذي يقدمه الكاتب للقراء.
الشيخ عبد العزيزجاويش أيضا هو صاحب القرار الأهم في حياة الدكتور طه حسين وهو قرار التأهل بالدراسة في الخارج، وهو الذي اختار له هذا المستقبل، وهو الذي أقنعه به وهو الذي ساعده عليه.
الشيخ عبد العزيزجاويش أيضا هو الذي كوّن الملامح البارزة في أسلوب طه حسين الأدبي ، وفي منهجه في التناول والمقاربة، وفي طريقته في النقد والمعالجة، وفي صياغة ردود الأفعال وصياغة مداخل الفعل من قبل ردود الأفعال.
يعرف القارئ أننا في دراسة الشخصيات (كما في دراسة التاريخ الطبيعي للحياة الإنسانية والعقلية) نستطيع بفضل الخبرة والتمرس أن نكتشف المزيج والأسلوب من دون أن نتأثر بالتوجهات السياسية أو التحزبات المعرفية ، فالتوجهات والتحزبات تخضع لعوامل الزمن، وتتغير طبقا لموقف الإنسان والوطن والمجتمع منها لكن جوهر الأسلوب يبقى حتى بعد أن يتطور وحتى إن كان تطوره إلى النقيض من بداياته في الظاهر ، كما أن المنهج نفسه يبقى على ما بني عليه حتى مع الخبرة والتجربة، هذان أمران صحيحان فيما اتفقت عليه ذائقة النقد ، وصحيح ثالثا أن الحياة تعلمنا ما تسميه العامة باللمسة الديبلوماسية التي تجعلنا نغلف آراءنا المعترضة أو الناقدة بكل ما يُمكن من التدليل على احترامنا الآخر وتقديرنا لآرائه لكن هذه الأغلفة الديبلوماسية مهما بلغت كثافتها لا تستطيع أن تحجب اعتراضنا على فكرة ما ، ولا تستطيع أن تغير من اقناع المتلقي بأننا نرى الأمر حلالاً او حراماً ، أو مفيداً أو ضاراً، أو صوابا أو خطاً.
ونعرف أيضا أن المظاهر الظاهرة من الحياة الحية و الخبرة بها تستطيع أن تجعلنا نقول بخطورة المرض بعد أن نثني على حالات الصفاء التي تصحبه، أو الهدوء الإجباري الذي يتيحه، أو العبرة التي ترتبط به، ومع هذا فإن المرض وما يقتضيه من العلاج يظل مرضاً ، وهكذا كانت آراء الشيخ عبد العزيز جاويش حين صاغها الدكتور طه حسين بعد عقود من الزمان، فلم يتنكر للأصالة على نحو ما صوره بعض من لا يستطيعون الوصول إلى اللب لأنهم ينشغلون بدراسة النص الظاهر الصريح على نحو ما يتصورونه  صريحا صحيحاً، على حين أن طه حسين نفسه فلم يختلف فيما رآه وارتآه عن الشيخ عبد العزيز جاويش إلا في التغليف وما يرتبط به من كل ما نسميه بالتفعيلات المتاحة في النص من تنصيص وتشبيه وتمثيل وتجنيس  وتلبيس وتعمية وتورية وتطبيق.
كان الشيخ عبد العزيز جاويش نفسه فقد أضاف إلى ما تعلمه في الأزهر ما كانت تضيفه دار العلوم من معارف تختلط فيها العصرنة بالعنصرية، وكذا فعل طه حسين حين أضاف إلى ما تعلمه في الأزهر ما كانت تضيفه الجامعة المصرية (الأهلية) من معارف تختلط فيها العصرنة بالعنصرية، ثم أبحر الشيخ عبد العزيز جاويش إلى بريطانيا وعاد وأبحر طه حسين إلى فرنسا وعاد، وعلى حين وجد الشيخ عبد العزيز جاويش فرصة للأستاذية في بلاد الإنجليز ثم في مصر و استانبول والقدس ومع الانجليز و العثمانيين و الالمان فإن طه حسين وجد هذه الفرصة في مصر فعضّ عليها بالنواجد، وأتاح له الزمن ألا ينشغل كثيراً بالمناصب البعيدة عن وظيفة التعليم والكتابة .
طه حسين يتحدث بامتنان عن فضل الشيخ جاويش في كتابه الأيام
لم يكن الدكتور طه حسين  ينكر فضل  الشيخ عبد العزيز جاويش عليه ، وإنما كان يذكره بوضوح شديد ، وهو على سبيل المثال يقول في كتابه الأيام : 
” واتصل الفتى طه حسين كذلك بالشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله، فاكثر الاختلاف إليه والاستماع له، وما هي إلا أن أخذ يجرب نفسه في الكتابة كما جرب نفسه في الشعر، على يد استاذه المرصفي، ولم يكد الفتي يأخذ في الكتابة حتى عرف بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد، قلما كان الشباب يقدمون عليه في تلك الأيام، ولكنه كان نقدا محافظا، مغاليا في المحافظة، إلا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى طور الاعتدال ويغلو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع كل التشجيع على ذلك من عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه اغراء بذلك وحثا عليه”
وهو يقول أيضا :
 “………… ولكن للشيخ عبد العزيز جاويش فضلا على الفتى أي فضل، فهو الذي ألقى في روع الفتي فكرة السفر إلى أوربا حين قال له ذات يوم لا بد من ارسالك إلى فرنسا عامين أو ثلاثة أعوام ……..”
ريادة الشيخ جاويش  المبكرة لتقنيات فن الترجمة 
يعد كتاب”مرشد المترجم” الذي نشره الشيخ عبد العزيز جاويش في أول القرن العشرين بمثابة الكتاب الأول في وضع قواعد الترجمة إلى العربية على نحو منهجي وصريح وقد ألفه الشيخ عبد العزيز جاويش لخريجي مدرستي المعلمين العليا والوسطى، وكانوا بحكم القانون من يقصر عليهم تعليم الترجمة، وليس من المبالغة أن نقول إن  الشيخ عبد العزيز جاويش أسس بهذا الكتاب للمنهج العلمي في  تدريس الترجمة وفن ممارستها .


إبعاده إلى تركيا و نشاطه فيها وفي أوربا 


في ١٩١٢ تقرر أن يبعد الشيخ عبد العزيز جاويش إلى تركيا فسافر اليها وهناك أصدر عدة مجلات، كما تزعم حملة تبرعات لتهريب السلاح والقادة الأتراك إلى ليبيا لمقاومة الغزو الإيطالي. وسافر إلي إنجلترا لإنشاء أسطول إسلامي بوساطة بعض الأغنياء من مسلمي الهنود، وفي تركيا تزعم حملة تبرعات مع أنصار الحزب الوطني الذين غادروا مصر إلى تركيا.  وتولى وإرسال المؤن والذخائر إلى المجاهدين في ليبيا كما ساعد في تهريب عدد من القادة الأتراك لمحاربة الاحتلال الإيطالي في طرابلس.
وعقب إعلان قيام الحرب العالمية الأولي 1914 تنقل الشيخ عبد العزيز جاويش ما بين ألمانيا وتركيا والشام عاملا في إطار ما كان يحلم به  من إنقاذ الممالك الإسلامية من الاستعمار. 
وفيما بين عام1915 و 1918 أصدر الشيخ عبد العزيز جاويش جريدة الهلال أو “الهلال العثماني و”الحق يعلو”، كما أعاد إصدار مجلة الهداية التي كانت توقفت في مصر،  و أولت  مجلة الهداية اهتماما كبيرا بأحوال المسلمين فتحدثت عن مسلمي بلغاريا وروسيا والبوسنة والهرسك وغيرها من بلاد العالم، واهتمت بإحياء التراث الإسلامي. لكنها توقفت نهائيا ١٩١٤. كما ساهم في إصدار مجلة “العالم الإسلامي” في إستانبول، بالعربية و الألمانية.  كما اشترك مع بعض رجال الحزب الوطني في إصدار مجلة Egypt بسويسرا، وتولى الشيخ إنشاء نادي دار العلوم للغة العربية .
ولما كان جاويش خطيبا ومحدثا مفوها لبقا فقد رأت حكومة الآستانة الإفادة من مواهبه فابتعثته إلي برلين وشارك في مؤتمر الدفاع عن الأمم المهضومة الحقوق في استكهولم.  
وفي هذه الفترة شارك عبد العزيز جاويش في مؤتمر المستشرقين في الجزائر (1915).
وطلبت الحكومة المصرية تسليمه لما شاع عنه من نشاط في مجال المنشورات. 
وفي عام 1917 أعيد عبد العزيز جاويش إلي مصر مقبوضا عليه من العسكر الاتراك الانقلابيين الذين كانوا لا يجيدون فهم السياسة ولا الوطنية و يتقبلون أي مساومة على حساب مبادئ الدولة و سلامة خطها السياسي ، ومن العجيب أنهم سلموا الشيخ تحت مظلة أنه  متهم بالدعوة للثورة في مصر. من العجيب أن  الشيخ عبد العزيز جاويش قد عاد إلي تركيا في العام نفسه. 
 ثم هاجر الشيخ عبد العزيز جاويش إلي ألمانيا (1918)،مضطرا ،  ويروي أن جهاده الوطني اضطره إلي العمل في الاحتطاب ببرلين في بعض سني الحرب، ليجد ما يمسك الرمق من الطعام!! 


اختيار أتاتورك له ليراس نشاط النشر  في تركيا 


عاد الشيخ عبد العزيز جاويش لتركيا مرة أخرى عام 1922 باستدعاء من مصطفى كمال أتاتورك ليتولى منصبا ثقافيا كبيرا حيث عينه رئيسا للجنة الشئون التأليفية الإسلامية بأنقرة،  وفي تلك الفترة حرر مجلة المراسلات المصرية المنشورة عام 1922 فقد حررها الشيخ عبد العزيز جاويش 
لكنه سرعان ما اختلف معه بسبب إجراءات إلغاء الخلافة فعاد لمصر نوفمبر 1923، ثم عاد إلي مصر (1923) متخفيا، فاتجه إلي مجال التربية والإصلاح الاجتماعي، وعين مراقبا  للتعليم الأولي وكتب مقالا بعنوان “تجديد العهد” فسمحت له الحكومة المصرية بالإقامة في مصر.

 
الخطاب السياسي الذي أبدعه الشيخ جاويش 


نعلم أن الشيخ عبد العزيز جاويش قد توفي مبكراً، وقد تعود المؤرخون في مثل هذه الحالة أن يقولوا إنه لو قُدر لحياة مثل هذا الرجل أن تمتد لكان قادراً على أن يُعمّق ما أنجز، وأن يخلّد ما كتب ، وأن يضيف إلى ما شرع فيه من علم وسياسة أكثر، لكني لا أظنه كان قادراً على أن يتحول عن مبادئه الجميلة التي عمل لها وتفانى من أجلها. وقد قلنا إن الشيخ عبد العزيز جاويش وصل إلى الصف الأول في زعامة الحزب الوطني القديم حتى كان بمثابة ثالث زعمائه بعد مصطفى كامل ومحمد فريد، وبهذه الصفة نقلت ثورة 1952 جثمانه إلى جوار جثماني الزعيمين الكبيرين في المقبرة التي بنتها في ميدان القلعة، وبقي جثمانه هناك إلى أن قبل النظام الناصري المساومة بنقل هذا الجثمان من جوار الزعيمين الكبيرين في مقابل مكسب ضئيل.


مكانته في تاريخ الفكر السياسي المصرى 


ونأتي  إذاً إلى قيمة الشيخ عبد العزيز جاويش في تاريخ مصر،  ونحن نجد أنفسنا أمام سياسي مؤثر استطاع في لحظة مناسبة أن يبدع خطابا سياسيا عبقريا استبقي فيه لوطنه هويته بعيداً عن قصر النظر الذي يميزالرؤى البراجماتية، وعلى حين كانت هناك نزاعات إقليمية تحد من مستقبل مصر وحاضرها فقد كان الشيخ عبد العزيز جاويش قادراً على أن يستشرف المستقبل الذي تتمناه كل دولة لمستقبلها حين تقود محيطها الذي هي فيه. كان عبد العزيز جاويش يعرف ما نعرفه الآن بدقة عن الفرق بين إنجلترا ككيان وبريطانيا ككيان أكبر من إنجلترا ، كما كان يعرف الفرق بين بريطانيا ككيان والمملكة المتحدة ككيان أكبر من بريطانيا ، ولم يكن يقبل على نفسه ولا على فكره السياسي و الوطني  أن يتقبل الترويج لأية فكرة انعزالية تحت مسمى الاستقلال ، و ذلك من قبيل الفكرة التي قبلها العسكريون فجعلت مصر مقيدة بحدود كالتي صارت إليها في 1956.
كان الشيخ عبد العزيز جاويش يعرف أن متطلبات حلمه الكبير تتجاوز الخطاب السياسي للزعامات القاهرية المتاحة في ذلك الوقت، والتي لا يراوح تأثيرها منطقة وسط القاهرة، وهكذا فإنه من بين كل الزعامات المتاحة كان هو الرجل الذي استحضر الجدور لا من الماضي ولكن من الحاضر الذي لا يعرفه أهل الحاضر، ونادى عبد العزيز جاويش بالوجه الإسلامي و الإفريقي لمصر الإسلامية و الإفريقية على نحو عصري لم يسبقه إليه أحد ، وإن لحنه كثيرون / بل وإن لحق به الجميع بمن في ذلك سعد زغلول نفسه الذي كان يبني زعامته بالاستيلاء التدريجي (والمستحق أيضا ) على الأرض المحروثة المجهزة التي كسبها عبد العزيز جاويش من قبله.


المقارنة بين زعامة سعد زغلول وزعامة عبد العزيز جاويش


إذا أردنا أن نقارن بين زعامة سعد زغلول وزعامة الشيخ عبد العزيز جاويش فإننا نستطيع أن ندرك أن زعامة سعد زغلول أوسع مظلة من زعامة الشيخ جاويش لكن هذه المظلة الواسعة تستند أساسا إلى العمود الذي أسّسه وأقامه وقوّاه مصطفى كامل و معه الشيخ عبد العزيز جاويش من قبل أن يمد سعد زغلول قماش خيمته او نسيج خيمته فوقه. 
كان مصطفى كامل باشا صوتا سماوي النزعة و الطابع ، وكان الشيخ عبد العزيز جاويش قلب هذا الصوت،  وبتحديد أكثر فإنه كان القلب الخافق والمخفق و النابض و المنبض ، فلما جاءت زعامة سعد زغلول منذ نهاية ١٩١٨ وبوضوح أشد في ١٩١٩ وما بعدها لتحل محل زعامة مصطفى كامل ولتحقق ما لم يحققه ذلك الزعيم الذي كانت الأمة قد شيعته في ١٩٠٨ وعرفت في تشييعه يوم جنازته المشهودة  قوة البلّورة الظاهرة للعيان لمعنى قوة الكفاح الوطني ، كان الشيخ عبد العزيز جاويش لا يزال يمثل قلب الزعامة الذي انتقل من جسد إلى جسد أخر من قبل ان يعرف العالم تقنية نقل الأعضاء ،  وهكذا انتقل قلب الوطنية من جسد إلى جسد آخر حتى مع تجدد الدم الذي كانت الزعامة تتطلبه أو تعتمد عليه في حياتها.
وبالطبع فإن الفارق بين سعد زغلول باشا و الشيخ عبد العزيز جاويش كان يتمثل ضمن ما يتمثل في الخطاب السياسي و يظهر ضمن ما يظهر في الخطاب السياسي ، فقد كان خطاب سعد زغلول أكثر استيعابا من خطاب الشيخ عبد العزيز جاويش، وكان هذا هو العنصر الحاسم و الأهم و الأكثر تحققا  وتوافقا مع الظروف الجديدة إذا ما قورن بالخطاب السياسي الذي يمثله ميراث الحزب الوطني الذي كان في توجهه يستند للارتباط بدولة الخلافة العثمانية في استانبول بينما كان الخطاب الذي يقدمه سعد زغلول مستنداً إلى الواقع الجديد بعد أن تعرضت الدولة العثمانية نفسها للهزيمة في الحرب العالمية الأولى ، وبدأت تتوافق مضطرة مع شروط الإذعان التي تكالب المنتصرون على فرضها عليها في مرحلة الاحتضار تمهيداً للاختفاء، وهكذا كان خطاب حزب مصطفى كامل قد أصبح (دون قصد منه ودون تغير أو تحول في أيديولوجيته) مختلفا تماما مع واقع جديد فرضته نتائج الحرب العالمية الأولى ، ولم تكن هذه النتائج قد أتمت بلورة نفسها مباشرة ، و إنما كانت آخذة في النضج و التحدد والتشكل على نحو ما عرفناها من التاريخ .
أجاد سعد زغلول باشا و من كانوا معه في الوفد المصري تقديم أنفسهم للتعامل مع هذا الواقع بدءا من ذهابهم في 13 نوفمبر 1918 لمركز القوة الجديد في دار المعتمد البريطاني يطلبون فيه أن تنال مصر حقها في استقلالها جزاءً لتعاونها مع البريطانيين  في الحرب الكبرى كما كانت تسمى (أو على الأقل لعدم وقوفها ضدهم)، وصحيح أن موقف مصر كان خضوعا لقوة السلاح لكن الوفد اجتهد في أن يصوره في صورة مختلفة بعض الشيء عن هذا الانهزام ، ومن ثم فقد وسعت مظلة الوفد طوائف لم يكن الحزب الوطني قادراً على إظلالها بمظلته مهما كانت بلاغة الشيخ عبد العزيز جاويش وقدراته البيانية، فقد تحول الأمر من بيان ذكي للآمال المشروعة إلى بناء عملي على أمر واقع لم يكن (للأسف الشديد) منحازا إلى مصر ولا قابلاً للانحياز إليها إلا بطريقة يبتدعها قانونيون وطنيون أذكياء ( يمثل سعد باشا قمتهم )يلبسون الحق والواقع بالآمال والماضي .
كان هذا التحول والتشكيل هو جوهر نجاح  سعد زغلول باشا الذي تحقق في مزيج نادر من الحكمة والحيلة مستعينا في الوقت ذاته بقدرات اتصالية فائقة عند من تصدوا للتعامل (ولا نقول التعاون) مع البريطانيين من قبيل عبد الخالق ثروت وعدلي يكن وحسين رشدي ومتجنبا بأقصى ما هو ممكن الصراع مع أسرة محمد علي سواء تمثلت في السلطان أحمد فؤاد (الذي أصبح الملك أحمد فؤاد بفضل ثورة ١٩١٩) أو في أمراء طموحين مستحقين للملك والمجد من قبيل عمر طوسون وعزيز حسن وكمال الدين حسين ومحمد عبد المنعم وعباس حليم) ومتجنباً أيضا طائفة ثالثة ممن أصبحنا نسميهم الآن التكنوقراطيين التقليديين الكبار ، من قبيل محمد سعيد باشا وإسماعيل سري و محمد توفيق نسيم و يوسف وهبة.. الخ، ومستوعبا توجهات وطنية متعددة يُمثلها حمد الباسل (بالعرب والبدو) ومحمد محمود (بالصعيد) وأحمد لطفي السيد (بالنخبة الصحفية والفكرية) والمكباتي والصوفاني (بالزعامة السكندرية والأقلية) .
ورغم هذا كله وبفضل إخلاص وبلاغة وفكر الشيخ عبد العزيز جاويش بقي الحزب الوطني،إلى اليمين من الوفد ، وبقي قادراً على أن يستوعب عقليات وقامات وطنية سامقة أتاح لها العمر أن ظلت تؤدي دورها حتى 1952 من طراز حافظ رمضان باشا وفكري باشا وأباظة وعبد الرحمن الرافعي ومصطفى مرعي. أو انتهى بهم العمر قبل ذلك من قبيل عبد الحميد سعيد الذي توفي في 1941.


صراع سعد  زغلول و عبد العزيز جاويش 


يحفل تراث الشيخ عبد العزيز جاويش بكثير من الصور الجميلة الرائعة المعبرة عن الحكمة التي يجب أن تعالج بها أمور السياسة، ومع أن هذا التراث تعرض للتحريف في كثير من القضايا وفي كثير من الأوقات الأوقات فإن نسيجه الأصلي لا يزال ناطقا بكل القيم العليا والمبادئ السامية والفهم العميق والأفق الواسع، والأمل العريض، والانتماء المخلص.. 
ولم يكن حظ الشيخ عبد العزيز جاويش في أي من هذه المزايا بأقل من حظ سعد زغلول نفسه، حتى وإن كانت الجماهير قد تركت الحزب الوطني لتكون في صفوف الوفد الذي كان بلا شك  وكما فصلنا القول أكثر قدرة على احتواء القوى الاجتماعية وحشدها بل حشرها لثورة وطنية تشترك فيها طوائف تمثل أكثر من تسعين في المائة من الشعب المصري لا يتأخر عنهم إلا طائفة صغيرة جدا كطائفة الأرمن حين كانت تحت قيادة متعصبة وقصيرة النظر.
لم يكن سعد زغلول باشا في أوج زعامته يحسب حساباً لأي صوت غير صوته إلا صوت الشيخ عبد العزيز جاويش (أو كما كان يسميه أو يكتبه في مذكراته شاويش (بشينين وليس بجيم وشين) ، ذلك أنه كان يدرك تمام الإدراك أن الشيخ جاويش هو القادر على أن يقود خطوات الجماهير إلى تكتيك يختلف عما مضى هو فيه، ومن ثم فقد تضطرب الخيوط في يديه أما الباقون بمن فيهم عدلي وثروت وصدقي وعبد العزيز فهمي فقد كان سعد زغلول قادراً على الانتصار عليهم من أول وهلة بما يمثله النجاح المعتمد على صراعات الورقة الاستراتيجية ، و ذلك من قبيل قوله جورج الخامس يفاوض جورج الخامس ، أما تنافسه مع الشيخ عبد العزيز جاويش فكان إذا دخل هذا الطريق كفيلا بأن يجعل سعد زغلول يخسر كثيراً من أرضيته التي يظللها بمظلته الواسعة، وهكذا كان من الضروري لسعد باشا أن يحد من وجود الشيخ عبد العزيز جاويش  ، ومن صوت الشيخ عبد العزيز جاويش ، ومن تأثير الشيخ عبد العزيز جاويش إلى أكبر قدر ممكن (بل وغير ممكن) .
ولهذا فإننا الآن لا نعجب حين نرى أن المراسلات السرية بين سعد زغلول باشا وعبد الرحمن بك فهمي رئيس التنظيم السري للوفد ولجنته المركزية تكشف عن توجهات سعد الواضحة وغير الملتبسة التي يقول فيها لعبد الرحمن بك فهمي ما معناه: حسنا فعلت إذ حطمت السرداق الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش سيخطب فيه، وكان سعد باشا بأوتوقراطيته وديكتاتوريته يرى (ومعه الحق البراجماتي في ذلك) أن عبد العزيز جاويش وجماعته كانوا مؤثرين حين يشوشون عليه ويشوشرون عليه.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإننا هنا نجد الشجاعة الأدبية تلزمنا بأن نقول إن قرار سعد زغلول كان صائبا لأن البديل كان قاتلا، وإذا أردنا أن نتصور البديل فإنه يتمثل أمام أعيننا بكل وضوح صارخ في كل الخطوات المدمرة التي أحرزتها الثورات المضادة للربيع العربي متمثلة فيمن استقطبتهم السلطات العسكرية والأجنبية بالخداع أو الترهيب أو الإذلال ليتركوا اختيار الصندوق واختيار الشعب ويتحولوا بإرادة قاهرة لأنفسهم إلى عبيد للبيادة.
ومن حسن حظ تاريخنا أن قصة الشيخ عبد العزيز جاويش وسعد زغلول كانت متاحة أمام كل دارس مجتهد ، حتى وإن لم يتعظ بها تيار الثورة في عالمنا العربي بعد مائة عام من التاريخ.
 وعلى نحو ما أنصفنا سعد زغلول في ديكتاتوريته فإننا لا بد أن ننصف الشيخ عبد العزيز جاويش في روحه الرياضية ، وفي نزعته الوطنية المخلصة التي لم تدفعه لحظة واحدة إلى أن يكون في صفوف الثورة المضادة، حتى وإن بقيّ إلى اليمين من الوفد ومن سعد زغلول ، وهكذا يتضح لنا بُعد جديد من أبعاد العظمة والاصالة والإحسان في شخصية ذلك الرجل الوطني العظيم.
العقاد يتحدث عن الشيخ عبد العزيز جاويش باستعلاء وفدي مفهوم
في كتابه رجال عرفتهم تحدث الأستاذ العقاد عن بعض ذكرياته العابرة عن الشيخ عبد العزيز جاويش  وما اعتبره تقلباته من دون أن يعنى بالحيث عن فضله أو أمجاده ، والسبب معروف بالطبع وهو كما أشرنا الشعور الوفدي بالاستعلاء على الشيخ  وبأن الوفد قد تجاوزت أفكاره التي لم صالحة لذلك العهد الذي تولى الوفد فيه قيادة الحركة الوطنية :
” ………………ثم استقال الشيخ من وظيفته بوزارة المعارف، بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي وإسناد نظارتها إلى المربي الكبير عاطف بركات بك، وأخذ في حملته على وزارة المعارف على النحو الذي يذكره قراء اللواء في تلك الأيام. وحضرنا يومًا إلى مكتب الصحافة بوزارة الداخلية، فسألنا موظف فيه: هل صحيح أن الشيخ جاويش اعتزل عمله في تحرير اللواء؟ فقال زميل صحفي: إن صحيفة الوطن قد نشرت الخبر. وقال زميل آخر: إني أشك في صحة الخبر. وقلنا جميعًا: إن دار اللواء قريبة، والسؤال هناك أيسر من الشك بغير دليل. ودخلنا مكتب الشيخ فوجدناه فيه، وتبين من الكلمة الأولى أن الخبر غير صحيح، ثم مضى الشيخ في كلامه من التعليق على صحيفة الوطن إلى تعليق على الصحف عامة، وعلى السياسة والأحزاب، ثم إلى الكلام عن حرية الصحافة وحرية الزعماء السياسيين. وجلست أسمع وأنا أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، ثم ازداد عجبي حين قدم للمحاكمة، فكان دفاعه الأول أنه غير مصري؛ لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، وتونس خاضعة للحماية الفرنسية”.
” ثم ازداد العجب حين سافر إلى الآستانة وأنشأ فيها صحيفة الهلال العثماني؛ لينشر بها دعوته السياسية على الوجه الذي كان يفهمه ولم يعدل عنه بقية حياته، وبلغ غايته حين علمنا أنه أنشأ في الآستانة حزب الوطن العثماني؛ ليعارض به حزب محمد فريد، الذي جعل شعاره مصر للمصريين. 
“وكانت صحيفة الهلال العثماني تصل إلينا سرًّا في فترات متقطعة، فكنت أسأل نفسي: هل بلغ من يقين الشيخ بمذهبه في الوطنية أن يفترض قبوله على كل مصري يسمع باسمه من بعيد؟ “
” وعدنا إلى زي الشيخ حين سمعنا نبأ الحملة التركية على هذه البلاد، فقد قيل يومئذ إن كسوة المشيخة الإسلامية كانت في حقيبة الشيخ، وإنه قد حيل بينه وبين مصاحبته الحملة في اللحظة الأخيرة لامتعاض شيخ الإسلام هناك من حركاته حول مصر والحجاز”.
من كلمة الشيخ جاويش  أمام جثمان الزعيم محمد فريد  في ألمانيا 
” إذا كانت حياة الرجال أيها السادة خيرا للأمم التي يخدمونها فكم منهم من أفاد بمماته بمقدار ما أفاد بحياته، ليس فريد بتلك الجثة الهامدة والنسمة الجامدة، وإنما هو تلك النفس الأبية، والقدوة الصالحة، والذكرى الطيبة التي سيجددها بلى الأيام. ويوالي نشرها انطواء العصور والأجيال، فطوبى لمن سن سنة حسنة وطوبى ثم طوبى لمن اقتدى بالعاملين” .
” أمام جثة هامدة، وميت لا يعي نحن واقفون؟ كلا ثم كلا؟ 
” إنما نحن وقوف أمام صفحات من تاريخ الجهاد الأكبر في سبيل الحرية البشرية، في سبيل الذود عن الحقوق الطبيعية للشعوب الإنسانية في سبيل مصارعة الأمم القوية ذات المطاعم الأشعبية.
” نحن وقوف أمام هذا الرجل الكبير، الذي كانت حياته مثالا كاملا للمتشبثين، وقدوة صالحة للعاملين فها هي ذي تلك الصفحات الناصعة ترينا كيف جمع فقيدنا العزيز إلى جانب صلابة العزم جهادا لا يوهنه الملل ولا يوهيه الكلال، كما ضم إلى الصراحة البالغة في كتابته وكلامه إقداما يستهزئ بالغوائل ويسخر من كارثات النوازل”
”  لقد رأيناه يرحمه الله يوم ساقه الإنجليز إلى السجن بمصر فما كان حينذاك أقل ابتسامة منه يوم فارقه بعد ستة أشهر كاملة قضاها في غيابته وظلماته. وضيّق الإنجليز المذاهب على فقيدنا، وأخذوا الأبواب والمسالك على قلمه ولسانه، فلم ير بدّا من مفارقة وطنه وأولاده وعشيرته، إذ خرج يلتمس فضاء يسع صيحاته التي ضاق عنها فضاء بلده ووقرت دونها آذان أعدائه.
” جاهد رئيس الحزب الوطني في سبيل تحرير بلاده، وكان يرجو ألا تعاجله منيّته قبل أن يراها خالية من ظل الجبابرة المغتصبين، فكنا نخشى وقد سارعت إليه المنون أن يحزنه حرمانه من نيل أمنيته واكتحال عيونه بشمس الاستقلال والحرية، مشرقة على ربوع وطنه العزيز، ولكننا رأيناه ،رحمه الله،  قبيل وفاته قرير العين، مشروح الصدر إذ أبصر كيف تشيد أمته النجيبة على ما أقامه هو وسلفه الصالح مصطفى كامل باشا من الدعائم المتينة، وصرح الحرية والاستقلال، ذلك الصرح الذي سيعانق يوما ما الأهرام ويدوم ما تعاقب الجديدان (الليل والنهار) ” 
والآن نستودعك الله أيها الرئيس المحبوب، فنم مغمورا برحمة الله وإحسانه، مزودا من أمتك بالدعوات الصالحة والذكرى العاطرة والحب الدائم والسلام عليك ورحمة الله.


توجهاته في السياسة الخارجية ومقاله السنوي 


كان عبد العزيز جاويش واعيا لمكانة مصر في العالم الإسلامي، ولمكانة الإسلام في الصراعات الدولية، وكان قادرا على استشراف اتجاهات السياسة العالمية، وحقيقة الأطماع الاستعمارية.
ويروي الدكتور محمد رجب البيومي أنه كان من عادة الشيخ جاويش أن يكتب في مبتدأ كل عام هجري مقاله الرنان العالم الإسلامي في عام، فيتتبع أهم ما وقع في السنة المنصرمة من أحداث، ويذكر أسباب المحن المتوالية على الشرق المستضعف، ويحذر مما ينتظر أن تتمخض عنه الأيام من محن متشابهة تظهر مقدماتها الهائلة لتعلن قرب النتيجة الكريهة، ثم يسرد آراءه في مواجهة هذه الصعاب، وسنلخص عناصر إحدى مقالاته حتي يري القارئ كيف كان عبد العزيز جاويش ينظر من أفقه الواسع إلي تيار الأحداث.
كتب جاويش بالجزء الثاني عشر من مجلة الهداية في مطلع عام 1329هـ يتحدث عن السنة الماضية، فيستعرض هذه الوقائع التي نشير إلي عناصرها فقط تجنبا للإسهاب:
ـ عقد المحالفة البغيضة بين إسبانيا ومراكش بضغط إنجلترا لاحتلال الريف.
ـ فرنسا ترسل جيوشها إلي الدار البيضاء بدعوي تأييد السلام.
ـ معاهدة إنجلترا وفرنسا السرية لاقتسام الأسلاب.
ـ انقضاض إيطاليا الباغية على طرابلس الغرب واحتلال البلاد الليبية.
ـ مساعدة إنجلترا لكل دولة صليبية تحتل بعض ديار الإسلام.
ـ عقد معاهدة بين إنجلترا وروسيا لتقسيم البلاد الفارسية إلي مناطق خاضعة للنفوذ الغربي.
ـ واجب المسلمين في كل مكان نحو هذه النكبات.


اتهامه المفبرك بالتعصب 


نعرف أن البريطانيين كانوا يجيدون الإيقاع بين كل زعيم وطني ، و بين بعض الطوائف من شعبه ، و قد مارسوا هذه اللعبة الخطرة مع الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان اسمه وزيه وسمته يوحي بالتمسك بالهوية الإسلامية ، فروجوا كل ما هو ممكن وغير ممكن للإيقاع بينه وبين الأقباط ، ومما يؤسف له أن الوطنيين المختلفين مع الشيخ استثمروا هذه اللعبة البريطانية الكلاسيكية ، إلى أقصى حد لا يزال ينسب إلي عبد العزيز جاويش، زورا وبهتانا، أنه قاد تيار التعصب ضد الأقباط المصريين في الحزب الوطني. وحقيقة الأمر أنه كتب مقالاً حمل فيه على بريطانيا وقال إن البريطانيين لو حكموا مصر بدلاً من المسلمين لفعلوا في الأقباط كذا وكذا.. لكن خصومه وخصوم الحزب الوطني استغلوا هذا الخطاب، وتعمدوا نسبة هذا الذي وصفه جاويش من سلوك البريطانيين إليه هو لا إلي البريطانيين.. أما في واقع الأمر فقد تم احتواء الموقف بسرعة وحضر جاويش احتفالا في الكنيسة وألقي فيه ما عبر عن وجهة نظره كاملة وعن سعادته بالفرصة التي أتيحت له للتعبير عن حقيقة آرائه، وحضر هذا الاحتفال عدد كبير من رجال الدين المسيحي.
ومع هذا فلا يزال الاستسهال يغلب على الذين يريدون تصوير قدرتهم المصطنعة في الاطلاع الواسع على اختلافات واتجاهات سياسية مبكرة، وقد وصل الأمر في هذا إلي حد أن يقال إن عبد العزيز جاويش كان  يكرر عبارات قاسية في مخاطبة الأقباط ….. ومن جلودكم نعالا (وهو أمر مستبعد حتى في أدبيات وشكليات الحوار في ذلك الوقت).
رد الشيخ عبد العزيز جاويش على اتهام صحيفة الجازيت
وقد رد الشيخ عبد العزيز جاويش في حياته على اتهام صحيفة الجازيت له بالتعصب فقال:
“نصحني المستر دنلوب أيام سافرت إلي أكسفورد، أن أقتدي بما أراه من الأخلاق الفاضلة في هذه الأمة العظيمة فماذا جري؟. ذهبت إلي تلك الديار، فوجدت الناس متمسكين بدينهم، فزادني تمسكا بديني. رأيتهم شديدي الحرص على لغتهم، فزادني حرصا على لغتي. أبصرتهم يتفانون في الدفاع عن بلادهم، ويحرمون على الأجانب الاستيلاء على بعض شئونهم، أو التصرف في أموالهم ورقابهم، فأخذت أحاكيهم في هذه البلاد السيئة الحظ بالاحتلال وأشياعه، ورأيتهم يحبون الصراحة… ولا يتهيبون متعبة مادام الحق لهم، فأخذت أحاكيهم في تلك الفضائل التي نصح بها إلي عمادهم بنظارة المعارف العمومية (المستشار البريطاني لوزارة المعارف). أبصرتهم يحبون العمل، ويكرهون الكسل، ويحضون على الفضيلة، فعدت إلي بلادي، ثم صرت أشتغل بهمة لا تعرف الملل، ولا الانقطاع.”
رواية الشيخ محمد رشيد رضا عن تحرش القبط به 

كتب الشيخ محمد رشيد رضا مقالا طويلا في مجلة المنار

” لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط، ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط – حتى قام بعض الكتاب من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين المسلمين، وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم، فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم، فلم يقنعهم ذلك، بل تَمَادَوْا في الكتابة حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد، وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ، وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني، فكتب الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة اللواء قولا ثقيلا في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم، وهزئ بهم، وافتخر عليهم، فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة. 
” قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان الكثيرة في مقابلة صاعه، بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم: إن المسلمين يريدون بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر، وإنه يجب عليهم أن يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون المتعصبون، أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم، والهجرة إلى بلاد أخرى يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين، ثم هم يطلبون أيضا معاقبة الشيخ عبد العزيز جاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم، وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء المسلمين، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة، ويكتتبون بالأموال لها.
:::::::::::::
” لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد، وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه مسئولية إدارتها. ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني – فهذا ما رأوه من موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز جاويش – وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ – برهانًا على أن في مصر تعصبًا إسلاميًّا، لا يلبث أن ينفجر بركانُه، فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت مقذوفاته النارية.


 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com