الشيخ طنطاوي جوهري ١٨٧٠- ١٩٤٠ واحد من أبرز رواد النهضة الفكرية والثقافية الحديثة في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، رشحه العالم المصري الكبير الدكتور مشرفة لنيل جائزة نوبل للسلام ، و قبل هذا بعقود وصفه الزعيم مصطفى كامل بأنه “حكيم الإسلام” ، وفي ختام حياته عرض عليه الأمام الشهيد أن يكون مرشدا عاما للإخوان المسلمين فرفض ، وبايع الإمام الشهيد ، و أبلى بلاء حسنا في دعوة الإخوان ، أما الأوربيون فكانوا في دراسات كثيرة يقرنونه بالأستاذ الإمام محمد عبده ، وظلت الأدبيات الغربية المؤرخة للفكر الإسلامي والنهضة الإسلامية ، على حد سواء ، تقارن بين الشيخ طنطاوي جوهري والأستاذ الإمام وبخاصة إذا ما تعرضت لبعض مؤلفاته بالنقد والتحليل.
كان الشيخ طنطاوي جوهري نموذجا مبكرا للمفكر العربي القادر على المقاربة الذكية لقضايا العصر والدين ، وكانت مقارباته الفلسفية ذات حظ كبير من التوفيق والذكاء ، كما كانت تحظى بانبهار من يطالعونها سواء في العالم الإسلامي أو الغربي ، كما كانت تحظى باحترام العلماء المسلمين الأصلاء ممن تشبعوا بروح الغرب ودرسوا فيه ، وقد نال قدرا عظيما جدا من التألق العابر للحدود والجنسيات بل والأديان أيضا بفضل أفكاره، وتوجهاته، وسعيه نحو السلام العالمي، والتعاون الدولي.
وفضلا عن هذا فإن الشيخ طنطاوي جوهري كان من أكثر المثقفين إخلاصا لقضية مصر واستقلالها، وقد ناصر الحركة الوطنية، وألف مبكرا كتابا بعنوان «نهضة الأمة وحياتها»، جمع فيه المقالات التي نشرها في جريدة «اللواء» التي كانت لسان حال الحزب الوطني.
و في تاريخ الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية فإن الشيخ طنطاوي جوهري هو صاحب أشهر تفسير للقرآن في النصف الأول من القرن العشرين، وأول تفسير كوني حسب مصطلح المحدثين ،وهو «تفسير الجواهر» الذي صنفه علماء التفسير على أنه النموذج الأول للتفسير العلمي للقرآن.
نشأته وتكوينه العلمي
ولد الشيخ طنطاوي جوهري بكفر عوض الله حجازي بمحافظة الشرقية، ونشأ به، وتلقي تعليمه الأولي في بلدة الغار، وهي قرية قريبة من الزقازيق عاصمة إقليم الشرقية، وكان مشهورا بجودة الحفظ والذكاء، وتلقي تعليمه بعد ذلك بالأزهر الشريف، حيث حضر حلقات الدرس، لكنه صدم بأسلوب التعليم الأزهري القائم على حفظ المتون، واستظهار القواعد دون تبسيط، بل إن القاهرة مدينة الأزهر نفسها قد أفقدته مباهج الطفولة والريف وجمال الزروع، وسوانح الطيور، وهكذا قرر الرجوع حزينا إلي القرية، ليشتغل بالزراعة!، وكأنه يكرر تجربة الشيخ محمد عبده .
عاد الشيخ طنطاوي جوهري ثانية إلي الأزهر، وعكف على تحصيل علومه، والتحق بدار العلوم، وأتيح له في هذه المدرسة أن يبدأ دراسة العلوم الحديثة (من فيزيقا، وكيمياء، وهندسة، ورياضيات ، وفلك)، وكانت دار العلوم في تلك الفترة تدرس هذه العلوم في تبسيط معقول مكّن الشيخ من دراسة هذه المعارف بفكره وإحساسه حتي تخرج (1893)، وقد أضاف معرفة واسعة بكثير من العلوم الأخرى إلي التعليم الديني التقليدي الذي انتظم في سلكه وأنهاه بتفوق.
لا نغادر هذه الجزئية من دون ان نشير الى رواية ضعيفة غير متواترة تذكر ان الشيخ طنطاوي جوهري ولد في إحدى قري مديرية المنوفية وأن مولده كان سنة 1862 ولا تتوافق هذه الرواية إلا مع واقع وحيد وهو إحالته للتقاعد في ١٩٢٢ وهي في هذا كمثل الرواية التي تذكر أن الدكتور طه حسين من مواليد ١٨٨٤ لأنه أحيل إلى التقاعد في ١٩٤٤ ، ومن المعروف أن الإحالة للتقاعد لم تكن تصطبر حتى الستين إذا ما قررت السياسة إحالة من تشاء للتقاعد وقد كان التقاعد خيرا من الفصل على كل حال .
تكوينه المتميز خارج التعليم النظامي
كان الإنجاز الفارق في تكوين الشيخ طنطاوي جوهري هو تعلم اللغة الإنجليزية، وهي اللغة التي انتفع بها كثيرا في قراءاته وفهمه وتأليفه. و على مستوى كتاب الحياة المفتوح فقد زار الشيخ طنطاوي جوهري كثيرا من بلدان أوروبا وآسيا. وعلى مستوى التكوين النفسي والعقلي روي أن الشيخ طنطاوي جوهري رزق منذ طفولته حب الطبيعة، فكان يمضي على قدميه في الحقول ساعات ليتأمل هندسة الأشجار، ومجاري الماء في القنوات، ويري ألوان السماء وهي تتبدل في الشروق والظهيرة والأصيل، في لوحات بديعة رائعة، وكان استعداده الخاص لإدراك جمال الطبيعة يغمره بنشوة هائمة.
وفي تلك الفترة تعرف الشيخ طنطاوي جوهري على مؤلفات حجة الإسلام الإمام الغزالي، ورآه يتحدث عن النمل والعنكبوت وسائر الحيوانات، ويتخذ من مشاهد الكائنات دليلا على قدرة الله، فصادف ذلك هواه، وعلم أن معرفة الله تتوقف على دراسة الكون، وأخذ يحصي آيات القرآن التي تدفع إلي طلب المعرفة فوجدها كما ذكر في كتابه المعروف «التاج المرصع» أكثر من سبعمائة آية كريمة!
وظائفه الرسمية و مصاعبه في الوظيفة
عين الشيخ طنطاوي جوهري مدرسا بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم تنقل بين عدد من المدارس منها المدرسة الخديوية حيث بقى فيها عشر سنين (من سنة 1900 إلى سنة 1910) وفيها تتلمذ على يد الشيخ طنطاوي جوهري عددٌ من أبرز الشخصيات السياسية والأدبية والفنية.
وحين تولي أحمد باشا حشمت نظارة المعارف العمومية اختير الشيخ طنطاوي جوهري مدرسا للتفسير والحديث سنة 1911 بمدرسة دار العلوم
ثم اختير الشيخ طنطاوي جوهري ليكون ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية الأهلية ليلقي بها محاضرات في الفلسفة الإسلامية وفي ذلك الحين كان قد رشح لتولي منصبٍ قضائيٍ لكنه آثر الاستاذية على القضاء .
وفيما بعد إعلان الحرب العالمية الأولي سنة 1914 نقله الإنجليز تعسفا إلى المدارس الثانوية كما نقلوه إلى مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، لكنه تجاوز الألم وبدأ العمل و كون فيها جمعية من الطلاب أسماها “الجمعية الجوهرية” كان لها أثرها في بث الوعي القومي والثقافي بين الشباب السكندري.
في أكتوبر سنة 1917 دعي إلى القاهرة للتدريس بالمدرسة الخديوية ثانية .
في أثناء ثورة 1919 قام البوليس بتفتيش مسكنه لما عرف من وطنيته، ولمقالاته التي كان ينشرها في جريدة “اللواء” عن الأمم المستعبدة والأمم المستضعفة ووسائل الإصلاح.
تفسيره للقرآن الكريم
كان تفسير القرآن الكريم هو الصعيد الأول لإنجازات الشيخ طنطاوي جوهري ، وقد اشتبك الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره للقرآن الكريم الذي بلغ عدد أجزائه ستة وعشرين جزءا مع كل ما حصله من العلم في عصره، وربطه ربطا قويا بآيات الذكر الحكيم.
عمل الشيخ طنطاوي جوهري لإنجاز تفسيره دون توقف منذ تقاعده سنة 1922 إلى سنة 1935 ، وهكذا استطاع أن يهب وقته الذهبي كله لكتابة تفسيره “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” وكان قد نشر شذرات متفرقة منه باسم “التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم”.
ذكر الشيخ طنطاوي جوهري السبب في أنه سمى تفسيره “الجواهر في تفسير القرآن الكريم” فقال إنه يجعل الجوهرة بدل الباب أو الفصل ، والجوهرة يتفرع عنها الماسة الأولى والماسة الثانية وهكذا.
وقد أشار أيضا إلى أن طريقته في تفسير القرآن أن يبدأ بالتفسير اللفظي للآيات التي يعرض لها ثم يتلوه بالشرح والإيضاح، أي أنه يشرح متوسعا في الفنون العصرية المتنوعة.
ومن الطريف أنه كان يضع في تفسيره كثيرا من صور النباتات والحيوانات ومناظر الطبيعة وتجارب العلوم بقصد التوضيح والبيان.
هكذا فسر الشيخ طنطاوي جوهري القرآن الكريم على نحو جديد من المقاربة الوقورة والجريئة في آن واحد ، و بدأ بهذا التفسير اتجاها جديدا في التفسير سلكه كثيرون مع اختلاف طرقهم في مقاربة القرآن ومعانيه، ومن هؤلاء الذين انتفعوا بترجمة الشيخ طنطاوي جوهري أستاذ الطب الباطني الكبير الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا، في كتابه «الإسلام والطب الحديث» الذي كتب مقدمته الشيخ المراغي شيخ الأزهر، وأشار فيها إلي تحفظاته الواضحة على تفسير القرآن الكريم بالحقائق العلمية، والدكتور محمد أحمد الغمراوي، ومن التالين لهم نذكر الدكاترة محمد جمال الدين الفندي، ومصطفي محمود، وزغلول النجار وغيرهم. ولم يكن عجيبا ان يكون هذا الشيخ بمثابة الرائد لهؤلاء الأساتذة المتخرجين في الكليات المشتغلة بالحياة العلمية.
كان لتفسير الجواهر على وجه العموم تأثير معنوي عظيم، فقد شجع آلاف القراء في عصره علي استكناه حقائقه العلمية الحافلة ، وغرائب الكون، ومستحدثات الطبيعة، وعجائب الضوء والصوت، والحرارة، وصور الجبال والأنهار والثلوج والبراكين، ومملكة النبات بما فيها من أشجار، ونخيل، وثمار، وأزهار.
دافعه لتأليف تفسيره
تحدث الشيخ طنطاوي جوهري في مقدمة التفسير عن البواعث التي دفعته لتأليفه:
“أما بعد فإني خلقت مغرما بالعجائب الكونية معجبا بالبدائع الطبيعية مشوقا إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال آيات بينات وغرائب باهرات، ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية ألفيت أكثر العقلاء وبعض جلة العلماء عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج بها ساهين لاهين فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودعت من الغرائب فأخذت أؤلف لذلك كتابي”
رأيان لكاتب السطور في تفسير الشيخ طنطاوي
لست أخالف من يعتقدون ( ومعهم كثير من الحق) في أن الشيخ طنطاوي جوهري حاول في هذا التفسير أن يطبق القرآن على النظريات الحديثة، محاولا استكناه أو استخراج النظريات العلمية من نصوص كتاب الله، فجاء مزيجا من علوم الأمم، قديما وحديثا، كما حاول التوفيق بين الآراء الحديثة والأفكار الدينية، لكني أرى أن الأمر أكبر من هذا بكثير ، ذلك أن الشيخ فيما يبدو لي ، وقد انتهيت من صلاة الفجر، رأى أن من واجبه أن يقرأ القرآن بعيون العصر لا أن يفسره فحسب ، وأن يساعد قارئ القرآن على أن يهتدي بالقرآن لا أن يبحث عن معانيه فحسب.
ومن الحق أن نقول إن الشيخ طنطاوي جوهري جمع فيما فسره وفيما درّسه بين الثقافتين الدينية والحديثة، ومزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية، وأنه نجح في هذا الجمع وهذا المزج بما لم يتحقق حتي لخلفائه ، وقد دل هذا النجاح على السبب الحقيقي له وهو أن الشيخ طنطاوي جوهري كان صاحب منهج علمي متماسك، أضاف إلي تراث العربية والإسلام ،كما كان صاحب منهج أيضا في بيانه وأسلوبه الأدبي ، ولاشك في أن القارئ لنصوص الشيخ طنطاوي جوهري يدرك من الوهلة الأولي أنه صاحب لغة بيانية جميلة، وذوق جمالي رفيع ، ورؤية فلسفية ثاقبة ، ودور فكري طليعي .
من ناحية أخرى فإنني اميل الى القول بأن الأستاذ سيد قطب في تفسيره المشهور في ظلال القرآن قد تأثر الى حد كبير برؤية الشيخ طنطاوي جوهري للكون ، و أنساقه ، وجمال النظم القرآني المعبر بإشراق عن هذا الجمال ، والمتأمل للتفسيرين يدرك بوضوح مدى الدور التأسيسي الذي أنجزه و أرساه الشيخ طنطاوي جوهري من حيث أثر بطريقتين (مباشرة و غير مباشرة ) فيمن جاءوا بعده من المفسرين بمن فيهم من سعوا إلى تجديد التفسير البياني أو تعميق التفسير القرآني للقرآن .
صدى التفسير
بالإضافة إلى أثر هذا التفسير في مصر والبلاد العربية فقد ترجم هذا التفسير إلي اللغة الأوردية ، وعدة لغات شرقية، وتأثر به المسلمون في الهند وبلاد التركستان والصين واليابان وتركيا، فدفع قارئيه من بسطاء المسلمين و متوسطي الطبقة إلي حب المعرفة، بعد ما أثبت لهم أن العلوم الحديثة من صميم ما يدعو إليه كتاب الله! و كان لهذا التفسير في الشرق الأقصى وفي إيران بوجه خاص سمعة طيبة وشهرة واسعة النطاق
طبيعة النقد الذي لقيه التفسير
تعرض تفسير الجواهر لحملات كثيرة من كبار المفسرين في العصر الحديث، وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار، إذ كتب في مجلة «المنار» (شعبان سنة 1348 هـ):
«ثم توسع المؤلف (يعني الشيخ طنطاوي ) بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلي العلم، ومحبي العلم إلي هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما يدعي الجامدون من تحريمه له، أو صده عنه فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها، وما فيها من الهدي والأحكام، بقدر ما عني من سرد المسائل العلمية، وأسرار الكون وعجائبه، ولا يمكن أن يقال: إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمي تفسيرا له، ولا أنه مراد الله تعالي من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا».
وقد لفت الدكتور محمد رجب البيومي نظرنا إلي أن هذا الكلام المهذب الذي كتبه الأستاذ محمد رشيد رضا هو أرق ما قيل في نقد الكتاب وأخلصه، وأن الحقائق العلمية المسرودة في الجواهر ليست تفسيرا لروح القرآن، ولكنها كما يقول الشيخ طنطاوي في مقدمة تفسيره:
«لقد رأيت أن يشرح الله به قلوبا، ويهدي به أمما فتنقشع الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهمون العلوم الكونية، وليكون هذا الكتاب داعيا إلي درس العوالم العلوية والسفلية، كيف لا وفي القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، ولقد وضعت في هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكام والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم، وعجائب الخلق».
انشغال الشيخ طنطاوي جوهري بفكرة النهضة الإسلامية
كانت النهضة الإسلامية هي الصعيد الثاني لإنجازات الشيخ طنطاوي جوهري في المجال الفكري، وقد كان الشيخ طنطاوي بمثابة رائد من رواد الخطوة التالية لخطوة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في السعي إلي نهضة المسلمين، وتحرير معتقداتهم الدينية من الوقوف عند حدود النصوص المتوارثة، والتعليم التقليدي السقيم، ويقال إنه إذا كان الشيخ محمد عبده قد دعا إلي تحرير العقل واستعماله فإن الشيخ طنطاوي جوهري قام بأولي الخطوات التنفيذية بالفعل وأثبت بما لا يقبل جدالا أن هذا التحرير ممكن، وأنه مثمر أيضا.
ونحن نعرف أن الشيخ طنطاوي جوهري قد أضاف إلي ما سبق إليه الشيخ محمد عبده من إحاطة بعلوم الدين والفلسفة، إلماما واسعا بعلوم كثيرة، وبخاصة بعلوم الفيزيا ء والفلك والرياضيات.
فكره الانساني
كان السلام العالمي هو الصعيد الثالث لإنجازات الشيخ طنطاوي جوهري فقد كان الشيخ طنطاوي جوهري من أوائل مفكري العالم اهتماما خاصا بفكرة السلام بين دول العالم، وقد تبلور هذا الاهتمام فيما قبل تطور الساسة الدولية إلى ما اعتبر بمثابة نذر الحرب العلمية الثانية التي اندلعت قبيل وفاة الشيخ بفترة قصيرة ، وقد وضع الشيخ طنطاوي جوهري مبادئ نظرية موجزة و مرموقة في هذا المجال استمدها من مفاهيم القرآن، وخلاصة رأيه فيها أن “سياسة الأمم إن لم يكن بناؤها على حساب كحساب العلوم فإن النوع الإنساني سيحل به الدمار ولا يستحق البقاء”.
اعتمد الشيخ طنطاوي جوهري على فكرة توظيف علوم الرياضة والفلك والنبات والكيمياء والتشريح وعلم النفس وسيلة توصل إلى حل مشكلة السلام العام.
وكان للشيخ طنطاوي جوهري كتابان وجههما إلى العالم كله في هذا الشأن هما:
• كتابه “أين الإنسان” و قد صاغه على هيئة رواية سياسة فلسفية تناول فيها آراء عدد من الفلاسفة مثل “الفارابي” و”ابن طفيل” و”توماس مور” . وقد ترجم هذا الكتاب إلي عدة لغات شرقية وغربية، وكان من مبررات ترشيح مؤلفه لجائزة نوبل للسلام!
• كتابه “أحلام في السياسة وكيف يتحقق السلام العام” الذي كتبه باللغة الإنجليزية، ونشره في أوروبا، و فيه مضت أفكار الشيخ طنطاوي جوهري على نسق أسلوبه في التفسير و الثقافة العلمية ، حيث عرض صفحات مثيرة عن نظام الحشرات والجوارح والضواري، وممالك النحل والنمل والهوام، والمعادن والأحجار، واستخلص من نظم هذه الكائنات ما يؤيد دعوته إلي السلام العالمي في منطق جريء.
و قد لقي كتاب «أحلام السياسة» ترحيبا كبيرا في أوروبا ، وقد نشر في أخريات حياته باللغة العربية أيضا ليستفيد منه مَنْ هم في حاجة إليه .
كتاباته في الثقافة العلمية
كانت الثقافة العلمية هي الصعيد الرابع لإنجازات الشيخ طنطاوي جوهري ، ومن رأيي أن الحديث عن تاريخ الثقافة العلمية في العالم العربي لا يكتمل من دون الحديث عن دوره البناء و الطليعي و المؤثر ، كما أن الحديث عن فكر الشيخ طنطاوي جوهري و آثاره ومجموعة مؤلفاته لا يكتمل من دون الحديث عن دوره الرائد في إرساء مفاهيم الثقافة العلمية والإنسانية في المجتمع ، وهو الدور الذي اشترك فيه مع رواد الثقافة العلمية من الذين تخصصوا في العلوم كالدكاترة علي مشرفة واحمد زكي و الغمراوي والكرداني ومن الذين تفرغوا للصحافة (كالأساتذة يعقوب صروف و إسماعيل مظهر)، ومما يحق لثقافتنا الوطنية أن تفخر به أن نذكر أن الشيخ طنطاوي جوهري قد ألف مبكرا جدا كتابا لا يقل روعة عن كتابات رائد الخيال العلمي ويلز ١٨٦٦- ١٩٤٦ المستندة إلي الخيال العلمي، لكن الشيخ طنطاوي جوهري وظف الخيال العلمي (في أكثر من كتاب ) لخدمة الأهداف الإنسانية المثالية .
ومن الجدير بالذكر ان الشيخ طنطاوي جوهري كان قد بدأ في هذا التوجه منذ ما قبل نشره لتفسيره ، حيث خاض آفاقا متعددة من الحديث عن نظام الكون والكائنات، وقدم أفكارا إنسانية سابقة لأوانها استند فيها إلي قدرات متميزة في فهم النصوص الدينية، والحقائق العلمية على حد سواء، وتمكن بما كتبه من أن يزيد من اقتناع المسلمين الصادقين بعقيدتهم، وأن ينمي في توجهاتهم إيمانا بدور العقيدة الإسلامية في الحث على السلام العالمي، والتعاون الدولي.
نموذج لما صاغه بأسلوبه الجميل
وهذا على سبيل المثال هو وصف الشيخ طنطاوي جوهري لحركة الأفلاك ـ بما فيها الأرض ـ حول الشمس على نحو ما صاغه الشيخ العظيم بأسلوبه الجميل في كتابه «أين الإنسان»:
«الأرض تجري أمامي جريا حثيثا، وهي تتلألأ جمالا وحسنا لما يسطع على ها من نور الشمس، وحجمها كبير ممتد. الأرض تجري مسرعة في الفضاء، كأنها قلة المدفع، إن قلة المدفع تجري عشرة أميال في الدقيقة، والأرض تجري قدرها مائة مرة حول الشمس لتتم حركتها السنوية! لعمرك لقد هالني المنظر! وهي بنفسها وهيئتها مندفعة تجري حول الشمس أسرع من القلة مائة مرة، وهذا المجموع الشمسي مسخر مسكين كأنه أرض تجري حول كوكب مجهول، أدهشتني الأنوار، وغطت على عقلي عجائب الحركات، نظرت أسفل فإذا زحل تحيط به حلقاته الساطعة الجميلة، وهو يجري حول الشمس كأرضنا».
«ولقد تعجبت من الأنوار الساطعة البديعة البهية الدائرة حول المريخ، فهناك قمران جميلان طالعان، عجيب أمرهما، وبهي نورهما، ولما رأيت أقمار المشتري الأربعة زاد تعجبي، وما كنت أظن في العالم أقمارا غير قمرنا!».
عنايته بالموسيقى
وفي هذا الاطار من الحديث المنفتح على الكون ، فقد عني الشيخ طنطاوي بالموسيقى وتحدث عنها حديث الخبير بها وربطها بالفكر الإسلامي . و تحدث عن موقف الإسلام من الأغاني والفنون وكان يقول: “إن الموسيقى المسموعة باب من أبواب الموسيقى المعقولة” و يذكر أنه أشار في تفسيره إلى كثير من النوادر والحوادث الشخصية التي كانت الموسيقى حافزا له فيها على ارتياد مواطن جديدة من النشاط الفكري.
كتاباته الباكرة في فكرة العلم والإيمان
كانت ثنائية العلم والإيمان هي الصعيد الخامس لإنجازات الشيخ طنطاوي جوهري ، فقد كان اهذا العالم الجليل ينظر من خلال الثقافة العلمية إلي العالم نظرة حكيمة وواعية فيري أن نظام الكون يخضع لقانون عادل دقيق، لا يشذ عنه كوكب من الكواكب، وإذا كان الإنسان بعض هذا الكون فلابد أن يخضع لمثل هذا القانون، فلا ينحرف عن سننه العادلة إلي طريق جائرة تفضي إلي الحروب والدمار.
وقد أبان الشيخ طنطاوي جوهري عن هذا المعني بوضوح من خلال النظر المتأمل في رحلته المثيرة على نحو ما صاغها حيث قال:
«لم أر كوكبا حاد عن كوكب، ولا شمسا غادرت فلكها، ولم تختل حركة الأرض اليومية، ولا حركة المجموعة الشمسية، إن هذا لعدل! إن هذا لهو الميزان، ما لي أري أكابر الأمم وسواسهم يقوضون معالم الإنسانية! أليس النظام واحدا؟ أليس عالم الإنسان تابعا لهذا الجمال البديع؟ وكيف يقولون ما لا يعملون، ويبطنون ما لا يظهرون؟ وهل يعم العالم والنظام هذه العوالم البديعة، ويذرنا نتخبط ويقتل بعضنا بعضا، ونحن في الحياة ظالمون معذبون جاهلون!!».
…………………………..
و كان الشيخ طنطاوي جوهري ينادي من منطلق رواية تفصيلات الرحلة الذكية إلي الحفاظ على نظام الكون، وما يتطلبه هذا الحفاظ من اطراد سبل العدالة في جميع الكوائن، ومن بينها: الإنسان! ذلك الكائن المتمرد الذي شذ عن طريقه فجلب على نفسه الدمار!!
خضوع الكون لنظام عادل دقيق
نبه الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري إلي ما أدركه من خلال قراءاته من أن أبعاد الكواكب السيّارة عن الشمس تمضي على سنن هندسية مضبوطة محددة، وهي كما كشفها العلامة يود كالآتي:
٣ ـ 6 ـ 12 ـ 24 ـ 48 ـ 96 … وهكذا. والنسبة بين هذه الأعداد لا تشذ، فكل عدد يسلم إلي ضعفه دون زيادة أو نقصان. وذكر الشيخ أنه لما نظر إلي أشكال المادة وتنوعها وجد الأحجار الساقطة تتبع نظاما حسابيا يرجع إلي الجذر والتربيع والمتواليات العددية، ثم وجد هذا الجذر مسيطرا على حساب البنادل [جمع بندول ]، وحركات الضوء والصوت والحرارة والكهرباء، بنظام لا يشذ بزيادة أو نقصان، كما وجد العناصر المشهورة المبدوءة بالأيدروجين، المختومة بالأورانيوم تتبع جدولا يضم متفرقها، ويجعل بينها نسبا أفقية، وأخري رأسية بحيث لو وضع عنصر في غير موضعه لاختل النظام!
وتابع الشيخ طنطاوي جوهري النظر في عشرات الأشياء حتي وصل إلي هذه النتيجة التي لخصها في آخر مقال نشره في حياته بمجلة «الرسالة» 20 مارس 1939 فقال مستندا إلي «أحلام السياسة»:
«كيف يكون لهذه العوالم هذا الجدول المنظم، وتكون بينها هذه النسب البديعة، ولا يكون للإنسان هذا النظام؟ كلا… العقل ينكر هذا! وها هنا تحل مشكلة العالم، ها هنا عرفنا سبب النزاع المقام بين الأسرات والممالك، هأنذا عرفت سبب الجمال في الحقول والسماوات ليلا ونهارا، فأما أسباب الشقاء والنزاع بين الإنسان: فالبحث جار فيها».
«وكما رأينا نظام العناصر المختلفة في جدولها تماما، رأينا لأوراق النبات على الأشجار المختلفة جداول منظمة ذوات نسب في الصفوف الرأسية والأفقية، فهل في شرعة الإنصاف أن نعتبر أفراد الإنسان في هذا العالم كمية مهملة لا نظام يجمعهم، ولا قانون يكبحهم، وقد رأينا النسب والقوانين لم تذر ذرات الأيدروجين مع ذرات الصوديوم، ولا ورقات التفاح مع ورقات الأعشاب، ولا حركات سقوط الأحجار: كلا، كلا، إن قوي نوع الإنسان وعقوله لها نسب خفية، وكل امرئ في الأرض له نسب إلي غيره في أمته وفي غيرها، ولما خفي ذلك على الناس حاروا في أمرهم فلم يجدوا مناصا من الحرب، لأنهم لم يهتدوا إلي نظامهم، فكل يزعم أن له عند الآخر حقا يريد أخذه بالقوة».
قصة ترشيحه لجائزة نوبل للسلام
ظل الشيخ طنطاوي جوهري يدعو بأسلوب جديد إلي ضرورة وإمكانية نشر السلام بين شعوب العالم، وهو ما جعل الدكتور على مصطفي مشرفة باشا يرشحه لجائزة نوبل في السلام عام 1939 بكتابيه هذين إلى الدوائر الغربية لنيل جائزة نوبل للسلام، وقد رشحه الدكتور مشرفة بوصفه عميدا لكلية العلوم و اشترك في الترشيح الدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين ، ودعمت وزارة الخارجية هذا الترشيح ، وتولت إجراءات تقديمه و مؤلفات الشيخ إلى لجنة الجائزة و البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام ، وشهادات علماء إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في قيمة هذه المؤلفات، لكن وفاة الشيخ طنطاوي جوهري في مطلع ١٩٤٠ حالت دون إتمام الأمر لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا للأحياء فقط.
مكانته في وطنه
لقي الشيخ طنطاوي جوهري تقديرا كبيرا من كثير من المصريين، الذين اقتنوا مؤلفاته، وواظبوا على محاضراته، لكن الأمر لم يخل ممن حاولوا الوقيعة السياسية به حتي اضطر الشيخ إلي أن يعبر عن ألمه من هؤلاء، وأن يقول في أحد مؤلفاته:
«إليك اللهم أشكو جور الحساد وغيظهم، يقولون إذا خلوا مع الموظفين من أمة الإنجليز: إن هذا إلا متعصب للدين، فإذا تركتموه وشأنه أثار الثائرات، وشن الغارات، ويقولون للموظفين المصريين: ألا إنما هو خارج مؤول في الدين، وإذا لقوا فريقا آخر قالوا: إنه خلط العلم مع الدين، ومزجهما معا خبط ضائع، اللهم إني سأعمل مما قلت لنبيك (صلي الله على ه وسلم): «فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين».
وقد ذكرنا من قبل ان الشيخ طنطاوي حورب في وظيفته، ونقل من التدريس الجامعي إلي التدريس الثانوي، وأبعد عن القاهرة ، كذلك فقد حوصرت داره مرات، وصودرت مسوداته ومخطوطاته.
علاقته بجماعة الإخوان المسلمين
عرض الإمام الشهيد حسن البنا على الشيخ طنطاوي جوهري أن يكون مرشداً للإخوان ، لكن الشيخ بتواضعه رفض ، وبايع الإمام الشهيد ، ويذكر له أنه هو الذي قال عن الإمام الشهيد حسن البنا : “لو تعلمون عن هذا الشخص ما أعلم ما ملكتم إلا أن تبايعوه على نصرة الإسلام، إنه في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي، إنه قلب عليّ وعقل معاوية، وإنه أضفى على دعوة اليقظة عنصر “الجندية”، ورد إلى الحركة الوطنية عنصر “الإسلامية” .
وقد ترك الشيخ طنطاوي جوهري أربعة آثار بالغة الأهمية في جماعة الإخوان المسلمين في بداية صعودها الواثق في المجتمع المصري والإسلامي :
• كان الشيخ طنطاوي جوهري هو أول من احتضن أول مجموعة من طلبة الجامعة وأرشدهم إلى طريق دعوة الإخوان المسلمين في 1933
• وكان الشيخ طنطاوي جوهري هو أول من تولى رئاسة تحرير “صحيفة الإخوان المسلمين”، والتي صدر العدد الأول منها في 15 يونيو 1933، وكان أول مقال له فيها بعنوان : “إلى القراء الكرام”.
• كان الشيخ طنطاوي جوهري هو ممثل إخوان القاهرة في مجلس شورى الإخوان، والذي عُقد في الفترة عقب عيد الأضحى 1353في سنة هـ ( ما بين 16 مارس و 18 مارس 1935)
• كان الشيخ طنطاوي جوهري يلقي في المركز العام للإخوان المسلمين درسٌا في تفسير القرآن الكريم في إطار ما عرف به من منهجه في التفسير .
مكانته في العالم الإسلامي
ظلت شعوب إسلامية كثيرة تعتقد في أن الشيخ طنطاوي جوهري هو حجة الإسلام في عصره، وبلغ الأمر في هذا أن سميت المدارس والجامعات في تركستان باسمه حتي إنهم يقولون: «جامعة طنطاوية» و«مدارس جوهرية» و«عقائد جوهرية». وترجمت معظم كتبه إلي الأردية و بعض اللغات الشرقية .
شهادة الأستاذ محمد حسن الأعظمي
نقل أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي ما تحدث به الأستاذ محمد حسن الأعظمي عميد كلية اللغة العربية بباكستان عن مكانة الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري في العالم الإسلامي في جريدة «فتي النيل» في 12 مارس 1939 حيث قال:
«لم تشتهر في الشرق شخصية من المصريين كما اشتهر شيخنا العلامة الشيخ طنطاوي جوهري ، ومَنْ يشك في هذا فليدر في أقطار الهند والفرس والصين والتركستان وإندونيسيا والعرب وغيرها من الشرق، وسيجده إن شاء الله علما مرفوعا فيها، وأني لست بمبالغ إن قلت: إنه كما أحسن إلي مصر بتعريفه إياها المشرقين، ولم تحسن مصر إليه، فإنك تجد في الشرق مَنْ عرف معرفة شيخنا ، والشرقيون يعتقدون فيه أنه المصري الوحيد الذي عرف الثقافة الدينية الحديثة أتم المعرفة، والرجل الذي ليس هكذا خطر على رقي المسلمين في عصرنا هذا، فالناس لا يعتمدون على رجل ديني محض، ولا على رجل عصري».
تقدير المنصفين والمتعصبين من أهل الفكر في أوروبا
المستشرق الفرنسي البارون كرا دي فو
وصفه البارون كرا دي فوه ١٨٦٧- ١٩٥٣ في كتابه «مفكرو الإسلام» في نهاية حديثه عنه بأنه واحد من المصلحين الذين ربطوا بين جوهر الإسلام وبين النهضة الحديثة
وقال البارون كرا دي فوه إن الأزهر أظهر ثلاثة مصابيح: محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطنطاوي جوهري”.
وقال : «ألف الشيخ طنطاوي جوهري كتابه «أين الإنسان» بطريقة روائية فلسفية. يشابه الفارابي من حيث الفكرة وابن طفيل من حيث الأسلوب والمنهج، فجمع بين دقة الفكر، وجمال الأسلوب، وأنه يشبه في منهجه توماس مورو، وكامبا نيلا، ومعاصرنا بينز ، فمثل هذا الكتاب المملوء حكما وعلما، الغزير المادة، السامي الفكرة، الناتج عن تفكير عميق، وبحث يقل نظيره يدعو دعوة حارة إلي سعادة الأمم أجمعين، ويدعو أيضا بالحماسة الشديدة إلي التجديد العام، وهو مفخرة لمصر والإسلام».
المستشرق مارجيلوث
كتب المستشرق المتعصب مارجيلوث ١٨٥٨- ١٩٤٠ في مجلة «الجمعية الآسيوية الملكية» عن كتاب أحلام السياسة للشيخ طنطاوي جوهري فقارن بين الفيلسوف الألماني كانت ١٧٢٤- ١٨٠٤ ، والأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري المصري و قال:
«إن عنوان هذا الكتاب يذكّرنا بكتابين نشرهما العلامة «كانت» الألماني في السلام العام، فإنه وإن كان عالما بالرياضة والفلك، لم يستعملهما في السلام العام، أما الشيخ طنطاوي جوهري فإنه أدخل فيه هذين العلمين، وأضاف إليهما علم النبات والكيمياء والتشريح وعلم النفس، فهذه العلوم كلها قد جعلها المؤلف وسيلة توصل إلي حل مشكلة السلام العام».
المستشرق الإيطالي سانتلانا
كتب المستشرق الإيطالي الشهير سانتلانا ١٨٥٥-١٩٣١ (والذي كان سلفا للشيخ طنطاوي في تدريس الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية) في كتابه “صدى صوت المصريين في أوروبا” الذي نشر عام 1911 :
“ليس هناك بمصر من يجهل الشيخ طنطاوي جوهري، فهو ذلك الكاتب النحرير والمحرر الشهير، ذلك الإنسان ذو العقل الكبير؛ بل أحد رؤساء الحركة السياسية والاجتماعية التي انتشرت في طبقات الشعب الإسلامي كافة تحت اسم الجامعة الوطنية”.
المستشرق كريستان جوب
ذكر الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه «النهضة الإسلامية» عن صحيفة «دار العلوم» (أبريل 1939) أن العلامة كريستان جوب حضر من لكسمبورج إلي مصر سنة 1938 كي يلتقي الشيخ طنطاوي جوهري ، وصرح لمندوب جريدة «المقطم» في 8 يناير 1938 قائلا:
«حضرت (الضمير يعود إلي كريستان جوب) إلي مصر هذه المرة مخصوصا للتشرف بمعرفته شخصيا، بعدما عرفته عن بعد.
وكان جوب قد ترجم كتابيه «أحلام السياسة» و«أين الإنسان»!!».
ولم يكتف جوب بهذا الحديث الصحفي، بل إنه ألقي محاضرة في جمعية الشبان المسلمين، تناول فيها بالشرح أفكار الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري، وتفكيره الهادف الأصيل! و قال الأستاذ العلامة “كريستيان جوب”:
إن كتاب “أين الإنسان” يبحث في أعقد المشكلات العالمية بحثا عجزت أوروبا إلى اليوم عن الإتيان بمثله. وقال: “إني أعلن أن خير كتاب أخرج للناس في هذا الشأن هو كتاب “أين الإنسان” الذي يرسم للعالم بأسلوب فلسفي عميق الطريق المستقيم إلى السلام الدائم الذي رسمه الله في قوله تعالى “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
الدكتور هارتمان
قرن هارتمان بين المصلحين الكبيرين محمد عبده و طنطاوي جوهري فقال: «إنهما يعملان على التوفيق بين المدنية الغربية، والعلم الغربي، وبين الحياة الاجتماعية والدينية في مصر، إن الشيخ طنطاوي كان يردد تعاليم الأستاذ الإمام مثل قوله: «إن الإسلام دين العقل لا دين التقليد، وإن العلم إذا أحسن فهمه يصبح أداة صالحة لفهم الدين»، ومثل مناهضته للمغالاة في تقديس الأولياء، ومثل قوله: إن الاقتصار على مذهب واحد من مذاهب الفقه سبب للجمود والتأخر في الإسلام، وإن الاجتهاد هو خير حل لجميع العلل».
المستشرق تشارلز آدمز
ذكر تشارلز آدمز في كتابه “الإسلام والتجديد في مصر” الشيخ طنطاوي جوهري كواحد من تلاميذ الشيخ محمد عبده في مدرسة التوفيق بين المدنية الغربية والإسلام.
رأيان لصحيفة الجمعية الآسيوية الفرنسية
لما أصدر الشيخ طنطاوي جوهري كتاب «نظام العالم والأمم» بلور دعوة فذة إلي الجهاد العلمي، ووجد فيه أساتذة أوروبا نغمة عالية غير مألوفة، فعدوه ظاهرة خطيرة تستحق التسجيل. تحدثت عنه صحيفة «الجمعية الآسيوية الفرنسية» (وهي واحدة من المنابر الاستشراقية المهمة ) فقالت ضمن مقال طويل في عدد فبراير سنة 1908:
«إن كتاب «نظام العالم والأمم»، وهو أحد كتب ألفت للنشأة الحديثة الإسلامية، بناها المؤلف على نظريتين اثنتين، أولاهما: أن الدين الإسلامي دين الفطرة، أي ملائم للعقول الإنسانية، والطباع البشرية، وثانيتهما: أن هذا الدين يسوق إلي استكناه جميع النواميس، وسائر القوانين الطبيعية».
وأشادت هذه الصحيفة بالفصل الخامس الذي تضمن بابا مسهبا عن الحيوان وسلسلة ارتقائه وشرح فيه ترتيب الحيوان شرحا مسهبا، مقارنا بين مذهبي اليونان والعرب، بين مذهب داروين.
وقالت مجلة الجمعية الآسيوية الفرنسية عن تفسيره:
“إن الشيخ طنطاوي رجل فيلسوف حكيم بمقدار ما هو عالم دين، وبهاتين الصفتين قد فسر القرآن الذي أثبت أنه دين الفطرة بما هو أكثر ملائمة للطباع البشرية وموافقة للحقائق العلمية والنواميس الطبيعية”.
حديث الأستاذ العقاد عن الشيخ وعلاقته بالأستاذ الامام
يقول الأستاذ العقاد في معرض حديث من أحاديثه :
“……… فبعد جمال الدين ومحمد عبده أصبح من همِّ كل شيخ ناشئ أن يصبح أستاذًا إمامًا أو نمطًا آخر من جمال الدين. ومن هنا نشأت مدرسة رشيد رضا، ومصطفى المراغي، وطنطاوي جوهري وعبد الحميد الزهراوي، ومحمد الخضري، ومحمد المهدي، والنجار، وغيرهم.
تصوير الدكتور طه حسين لشخصيته المحبة
هذا تصوير طريف لشخصية الشيخ طنطاوي جوهري قدمه الدكتور طه حسين ضمن حديثه في كتابه الأيام عن مباهج الجو الذي عاشه هو وزملاؤه الطلاب في الجامعة المصرية ، ومع ما في هذا التصوير الحافل بالعبث والمرح المفهوم فإنه يدلنا بوضوح على أن الشيخ طنطاوي جوهري كان سابقا بمرحلة كبيرة على الدكتور طه حسين الذي كان لا يزال وهو طالب في الجامعة المصرية متأثرا بالذوق الحسي لطلاب الأزهر ثم أصبح حين أملى مذكراته متأثرا بل أسيرا لمادية الغربيين ، ومع هذا فإن رواية الدكتور طه حسين تنصف الشيخ طنطاوي جوهري إنصافا متعدد الزوايا :
” وكان الأستاذ الآخر الذي ملأ الجامعة فكاهة ودعابة، وملأ الطلاب عبثًا به واجتراءً عليه، وملأ بطون الطلاب من طعامه، وهو الشيخ طنطاوي جوهري رحمه لله. كان يدرس الفلسفة الإسلامية بعد الأستاذ محمد سلطان وبعد الأستاذ سنتلانا خاصة. وكان يتكلم كثيرًا ولا يقول شيئًا، وكانت كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق أكثر الكلمات جريانًا على لسانه منذ يبدأ الدرس إلى أن يُتمَّه. وكان لا ينطق بكلمة منها إلا مدَّ ألفها فأسرف في المدِّ، وربما أخذه شيء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب في ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم الآخر؛ ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك، فيلوم الطلاب لا على أنهم يضحكون، بل على أنهم لا يشاركونه في الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على صفحة النيل، ويمدُّ ياء النيل فيسرف في مدها ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متصل.
“وفي ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام، وقرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسانَهم في شكر الأستاذ على دروسه القيِّمة، واشترطوا عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم، واشترط على ه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو جملة من حديث الشكر هذا الذي يجب أن يكون طويلًا من إحدى هذه الكلمات الست: الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق. وقَبِل الفتى هذه الشروط كلها، فخطب وأجاد، ولكنه لم يقل شيئًا، ورضِيَ الأستاذ كل الرضا، وقال للفتى: لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك رومي، ولكنك لن تأكله وحدك، وإنما يشاركك فيه زملاؤك جميعًا، فإذا كان يوم الجمعة فأنتم تعرفون أين أقيم!
” ولم يكن الأساتذة المصريون وحدهم هم الذين يملؤون الجامعة فكاهة ودعابة، ويتعرَّضون لعبث الطلاب وجراءتهم الماجنة، وإنما كان الأساتذة الأجانب مصدرًا من مصادر الفكاهة وموضوعًا من موضوعات العبث. كانت لهجتهم العربية تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يَلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذتهم الإيطاليين أو الألمانيين”
آثاره:
ترك الشيخ طنطاوي جوهري ما يقرب من ثلاثين مؤلفا منها:
ـ تفسير القرآن الكريم المسمى بالجواهر، في 25 مجلدا، ثم كتب المجلد السادس والعشرين لاستدراك ما فاته..
ـ التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم، ينقسم إلي 52 بابا أو جوهرة.
– أين الإنسان؟
ـ الزهرة في نظام العالم والأمم.
ـ أحلام في السياسة.
ـ النظام والإسلام.
ـ مذكرات في أدبيات اللغة العربية.
ـ نهضة الأمم وحياتها.
ـ ميزان الجواهر في عجائب الكون.
ـ الأرواح.
ـ الحكمة والحكماء.
ـ جواهر العلوم.
ـ أصل العالم.
ـ جمال العالم.
ـ نظام العالم والأمم.
ـ سوانح الجوهري.
ـ الفرائد الجوهرية في الطرق النحوية.
ـ بهجة العلوم في الفلسفة العربية وموازنتها بالعلوم العصرية.
ـ التربية للحكيم الألماني كانت.
وفاته
توفي الشيخ طنطاوي جوهري في 12 يناير سنة 1940
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا