الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / #عباس_حسن الأستاذ الذي جعل النحو قانونا كالمدني والمرافعات والجنائي

#عباس_حسن الأستاذ الذي جعل النحو قانونا كالمدني والمرافعات والجنائي



تتمثل المكانة العلمية للأستاذ عباس حسن (1900 – 1979) في تاريخ الدراسات النحوية في أنه استطاع أن يقدم مرجعًا كبيرًا وافيًا للنحو على الطريقة التي يُكتب بها القانون مادة بعد أخرى تاركا للهامش للشرح أو التعقيب،  وبهذه الطريقة فإنه استطاع أن يجنب المادة المكتوبة في تدفقها وانسيابيتها ما يمكن أن يغري المؤلف من حديث أو استطراد إلى فلسفة النحو أو فلسفة الحكم النحوي، أو فلسفة اللفظ والمصطلح النحوي، أي أنه بعبارة أخرى كتب النحو بطريقة تخلو من حماس النحاة من دون أن تتخلص من كل تفصيلاتهم وتفضيلاتهم، ولعل جهده في هذا الباب يماثل الجهد المبكر الذي بذله محمد قدري باشا في القرن التاسع عشر في كتابة أحكام الشريعة الإسلامية على الطريقة العصرية، أو جهد مجمع البحوث الإسلامية  بقيادة الدكتور عبد الحليم محمود ، وهو الدور الذي لم يستكمل النور ، في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية .
كان هذا الأستاذ الجليل أحق الناس بالوصف الجميل الذي يقول إنه يقطر أدبًا، فقد كان كذلك بالفعل، كان كذلك في معاملته للصغير والكبير وللرئيس والمرؤوس وكان كذلك في معاملته للنصوص التي يعالجها على نحو أو آخر. ولم يحظ نحوي أكاديمي في زمانه بمثل ما حظي به من شهرة، ولم يحظ مرجع نحوي في زمانه بمثل ما حظي به كتابه النحو الوافي.
وفيما يتعلق بي فقد كان الأستاذ عباس حسن واحدًا من الأساتذة الذين شرفوني بمنحي جائزة مجمع اللغة العربية في الأدب 1978، وكان لتقديره لي ولبحثي مذاق خاص لا أزال أحس بفضله الباعث على النشوة، رغم مضي ما يزيد عن أربعين عامًا، وكلن هو صاحب التعبير العطوف بأن بحثي يستحق الدكتوراه مباشرة ، وفيما بعد ذلك  كان من حظي أن ألقاه أكثر من مرة، في فترة قصيرة ، وكانت أولاها أمام مصعد دار المعارف ، فعرفت من خلال هذه الومضات الخاطفة كيف يكون تواضع مثله من العظماء قادرًا على أن يأسر من يصادفه حتى لا يستطيع من يلقاه أن ينطق ببنت شفه أمام هذا الهرم الضخم من الرقي والترقي . وكان له مع كل هذا التهذيب في معاملاته مع البشر ومعاملاته مع النصوص تهذيب ثالث في ملبسه، وإذا صح أن النبلاء يعرفون من ملابسهم ومراكبهم، فإني لم أر في حياتي من هو أنبل منه ممن كان في مثل سنه.


منهجه في التأليف النحوي 


في رأيي البسيط، فإن هذا النوع من الكتابة شبه الإنجليزية للعلم اللغوي ييسر النحو على من لم يتعمقوا في دراسة علوم اللغة في المعاهد التي تتبحر في هذه الدراسات، وهكذا فإن خريج الثانوية العامة الذي يلتحق بدار العلوم متفوقًا وقادرًا على الفهم والاستيعاب، يستطيع أن يتعامل مع هذا المرجع الكبير «النحو الوافي» من دون أن يكون مسلحًا بالأسلحة التي يتطلبها البحث في شروح ابن عقيل وابن هشام وفي غير شروح ابن عقيل و ابن هشام.
وبمثل هذا النمط من التأليف الذي راده الأستاذ عباس حسن  يصبح النحو علمًا قياسيًا (بالمعنى التربوي) بعيدًا عن مقدمات فلسفته وعن نظرياته، ويستطيع  دارسه أن تذهب مباشرة إلى باب من أبواب النحو فيطالع القواعد النحوية على نحو يكفل له تواصلا غير مقيد مع النحو ، وإذا كنت من هؤلاء الذين يودون مراجعة باب من أبواب النحو في كتاب النحو الوافي أو من ألف على طريقته فإن لك أن تقرأ القواعد التابعة لهذا الباب من دون  أن تكون قد أحطت حتى بالأبواب المتشابهة التي كان ينبغي عليك أن تقلب فيها قبل أن تصل إلى هذا الباب. وهكذا فإنك تستطيع مثلًا أن تجد بابًا يتحدث عن نائب الفاعل من دون أن تبدأ بباب الفاعل في الفصل الذي سبقه.
على أن هذا لم يمنع عباس حسن من أن يمارس كل كلمة بطريقة أذكى من طرق التداخل، وإنما قسم العلم على طبقتين أو ثلاث، فيسره وجعل له مستويات متعددة في المقاربة، واحتفظ بكل حواشي النحو وتفصيلاته، دون أن يتجاوز بابًا أو يقف على نظرية أو يتخلى عن مجموعة من القواعد أو ييسر بالحذف أو الإجمال، ولهذا السبب عده النحويون التقليديون أقرب المحدثين القدامى، وإن كنت أراه أقرب القدامى إلى المحدثين.


العناية التي حظي بها كتابه النحو الوافي 


طُبع كتاب النحو الوافي (أشهر كتب عباس حسن) طبعات عديدة، ولقي من عناية دار المعارف في تدقيقه وترتيبه و توضيبه ما جعل إخراجه على مستوى إخراج المراجع الأجنبية، و تصدر هذا الكتاب مبيعات دار المعارف ومنشوراتها لفترات طويلة ، ومع أنه كان من المتوقع أن يكون لمؤلف النحو الوافي  مجموعة من المؤلفات النحوية الكبيرة الآخذة من هذا المعين العميق أو من هذا النهر الجاري، فإن العكس هو الصحيح، فقد آثر الأستاذ عباس حسن أن يضيف إلى كتابه يومًا بعد يوم بدل من أن يأخذ منه أو يستخرج كتبًا أخرى.
 وقد قدر للأستاذ عباس حسن أن يكون من الرعيل الثالث لمؤلفي الكتب المدرسية واشترك في تأليف كتاب «المطالعة الوافية» للمرحلة الثانوية مع زملائه المجمعيين الأستاذ الدكتور محمد مهدي علام، والأستاذ علي النجدي ناصف، والأستاذ علي السباعي، والدكتور أحمد الحوفي.
وفي مجال اللغة والأدب، فإنه أضاف كتابا آخر إلى النحو الوافي وهو كتابه المنهجي «قضية اللغة والنحو بين القديم والحديث».
أما في مجال الأدب، فقد كان له شأنه في هذا شأن زميله الأستاذ علي النجدي ناصف (اللاحق به في المجمعية  والرحيل ، والسابق عليه في الأستاذية والتخرج والميلاد) شغف بالأدب، ولكنه لم يترك من الكتب في هذا المجال إلا كتابه «المتنبي وشوقي»، والواقع أنه كان مِنْ أبرز من أنصفوا أحمد شوقي في عصر كان التهجم فيه على شوقي قد أصبح شيئًا محمودا ومعهودا ومحبذًا.

نشأته و تكوينه العلمي 


ولد الأستاذ عباس حسن عام 1900 في منوف وتخرج في دار العلوم عام خمسة وعشرين (1925)، أي بعد زميله الأستاذ علي النجدي ناصف بأربعة أعوام، مع أن الأستاذ النجدي يكبره في السن بعامين فقط.
في بداية حياته العملية اختير الأستاذ عباس حسن للعمل في مدرسة متميزة هي مدرسة الناصرية الابتدائية، وتنقل بعد هذا في عدد من المدارس الثانوية حتى اختير مدرسًا للنحو في دار العلوم، وترقى في وظائف التدريس الجامعي مدرسًا فأستاذًا مساعدًا فأستاذًا.
كان الأستاذ عباس حسن زوجا لابنة طه السباعي باشا أحد أقطاب الحياة الحزبية قبل الثورة، والذي تولى وزارة  التموين وغيرها في 1944 و1945 و1952، وزوجه هي شقيقة زوج الأستاذ يوسف السباعي وزير الثقافة والاعلام ، وابنة عمه، لكن الأستاذ عباس حسن عاش باسمه مجدا أكبر من مجد هذين الوزيرين اللامعين.


عضويته في المجمع اللغوي 


انتخب الأستاذ عباس حسن عضوًا في مجمع اللغة العربية في الكرسي السابع والثلاثين الذي خلا بوفاة الأستاذ علي بدوي، الذي كان أول من شغل هذا الكرسي الذي استحدث عام 1961. وقد وصل الأستاذ عباس حسن إلى عضوية مجمع اللغة العربية قبل زميليه اللذين تخرجا قبله: الأستاذ علي النجدي ناصف (خريج دفعة1921) وقبل الأستاذ علي السباعي (خريج دفعة 1917). لكن ثلاثتهم وصلوا إلى عضوية المجمع بعد الأستاذ عطية الصوالحي، وقد كان هؤلاء الأساتذة الأربعة ومعهم الأستاذ عبد السلام هارون (١٩٠٩- ١٩٨٨) عمداء فنون علوم اللغة والنحو والصرف والعروض في جيلهم مع اختلاف نزعاتهم ومواهبهم.
في مجمع اللغة العربية تولى استقبال كل من زميله الشاعر علي الجندي أستاذ البلاغة وعميد دار العلوم، الذي عين معه مدرسًا في دار العلوم في يوم واحد، كما تولى استقباله زميله في نفس القسم الأستاذ علي السباعي ، ومن غرائب الأقدار أنه لم يستقبل غيرهما من أعضاء المجمع، ومن غرائب الأقدار أيضًا أنه هو الذي ودعهما بكلمتي التأبين ، ومن غرائب الأقدار مرة ثالثة أنه لم يودع غيرهما.
أما الذي استقبله فكان هو العالم الكبير الدكتور أحمد عمار أستاذ أمراض النساء والتوليد، على حين ودعه زميله الأستاذ علي النجدي ناصف.


الأستاذ على النجدي يصف اعتزازه بذاته 


أما زميله في قسم النحو وفي مجمع اللغة الأستاذ علي النجدي ناصف، فقد روى (حين أبنه باسم المجمع) تكوين حياته العلمية على نحو بديع فقال:
«ولاحت له فرصة البعثة إلى إنجلترا، فتقدم إلى الامتحان الذي يؤهل لها، مع المتقدمين وكان في اللغة الإنجليزية، لكن الامتحان جاء فوق ما يعرفه منها فأفلتت البعثة منه».
«وبدأ حياته في التعليم مدرسًا بمدرسة الناصرية الابتدائية ثم في بعض المدارس الثانوية في القاهرة، ثم عرضت لدار العلوم حاجة إلى مدرسيْن اثنين، فكان الفقيد أحدهما للنحو، وكان الآخر هو المرحوم الأستاذ علي الجندي للبلاغة».
«وكنت سبقته إلى دار العلوم مدرسًا كما سبقته إليها من قبل طالبًا ومتخرجا. وفي دار العلوم تعارفنا واصطحبنا، وجاء الفقيد إلينا أول ما جاء، فزادت جماعتنا به عضوًا، لكنه كان عضوًا من طراز متميز. كان فيه شغفٌ بالبحث، ونزوع إلى التحدي والحوار فيه. فلما أن استقر به المقام بيننا، وذهب عنه دهش القدوم علينا، ونشأت له صحبة فينا جعل يطرح علينا من حين إلى حين مسألة من النحو أو اللغة، يقول: إن له فيها رأيًا غير المعروف، أو مأخذا يجعله منها في ريب، فيبدأ الحوار هادئًا رفيقًا، لكن الفقيد لا يزال ينفخ فيه، ويذكي من جذوته بما عنده من التحدي والمناجزة، حتى تعلو الأصوات وتصطرع البينات وفاقا وخلافا، اشتباكا وافتراقًا، يعززها تلويح الأيدي وانفعال الملامح».
وقد أجاد الأستاذ علي النجدي ناصف الحديث عن أخلاق الأستاذ المحاور المناظر في شخصية الأستاذ عباس حسن، وذلك حيث قال:
«وقد رأيته هنا كما عهدته هناك، ينشط للحوار ولا يضيق به وإن طال، إلا قليلا من تؤدة الشيخوخة وفتور الحماسة».
«رأيته ينتحي مكانا قصيًا في الجانب الغربي من هذه القاعة، كأنه الديدبان اليقظان في مراقبته، لا تأخذه غفلة أو يمسه فتور. أو كأنه الصيرفيّ الحاذق، يرد الزيوف، ويقبل الحياد، فما من مصطلح يعرض في المجلس إلا تلقاه بالنقد والتمحيص لفظًا وأسلوبًا، فإن كان صالحًا سكت عنه، ولم يعترض سبيله، وإن كان بدا له فيه مأخذ أمسك به، وجهر برأيه فيه، فإما موافقة عليه وإقرار له كما يراه، وإما حوار ومحاجة تطول أو تقصر حتى ينجلي الرأي، لا حجاب دونه ولا خلاف عليه ولا وجه لتمادي الحوار فيه».
«وما أكثر ما كان يذكر اسمه في المجلس مدعوًا إلى القول، أو يسمع صوته قائلًا يعترض، أو معقبا ينقد ويحتج».
لفت الأستاذ علي النجدي نظرنا إلى ما عرف عن الأستاذ عباس حسن من اعتزاز بالذات واعتزاز بالرأي وحرص شديد على الندية في معاملته لأقرانه:
«وما أعرف من السادة المجمعيين الذين شرفت بزمالتهم من كان أكثر منه حديثا في المجلس، ولا أكثر منه ذكرًا في محاضر جلساته».
«وكان أسلس ما يكون قيادا، وألين ما يكون جانبا لمن يحاسنه، ويبادله ودًا بود، وإذا آنس من صاحب جفوة، أو رأى منه إعراضًا لم يتردد أن يجزيه بفعله، ويكيل له بكيله، مهما كان مكانه بين أصحاب الشأن والمنزلة».


قصة تأليف النحو الوافي 


أما كتابه الأشهر «النحو الوافي» ، فقد كانت لتأليفه قصة رواها زميله الأستاذ علي النجدي، حيث قال:
«ولكتاب النحو الوافي قصة، أستجيز أن أقص موجزًا لها لوثاقة صلتها به: كنت قد تمنيت في مقدمة كتاب لي عن سيبويه أن ينهض بعض نُحاتنا، لينظروا في النحو، ويؤلفوا كتابا فيه يكون هو كتاب العصر. وصح مني العزم على العمل لهذه الأمنية، فدعوت بعض الأصدقاء إلى جلسة درسنا فيها الأمر، ووضعنا منهجه، وتوزعنا أبوابًا من النحو بيننا، ندرسها ونحررها، ثم نلتقي لنرى الرأي فيها، ولكن لم يقدر لهذه المحاولة أن تتم، ولا أن نمعن فيها بعيدا».
«وكأن الله تعالى كان راضيا عن هذه الأمنية، فأمسكها أن تذهب ضياعا، ووكل بها فقيدنا العالم الجليل ليحققها وحده، شمله سبحانه بعون منه وتوفيق، فكان «كتاب النحو الوافي» وهو كتاب في أربعة أجزاء كبار، جمع فيه الفقيد بين النحو والصرف، وجعل الدراسة فيه نوعين: أحدهما موجز أعده لطلاب التخصص في العربية، وجعل مكانه في أعالي صفحات الكتاب. والنوع الآخر مسهب، أعده لمن يريد المزيد، واختص به بقايا الصفحات. ويكثر أن يتطلب المقام تعليقات على هذا النوع، فتذهب مواطنها بذيول من الصفحات».
ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الأستاذ علي النجدي ناصف لم يكن مرتاحا إلى ما ذهب إليه الأستاذ عباس حسن في كتابه النحو الوافي من الاقتصار في الشواهد على أمثلة محدثة، والإقلال من الشواهد الشعرية التي دأب عليها أسلافه من النحاة، ولا تزال تملأ كتب النحو المرجعية والكتب المؤلفة على منوالها حتى يومنا هذا.
 وقد سجل الأستاذ علي النجدي جوهر الخلاف بين رأيه ورأي زميله في هذا الموضوع فقال:
«ويدور البحث في الكتاب على ألفية الإمام محمد بن مالك، ويعتمد في الشرح على أمثلة محدثة. وقلما يستشهد بشواهد النحو من الشعر، لأنها فيما يقول مليئة بالألفاظ اللغوية الصعبة، وبالمعاني البعيدة. وشواهد النحو هي مصدر أحكامه وحجج النحاة فيما يقررون منها. وإذا صح أن يحول ما في بعضها من صعوبة المفردات وبعد المعاني دون ذكرها في نحو الطلاب، فما بالها لم تتبوأ أماكنها في نحو العلماء، وليس عدلا أن يؤخذ الكثير الخالص المبرأ بعيب القليل المشوب».

 

اعتزاز أقرانه به 


وقد حرص الدكتور أحمد عمار في استقباله على أن يشير إلى ما كان يتمتع به من سريان النحو في دمه، وفي حديثه، كما حرص على أن يشير إلى ما تميز به من روح الإنصاف في دراساته الأوروبية، وبخاصة في مقارنته بين المتنبي وشوقي، وهو يقول:
«وإذا ما تدبرنا أن للشعر شيطانًا ليس ديدنه أن يلهم الشعراء فحسب؛ بل كذلك أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فيتبعونهم مولعين غاوين، وإذا ما رأينا كيف أن الأستاذ عباس على فرط إعجابه بشوقي، قد نأي بحبه إياه عن أن يكون باعث محاباة؛ كما لم يضن على المتنبي بالمستطاب من الثناء حيثما جلي وأجاد، كان لنا من ثم أن نقدر تشبع الأستاذ عباس حسن بروح الإنصاف العلمي».
كان للأستاذ حسن عباس مذهب متعقل ذكي في حب اللغة العربية، وكان كما وصفه أقرانه، يحرص به على أن ينجيها مما يؤذيها ويؤذي صورتها، وعلى أن يهيئ لها كل ما يفيدها في حياة حقيقية خصبة قابلة للنمو والاستمرار:
«ليس معنى حب اللغة أن نتعصب لها عصبية جاهلية، ونسلم عقولنا لقدامي المشتغلين بها دون تدبر ولا تمحيص. وإنما معناه أن نهيم بها في تبصر وحسن إدراك. فنبعد عنها ما يسيء إليها، ونمدها بما يمنحها الحياة والنماء، ونزن كل عمل يقدم لها وكل نقد يوجه إليها بميزان الفائدة الخالصة التي تكفل لها في عالم الحضارة الموّاج أن تزحم في قوة، وتعيش في أمن، وإلا كنا وإياها كالأم مع وليدها قد تهمله وتغفل شأنه، فيأتيه الموت من كل مكان. وقد تسرف في تدليله ومحبته، وتجاوز المحمود من رعايته، وتحجب عنه أشعة الشمس، وتنحيه عن مسالك الهواء، وتكثر ثيابه، وتزيد طعامه، فتقضي عليه من حيث تريد له السعادة وطول البقاء، فغاية التفريط في العناية كغاية الإفراط فيها، كلاهما يسلم إلى البلاء».
أما الدكتور إبراهيم مدكور رئيس المجمع الذي كان قريبا منه في السن والتخرج، فقد وصفه يوم تأبينه أصدق وصف ينبئ عن علاقته باللغة وحبه لها وعمله من أجلها ودفاعه عنها:
«كان عباس حسن رحمه الله وفيًا كل الوفاء لمجمعه، لم يتخلف عن جلسة من جلساته، ولا عن لجنة هو عضو فيها، إلا لضرورة قاهرة، وبلغ به الوفاء أنه كان يحضر أحيانًا متوهما عملا فلا يجده. ولا أشك في أن المجمع كان أيضًا شغله الشاغل في داره وخلوته، يراجع المحاضر والتقارير، ويعد للجلسات المقبلة في المجلس واللجان. يحقق موضوعات أثيرت، ويمحص أفكارًا عرضت، ولا يتردد في أن يستأنف الحديث فيما أثير من قبل، ولا في أن يطلب إعادة النظر فيما سبق أن بت فيه».
«وما ذاك إلا لأنه كان وفيًا للغته الوفاء كله، نصّب نفسه حارسًا لها وحاميًا من حماتها، وما أشقي الحراس، وما أقسى مهمة الحماة؛ يعارضون ويعترضون، يناقضون، ويصححون، وكلنا نذكر ما كان لفقيدنا من أخذ وردّ مع زملائه، اضطلع بواجب حماية اللغة في حزم وعزم، بل في عنف أحيانًا، وتسلح لذلك بكل ما توفر له من علم ومعرفة، فوقف بالمرصاد لكل شاردة وواردة، يصحح ما يصحح، ويرفض ما يرفض، ويطالب بالأصل والسند، وكانت أسانيده حاضرة دائمًا، ومراجعه مرقمة غالبًا، يعني بالمبدأ والقاعدة ولا يبيح الخروج عليهما، ولا غرابة، فقد كان نحويًا، ونحويًا إمامًا مستظهرًا للقواعد النحوية استظهارًا تامًا».
«وربما طغى نحوه على ثقافته كلها، يستمسك بالقياس، ولا يفسح المجال للسماع ومع هذا سلَّم بكثير من أوجه التجديد والإصلاح».
«وكيفما كانت معارضته، فإنه أدى مهمة الحارس الأمين خير أداء، وما كان يتردد في أن يدق ناقوسه إن رأى خطرًا أو توهمه. تغمده الله برحمته، وجزاه خير الجزاء عما قدم للغته وأمته».


محاولات شعرية مبكرة 


وقد حرص الأستاذ أنور أحمد وكيل وزارة الشئون الاجتماعية الأشهر على إلقاء كلمة في تأبين الأستاذ عباس حسن ، و قال في كلمته إن الأستاذ عباس حسن كان شاعرا :
«إن الناس يعرفون «عباس حسن» عالم النحو الكبير، ولكنهم لا يعلمون أنه كان في صدر شبابه أديبًا وشاعرًا، ولقد شهدته في صباي ينظم القصيدة الطويلة في ساعات قليلة، ولكنه لم يلبث أن حول وجهه عن الشعر والأدب، وتحول بكل طاقته إلى العلم، كان العلم أحسن شيء لديه، فوهبه عقله وقلبه ونور عينيه، وهكذا اختار الطريق الصعب الذي يلائم طبعه الصارم الجاد، وأدار ظهره للشهرة السريعة ساخرًا من القيم التي يتهافت عليها الناس، ليصبح راهبًا في محراب العلم».
لكن الأستاذ علي النجدي ناصف يتشكك في موهبته الشعرية هذه ويقول: 
«وراودته نفسه أن يقرض الشعر، فراح يعالج نظمه، وكنت أود لو وقفت على نموذج منه لأقول فيه كما أقول في آثاره الأخرى من اللغة والأدب. ومبلغ ظني أن ملكة الشعر عنده لم تكن أصيلة ولا راسخة، ولأمر ما لم تلازمه، ولا مالت به إلى الأدب، ولا أمسكت للشعر منه بنصيب مأثور وليس الفقيد في هذا وحيدًا، فما هو إلا طائف عارض من خارج النفس».
قصيدة رثاء الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش
وقد حفظ لنا التاريخ العلمي واللغوي بيتا جميلا وبسيطا نظمه الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش، عميد كلية الهندسة، في الثناء على هذا الكتاب، ضمن القصيدة التي نظمها في رثاء الأستاذ عباس حسن، وفي ذلك البيت الساحر يقول الدمرداش:
سألت النحـو هــل «عبــاس» وفـّي             قواعـده؟ فقال: بـلا جـدال
وفي قصيدة رثائه للأستاذ عباس حسن يقول الدكتور إبراهيم أدهم الدمرداش:
يـعــــــز علــيّ أن أرثــي زميــــلًا        تفانــي فـي الدفــاع عــن الكـمــال
فقيــــــد النحـــــو كــــان بـــلا            مــراء فقيد العـرب في نحـو الخوالي
تمســك بالقــــديـــم بألـــــــف            بيت وقـاد الفكــر في هـذا المجــال
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
قضـــى أيـامــه درســـا وبحثــــا            يصــــــوب كل أخطــاء المقـــال
تصـــدى للكـــثير من القضايــــا            وأفتـى بالجـــواب على الســــؤال
يقــول لمخطئ أخطـــأت جهــرا            وينطــق بالصـــواب ولا يبـالــــي
كـــأن النحــــو تنـــزيل ليهـــدي            مـن النطــق الحـــرام إلى الحـلال

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com