الشاعر طاهر أبو فاشا (1908 ـ 1989) شاعر غنائي كبير.. يعرفه كل عربي على أنه أبرز مَنْ تفوقوا في إعداد الشعر و النثر للإذاعة والتليفزيون، ولولا أن خلفاءه في هذا المجال لم يبلغوا ما حققه هو من تجويد لكان هو بمثابة رأس مدرسة متميزة في الشعر الوظيفي أو الموظف لوسائل الإعلام الحديثة، لكنه ظل علي كل حال بمثابة كوكب سيار لايزال يبحث عمن يدور في فلكه من أقمار.
كان الشاعر طاهر أبو فاشا أيضا قاصا، وباحثا، وكاتبا دراميا، وكاتب رحلات، وفقيها في اللغة، ومحيطا بأسرارها ودقائقها، كما كان محدثا بارعا من طراز فريد لا يمل الجلوس معه والاستماع إليه، وكان، كما وصفه صديق عمره الشاعر الكبير عبد العليم عيسي، «يستهوي السامعين بظرفه، ولطافة نفسه، وبحكاياته ونوادره، وبطرفه وأماليحه، تسعفه في ذلك بديهة حاضرة، ونفس رحبة، وذاكرة واعية، وذكاء حاد».
نال الشاعر طاهر أبو فاشا كثيرا من التقدير والتكريم الذي هو أهله، وقد منح جائزة الدولة التقديرية في الآداب (1988) في سنة من السنوات القليلة التي تشرفت فيها الجائزة بالشعراء، وقد سبقه إليها من الشعراء عزيز أباظة، وأحمد رامي، وصلاح عبد الصبور، وكان ترتيبه التاسع والثلاثين بين مَنْ حصلوا على التقديرية .
ولد الشاعر طاهر أبو فاشا في مدينة دمياط في عام 1908، وتلقي تعليما دينيا تقليديا في الكتّاب ثم في الأزهر، ودرس المرحلة الابتدائية منه في دمياط، والثانوية في الزقازيق، والتحق بكلية دار العلوم، وتخرج فيها 1939، و في بعض المصادر أنه تخرج 1940، وفي الحالين فقد تخرج كبيرا في السن ناضجا مجربا ذا مكانة في الحياة العامة والثقافية .
عرف الشاعر طاهر أبو فاشا كشاعر مجيد قبل تخرجه بكثير، فقد صدر ديوانه الأول «صورة الشباب» قبل تخرجه من الجامعة بثماني سنوات في مطلع عام 1932 حين كان في الرابعة والعشرين من عمره، قبل صدور الدواوين الأولي لإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل وغيرهم من شعراء الرومانسية الكبار.
ومن العجيب أن الشاعر طاهر أبو فاشا ترك العمل في مجال التعليم، إذ أن تقدير موهبة أبو فاشا كان قد هيأ له منذ ما قبل الثورة وظائف أخري بعيدة عن العمل بالتدريس أيضا، فقد عمل في وزارة الأوقاف سكرتيراً برلمانياً لوزيرها إبراهيم دسوقي باشا اباظة الذي كان معجبا به وراعيا لموهبته ثم انتقل الى العمل في مصلحة البريد ثم الى العمل في الشئون المعنوية في القوات المسلحة، وقد تم هذا الانتقال علي يد صديقه حمدي عاشور الذي كان من ضباط الثورة وعين مديراً للشئون المعنوية، ورأي الاستعانة به في هذا المجال، وقد ظل طيلة الأعوام العشرين الأخيرة من خدمته الوظيفية في هذا العمل (1953 ـ 1973).
مجده الإذاعي والتلفزيوني
بدأ الشاعر طاهر أبو فاشا تعاونه مع الإذاعة من خلال معرفته بالإذاعي الكبير محمد فتحي، ثم استأنف هذا التعاون مع جيل الرواد: عبد الوهاب يوسف، وحافظ عبد الوهاب، ومحمد محمود شعبان، ثم مع مبدعي الدراما الإذاعية: السيد بدير، ويوسف الحطاب، ومحمود السباع، ومحمد توفيق، وديمتري لوقا، وأنور المشري وغيرهم.
وقد كتب الشاعر طاهر أبو فاشا مئات البرامج التمثيلية والغنائية التي أعطته شهرة لم يحظ بها شاعر غيره، وجعلته معروفا حتي علي المستوي الجماهيري أكثر من رفاق جيله من شعراء جماعة أدباء العروبة من أمثال: أحمد مخيمر، وأحمد عبد المجيد الغزالي، والعوضي الوكيل، وإبراهيم ناجي نفسه..
وقد حظيت البرامج التمثيلية والغنائية التي أعدها الشاعر طاهر أبو فاشا بأكبر نسبة من إقبال قلوب المستمعين وحب عقولهم، ولعل أشهرها حلقات «ألف ليلة وليلة» التي أخرجها الأستاذ محمد محمود شعبان و التي تمكن أبو فاشا بموهبته الفذة من أن يحولها إلي شبه ملحمة، وأن يقدم منها 800 حلقة أذيعت عبر سنوات متصلة، يروي أنها زادت علي ربع القرن، وكانت الإذاعة حريصة علي أن تفسح لها ساعات الذروة في إرسالها.
وكما كتب الشاعر طاهر أبو فاشا هذه الحلقات لإذاعة القاهرة، فإنه كتب «ألف يوم ويوم» لإذاعة الكويت في 600 حلقة، وهو أمر غير مشهور، وقد كتب بصفة شبه سنوية سلسلة «أعياد الحصاد» التي قدم من خلالها عشرات الصور الغنائية التي تتناول كل ما تنتجه أرضنا الطيبة.
وعندما بدأ التليفزيون إرساله (1960) كان نشاط الشاعر طاهر أبو فاشا من أبرز المعالم الأدبية والثقافية للتليفزيون ، وقد كتب للتليفزيون مجموعة متميزة من التمثيليات والبرامج الغنائية، وقد طورت حلقات «ألف ليلة وليلة» نفسها لتكون صالحة للتقديم التليفزيوني.
أما أبرز ما بقي لأبي فاشا من غنائياته في الإذاعة مع «ألف ليلة وليلة» فهو قصائده الجميلة التي غنتها السيدة أم كلثوم في أوبريت «رابعة العدوية»، وهي القصائد التي لحن بعضها الفنانان رياض السنباطي، ومحمد الموجي (1955)، وقد شدت له السيدة أم كلثوم في خلال ذلك العام (1955) بست قصائد من تأليفه، وفي عام 1959 غنت له أيضاً قصيدة وطنية تحية لجيش مصر.
ويذكر أن الشاعر طاهر أبو فاشا حاول تكرار تجربته لهذا الأوبريت مع السيدة أم كلثوم من خلال كلمات أوبريت جديد كتبه خصيصا لها تحت عنوان «سميراميس»، وبتدخل شخصي، علي حد روايته، من الرئيس جمال عبد الناصر.
وقد استقر في يقين الجماهير أن أشعار الشاعر طاهر أبو فاشا الصوفية التي غنتها السيدة أم كلثوم تفوق بمراحل أي شعر آخر في هذا الميدان كما أنها تفوق بالطبع ما اشتهر في وقت من الأوقات من أشعاره الوطنية الجيدة التي كانت درة في جبين عصر ١٩٥٢ ، ومن الممتع أن نتأمل سريعا في قصائد أبي فاشا التي غنتها السيدة أم كلثوم في فيلم «رابعة العدوية»
في قصيدة «أحبك حبين» التي غنتها السيدة أم كلثوم من ألحان الفنان رياض السنباطي باسم «عرفت الهوى» يعبر أبو فاشا عن تجليات الحب المطلق للذات الإلهية، وتعدد صور هذا الحب، واستغراقه لكل عاطفة الشاعر وهو يبني قصيدة علي أبيات شهيرة لرابعة العدوية و يستكمل الابيات فيقول:
عرفت الهوى مذ عرفت هواكا وأغلـــقت قلــبي عمـن عداكا
وقمــت أناجــيك يــا مـــن تــري الـقـلـــــــــوب ولـســــنـا نراكا
أحـــبك حبــــين.. حــب الهوى وحـــبــا لأنــــــك أهــــــــــلا لذاكا
فـــــأما الـــذي هــو حـب الهوى فشغــلي بذكــرك عمـــــن سواكا
وأمـا الـذي أنــــت أهــل لــه فكشفك لي الحـجب حتي أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكــن لك الحمــــد في ذا وذاكا
أحــــبك حبــين.. حـــب الهوى وحــــبا لأنـــــــك أهـــــــــل لــــذاكا
وأشتاق شوقين.. شوق النوي وشوقا لقرب الخطي من حماكا
فـأما الذي هـو شـــــوق النوي فمســري الدمــــــوع لطــول نواكا
وفي قصيدة «في بحار الندم» التي غنتها السيدة أم كلثوم من ألحان الفنان رياض السنباطي أيضا يعبر أبو فاشا عن طبيعة النفس اللوامة التي تسعي إلي رضا خالقها والتكفير عن ذنوبها، ويصل بهذا التعبير إلي ذروة عالية لا تتأتي إلا لمن جرب الفناء الحقيقي في حبه لخالقه، وقد غيرت السيدة أم كلثوم عنوان القصيدة واختارت لها مطلع البيت الأول كعادتها دائما:
علي عيني بكـت عيني علي روحي جنت روحي
هــــواك وبعـد ما بيني وبينـــك ســــــر تبـريحي
علي عيني علي روحي فيـــا غوثاه.. يا غـــوثاه
……………………..
وفي ثالث قصائد الشاعر طاهر أبو فاشا في هذا الأوبريت «يا صحبة الراح» والتي غنتها السيدة أم كلثوم من ألحان الفنان رياض السنباطي أيضا يعبر أبو فاشا باقتدار شديد عن امتزاج الحب الإلهي بالمعاني الدنيوية التي يعبر عنها الشعراء بصحبة الندامى والكأس.. ويسمو الشاعر طاهر أبو فاشا بالتعبير عن هذه الماديات سموا صوفيا لا حدود له وذلك حيث يقول:
يــــا صـحـبـــــــــــة الــراح أهــل الــراح هــــــل حـــــــانوا
وهـل تغـــنت عـلي أيامها ألحان صبا الندامي وما في الحان ألحان
في كأس عمري بقايا مَنْ يشاربني ومَــــنْ يطارحــــني والعيــــش ريحان
من الطريف أن مقالات كثيرة استدركت على من جمعوا أغاني السيدة أم كلثوم وفي مقدمتهم الفنان سليم سحاب أنهم نسوا قصيدة “غريب على باب الرجاء والتي غنتها السيدة أم كلثوم و وضع ألحانها الموسيقار كمال الطويل ، والحقيقة أن السيدة أم كلثوم باسم مطلعها لغــــيرك ما مـــددت يدا .وفي هذه القصيدة يصل الشاعر طاهر أبو فاشا إلى حالة من التجلي في تعبيره عن إيمانه المطلق بأن الإيمان بالله هو الملاذ الوحيد الذي آمن صاحبنا به، وعمل في نطاقه:
لغــــيرك ما مـــددت يدا وغيرك لا يفيض ندي
وليــس يضيق بابـــك بي فكيف ترد مَنْ قصدا
وركنـــك لم يزل صمـــدا فكيف تذود مَنْ وردا
ولطفك يا خفي اللطف إن عادي الزمان عدا
علي قلــبي وضعت يدا ونحوك قد مددت يدا
ويقدم الشاعر طاهر أبو فاشا في هذه القصيدة تعبيرا فنيا جميلا وموحيا عن معاني التوبة والعودة إلي الله في قصيدة «عروس السماء» التي غنتها السيدة أم كلثوم ولحنها الفنان محمد الموجي، والتي عرفت بمطلعها «أوقدوا الشموس»، وفيها يقول أبو فاشا::
كورس:
أوقدوا الشموس انقروا الدفو
موكب العروس في السما يطوف
والمني قطوف انقروا الدفوف
رابعة:
الرضا والنور والصبايا الحور
والهوا يدور
آن للغريب أن يري حماه
يومه القريب شاطئ الحياة
والمني قطوف في السما تطوف
انقروا الدفوف
طاف بالسلام طائف السلام
يوقظ النيام
عهده الوثيق واحة النجاة
أول الطريق هو منتهاه
والمني قطوف في السما تطوف
انقروا الدفوف
وفي قصيدة «حانة الأقدار» التي لحنها الفنان محمد الموجي للسيدة أم كلثوم تتجلي قدرة الشاعر طاهر أبو فاشا علي التعبير عن تراسل المعاني الحسية مع المعنويات في التعبير عن حال الإنسان في حيرته المتجددة بين الماديات، وبحثه عن حقيقة الإيمان الراسخ في داخله:
سألت عن الحب أهل الهوى سقاة الدموع ندامي الجــــوي
فقــالوا حنـــانك من شجـــوه ومــــن جـــــده بـــــك أو لهـــــــوه
ومـــن كــــدر الليـل أو صفوه سل الطير إن شئت عن شدوه
ففي شدوه همسات الهوى وبــرح الحنــين وشـــــرح الجـوي
يولي النقاد أهمية قصوي لدواوين أبو فاشا التي صدرت في الثمانينيات حتي إن فاروق شوشة يكاد يقول إن أهم دواوين الشاعر طاهر أبو فاشا علي الإطلاق هي دواوينه الثلاثة الأخيرة: «راهب الليل» (1983)، الذي صدر بعد ديوانه الثالث بخمسة وثلاثين عاما، وديوان «الليالي» (1986)، ثم ديوانه السادس والأخير «دموع لا تجف» (1987)
محنته في شيخوخته
ابتلي الشاعر طاهر أبو فاشا في شيخوخته بأصعب ما يبتلي به الإنسان الشاعر، إذ فجع برحيل أكبر أبنائه (فيصل)، الذي كان يري فيه امتدادا لشاعريته، ونبوغه الأدبي، وهو يقول في رثائه:
«كم ذا ألاقي من الأيام يا ولدي ولا أراك إذا يوما مددت يدي
خوفي عليك وخوفي منك يملؤني رعبا من اليوم موصولا برعب غد
هذا الذي كنت أرجوه ليحملني فصرت أحمله شيخا بلا جلد»
ويعتقد كثيرون أن فجيعة أبو فاشا في زوجه ثم في ابنه هي التي جعلته يعود للشعر ويتوقف عن الكتابة الإذاعية. ولاشك في أن ديوانيه الأخيرين «الليالي» و«دموع لا تجف» يضمان بكائيات نادرة، حافلة بالتعبير الصادق المتألق عن حالة شعرية نادرة . وهو من الشعراء الذين وقفوا دواوين كاملة علي رحيل زوجاتهم: عزيز أباظة، وعبد الرحمن صدقي، ومحمد رجب البيومي .
وقد عبر الشاعر طاهر أبو فاشا عن نفسيته التي وجدت ملاذها في الشعر في أبيات جميلة اختارها لتكون بمثابة تقديم ديوانه «الليالي» وفيها يقول:
«ما أشبه الشاعر في غمرته بممسك الخنجر من شفرته
يذود بالمقبض عن حوزته يدمي فلا يدمي سوى قبضته
ما أرحم الشعر علي قسوته
ويفيض الشاعر طاهر أبو فاشا في الحديث عما يجده من أثر الليالي في نفسه فيقول:
والليالي بعد هذا
أنا منها وهي مني
اسألوني أنا عنها
واسألوها هي عني
بعد أن جاوزت سبعين وما زلت أُغني»
لم يزل قلبي أخضر
وفي قصيدة «الليالي» التي اتخذ من اسمها عنوانا للديوان يحدث الشاعر طاهر أبو فاشا نفسه بحب وحدب وزهو وهو يتأسى فيقول :
«جف عودي
غير أني لم يزل قلبي أخضر
في خريف العمر يصبو
والهوى شيء مقدر
إن يكن في صفوه معني لطيف
أو يكن في روضه ظل وريف
فتباريح الهوى شيء عنيف
ومخيف
وأنا شيخ ضعيف
يتصباه جمال الروح والحس الرهيف
ونديم لا أري فيه سوي روح شفيف»
حنينه إلى دمياط
ومن الطريف أننا نري في مطالعتنا لهذا الديوان صفحة كاملة حرص الشاعر علي أن يخصصها لبيت واحد يبدو، لأول وهلة، وكأنه يعبر عن أساه لفراق زوجته حيث يقول:
كلما هاجني الحنين إلي لقـ ـياك أغمضت مقلتي لأراك
بيد أننا نجد هذا البيت نفسه ضمن قصيدته التالية التي عنوانها «دمياط»، وهي القصيدة التي يتحدث فيها عن بلده بشوق شديد حين قدر له أن يزورها في 1968 بدعوة من صديق عمره حمدي عاشور الذي كان محافظاً للإسكندرية والقاهرة، ومن قبل محافظا لدمياط:
«قربت بلدتي ، وأرسلت طرفي عابراً في ضفافها والسهول
فإذا النهر ينثني في دلال مثل «نون» أو كالسوار الجميل
وإذا المصنع العتيد وراء الشط رمز لكل معني جليل
يوم قالت دمياط : كلا .. وسارت خلف حمدي إلى اقتحام السبيل
●
هذه يا رفاق دمياط تزهو في شموخ علي ضفاف النيل
مرحبا مرحبا بمَنْ ملأت قلبي .. وعقلي بكل معني نبيل
والتي ألهبت خيالي فغنيت .. اعترافا لأهلها بالجميل
…………………………
…………………………
هذه الأرض أطلعت بسماتي وسقتها حتي ارتوت عبراتي
رحل الذوق والجمال إليها وتغنت بصبحها أمسياتي»
عاش الشاعر طاهر أبو فاشا حياته إنسانا نبيلا، وشاعرا ومثقفاً، وكان يجيد التعبير عن مشاعره الإنسانية والعقلية في قصائد متنوعة يكتبها عندما ينفعل بالأحداث وكأنه يكتبها لنفسه، وعلي سبيل المثال فإنه لما أخرجت إحدى شركات السينما حياة «إميل زولا» في فيلم صور شخصية «زولا» فيه الممثل العظيم «بول موني»، وعرض الفيلم في إحدى دور السينما بالقاهرة في الأربعينيات كتب أبو فاشا يعبر عن انفعاله بهذه التجربة الفنية الجميلة وما ذكرته به من حقائق التاريخ فقال:
«حلم ذاك أم تهاويل جنِّ أي سحر رأيته أي فن
استعاد الزمان بالأمس «زولا» طرب الدهر فاستعاد المغني»
… وبعد أبيات كثيرة في هذا المعني الجميل يتحدث الشاعر طاهر أبو فاشا مخاطبا الفنان بول موني الذي أدي دور الأديب الفرنسي الكبير زولا فيقول:
«وضع الفن فوق وجهك وجهاً ترك البعث من معاني الفن
لو رآه «زولا» لظن أضاة (أي مرآة) مثلته فكان من نسختين
قوة فوق ما تشاء افتنانا ومني فوق منية المتمني
ليس مَنْ يدرك الخلود بأُذنٍ مثل مَنْ يبصر الخلود بعين»
ينظر النقاد والمثقفون إلي الشاعر طاهر أبو فاشا علي أنه من أبرز الشعراء الدرعميين المجيدين، وإن لم يكن مثل هذا المصطلح شائعاً ومستنداً إلي خلفية نقدية، لكن شعر أبو فاشا يعبر عن مهارة الصناعة، وقوة اللغة، والقدرة علي توظيفها، والوعي بالتاريخ العربي والإسلامي، والاتساق مع روح الحضارة العربية، وفضلاً عن هذا ، فإن شعر أبو فاشا بالذات يجمع بين اتجاهي العصر (رومانسية أبوللو، وتأملية مدرسة الديوان)، كما أن فيه ملامح واضحة من أصول الماضي والتراث وصورهما.
كان الشاعر طاهر أبو فاشا بحكم طباعه وحياته، وانطلاق دوره، قادرا علي الوفاء للإخوانيات بحقها من الشعر، ومن الإخوانيات التي أبدع فيها الشاعر طاهر أبو فاشا نقتطف هذه الأبيات الجميلة التي أنشدها في تهنئة الأستاذ ثروت أباظة بحصوله علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وهي أبيات جميلة في تعبيرها عن شخصيتي المادح والممدوح معاً:
«وعرفت ثروت يومها في ذلك الوادي الخصيب
متفردا كأبيه فهو فتي نجيب وكذاك ثروت من بعيد أو قريب
فهو الحبيب ابن الحبيب وهو المعلم والطبيب
والكاتب الموهوب ذو القلم النزيه ومغربل الأفكار ذو الرأي الوجيه
كلف بتصوير النفوس يغوص في أعماقها … ويري بها ما دق فيما يجتنيه
فتري الحياة ترفّ فيما يرتئيه
وتكاد تقفز من خلال سطوره وتدب فيه تكاد تلمس في شمائله مواجد قارئيه»
قصيدته في السيدة أم كلثوم
وقد خلد الشاعر طاهر أبو فاشا ذكري الفنانة السيدة أم كلثوم بشعر جميل متميز، وقد كتب في ذكراها الأولي:
كوكب الشرق لم يغب إنه الخلد والبقاء
وسيبقي هتافه عند عشاقه عزاء
كلما رن صوته أذن الحب والصفاء
فهو مازال بيننا دأبه البذل والعطاء
ملحمة سيناء
وللأستاذ الشاعر طاهر أبو فاشا شعر وطني رائع، ومن قصيدته «ملحمة سيناء» نورد للقارئ مقطعها الأخير:
سلام علي رملها ما رمل
سلام علي بدرها ما اكتمل
وما حل في ليلها أو رحل
وما مال ميزانها أو عدل
وما جد مقدارها أو هزل
سلام عليها منار الزمان
وأغلي مثال وأعلي مثل
الجيش
وفي القصيدة الوطنية المؤثرة التي غنتها السيدة أم كلثوم من الحان السنباطي بعنوان «الجيش» يقول الشاعر طاهر أبو فاشا:
سلوا عين جالوت عن أمسه سلوا أرض سيناء عن بأسه
إذا صــرح الهـــول عن نفسه وكـــبر للمــــــــوت مَــنْ كـــبرا
ونادي إلي الله أسد الشري كــذلك جيشـــك في عـزمه
دمـــاء حلال وأرض حــرام سلام علي الجيش في يومه
وفي كل يوم عليه السلام
دمَعَاتُ الهوى بورد الخدودِ قطراتُ النَّدى بخَدِّ الورودِ!
منظرٌ يأخذ العقولَ ويسبي من عيون الهَجود كُحْلَ الهُجود!
يا دموعًا يذوب فيها فؤادي! مَنْ لِصَبٍّ متيَّمٍ مَعمود؟؟
شاردِ اللب، ذاهلٍ – ليس يدري كيف يدري! – معذّبٍ، مَفْؤود
يا عيونًا تُذيب قلبي دموعًا فيقول الهُيام هل من مزيد؟
علّميني معنى الحنان فإني لأراه في دمعِكِ المنضود
وأريني دمْعَ السيوف أُريها أدْمُعَ القلب، أيْ دموع الغمود
أنتِ أغلى عليّ من نور عينَيْـ يَ، وروحي، ومُهجتي، ووجودي
لحظةٌ بين باعِثيك حياةً من مُنًى، أو تعلُّلٍ، ووعود
من قصيدة المقبرة
بحرٌ تلاطَمَ موجُه وعُبابُهُ وسجَى وأغطشَ ليلُه وضبابهُ
وقف البِلى في شاطئيه مشمِّرًا ولكل وحشٍ في البسيطة غابه
يتلقّف الموتى وَهَتْ أسبابهم طولَ الحياة، وما وَهَتْ أسبابه
يتواكبون إليه لا مَلِكٌ ولا عبدٌ، ولكنْ هالكٌ وكتابه
سَوَّى الحِمامُ هناك بين رؤوسِهم مَلِكٌ يقيم على الملوك ترابه
وأظن أني يومَ أمضي هالكًا ترك الخليلَ وفاتَه أصحابُه
أختال في ملك الردى متعاظمًا! أيضيقُ بي مثلَ الحياة جنابه؟
ذقتُ الردى قبل الردى وعَرَكْتُه وعرفت أن شجى الحياة حسابه
بحرٌ تدافعتِ المنون بلُجِّه ومشى القضاء الجهْمُ في شطآنِهِ
نشَرَ الوجومُ به قلاعَ سفينةٍ ومضى بها القدر المحيط لشانِه
تعوي الرياحُ به نياحةَ ثاكلٍ أو محنةً نزلت على ذؤبانه
ذابت به النيرانُ فهْي مياهُه أو حُمَّتِ الأمواه من نيرانه
هولٌ غَلى دمُه وجُنَّ بلاؤه رقصتْ بنا الدنيا على بركانه
وكأنني بالدهر جُنَّ جنونه فسعى إليه على مُتون زمانه
تلك القبور وإن بدتْ في صمتِها كالأبكم المعقوفِ من أشجانه
تلقى الجحيم بقلبه، ولسانه كالسيف لا يزهوك في جِرِبّانه
لو أُلهِم التُّرْبُ التكلُّمَ مرةً مسح الشكوكَ عن النُّهى ببيانه
أمدينةَ الموتى ثراك يرُوعُني ويَرُوع قلبًا يفهم الآلاما
إني نثرتُ على ثراك خواطري وصحبتُ أهلَك قانتًا قوّاما
والحزنُ يصقل نفسَ صاحبه كما خرج الحديدُ من اللهيب حُساما!
كان الدكتور محمد غلاب أستاذ الفلسفة الشهير ورئيس تحرير مجلة «النهضة الفكرية» قد قدم لديوانه الأول، وقد لفت النظر في مقدمته إلي وجود صلة قوية تتخللها بعض الفروق بين شعر الشاعر طاهر أبو فاشا وشعر بودلير الشاعر الفرنسي المعروف، مع ثقته من أن الشاعر طاهر أبو فاشا لم يقرأ لبودلير شيئا، وفي هذا المعنى قال الدكتور غلاب:
«ولكن يظهر أنها الموهبة السماوية التي لا يستطيع أحد أن يجد لها سببا ولا تعليلا، لكن هذه الصلة تستوجب تهنئة هذا الشاعر الشاب الذي نؤمل له مستقبلا عظيما في حياة الشعر العصري المحترم».
كذلك أشار الدكتور محمد غلاب إلي تأثر الشاعر طاهر أبو فاشا بأبي العلاء المعري، وعمر الخيام، في قصائده التي تفيض بالشك، وتطفح بالحيرة والارتباك والتساؤل، وأشار إلي أن قصيدته الفلسفية «حدثوني»، قصيدة «متينة في معانيها، رصينة في أسلوبها، بديعة في خيالها، تعطينا فكرة واضحة عن صاحبها من حيث قدرته علي تصوير الحيرة في نفس الفيلسوف الشكاك!».
كان من حظ أبو فاشا المبكر أن شاعر القطرين خليل مطران قدم لديوانه الثاني وعبر عن رأيه المبكر في موهبته ووصفه بأنه شاعر لاريب فيه، ومفكر جريء، كما وصفه بأنه «مجدد من طراز الذين لا يفوتهم حسن الصوغ، وجمال الديباجة، في غير موضوع من قصائده غربة وطرافة، يرقي به نشاط الذهن إلي الابتكار، وهو يذهب بخياله مذاهب بعيدة شائقة، حتي إنه يبدو لقارئه أحيانا وكأنه ينظم بفطرته في ثورة لا تري للضوابط المسنونة حقا عليه في الرعاية».
أما الشاعر طاهر أبو فاشا نفسه فقد كان حريصاً بعدما بلغ المجد علي أن يصف نفسه بأنه شاعر جنت عليه الإذاعة، وقد آثر فاروق شوشة في مقاله عنه أن يسجل أن أبو فاشا هجر الشعر الصافي هجرا غير حميد بين عامي 1938 و1983، وآثر شوشة أن يتكئ علي جوهر هذا العنوان في وصف شخصيته، باعتباره الوصف الذي أطلقه الشاعر طاهر أبو فاشا علي نفسه في مقام تفسيره لانقطاعه عن الشعر إبداعا ونشرا قرابة خمسة وأربعين عاما، باستثناء بعض البرامج الإذاعية ذات الطبيعة الدرامية والغنائية التي كانت تتطلب بعض المقطوعات الشعرية (تكتب لتغني)، وبعض الأناشيد الوطنية والقومية التي شارك بها في مناسبات مختلفة.
ذكرنا من قبل أن ديوانه الأول «صورة الشباب» صدر في مطلع عام 1932 وقد أظهر هذا الديوان الأول أن أبو فاشا يتمتع، علي حد تعبير فاروق شوشة، بموهبة شعرية أصيلة، ولغة شعرية متميزة، وعالم جديد من الرؤي والتجارب و المواقف، اكتملت من خلال سمات شاعر جديد يقتحم الساحة ويفرض اسمه علي المجتمع الثقافي، والواقع الأدبي.
ثم تلا صدور ديوانه الأول صدور ديوانيه الثاني والثالث «القيثارة السارية» (1934)، و«الأشواك» (1938)، وسرعان ما توقف أبو فاشا عن الإبداع الغنائي، وانشغل بتوظيف الشعر للدراما والتاريخ،
دراساته الأدبية
أصدر الشاعر طاهر أبو فاشا عددا من الدراسات الأدبية والنقدية التي كان قادراً علي التميز فيها وفي منهجها ومحتواها، وذلك بحكم تفوق معطيات شخصيته الأدبية والثقافية السامقة، ومن هذه الكتب دراسة عن «العشق الإلهي»، ودراسة «الذين أدركتهم حُرفة الأدب» (والحرفة بضم الميم هي الاحتياج الشديد والفاقة والعوز)، و«هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف».
وإلي الشاعر طاهر أبو فاشا يعود الفضل في تحقيق مقامات بيرم التونسي، وهو دليل علي مدي إكباره و وفائه للسابقين عليه.
أما كتابه «وراء تمثال الحرية» فينتمي انتماء مميزا إلي أدب الرحلات، وكان قد كتبه عن رحلة قام بها هو وزوجه لزيارة ابنته في أمريكا، واصفاً مشاهداته بطريقة شفافة بعيداً عن التقعر والتفذلك، وقد مضي في رواية أحداثه علي نهج سلس جميل ومتواصل.
وهو علي سبيل المثال يصف حلقة السمك في نيويورك فيقول:
«والناس يمرون بين هذه الممرات، ويستعرضون منصات السمك علي الجانبين، ويقرءون الأسعار المكتوبة، فإذا راقهم شيء فليس أكثر من تحديد الكمية المطلوبة: هات من هذا النوع عشرة أرطال.. لا يسألون عن الثمن، فهو مكتوب، ولا يماكسون (يفاصلون) فيه فهو محدد».
«أنواع كثيرة من السمك لا عهد لي بأكثرها».
«وأستعرضها بنظرة فاحصة وأنا أمر بين منصاتها علي جانبي كل طريق.. من العجب أن البوري هو أرخصها.. فهم لا يعرفون الطريقة التي نشوي بها السمك في «الفرن البلدي»، وليس عندهم بطبيعة الحال مثل هذه الأفران، والبوري لا يجود إلا مشويا، كما أنهم لا يعرفون طرق طهي السمك الأخري التي نجيدها نحن سكان السواحل المصرية».
«أكوام من السمك مختلفة الأنواع والأشكال والحجوم، وأكثرها لا عهد لي به ـ كما أقول ـ وأخذتني الحيرة وأنا أستعرض هذه الأنواع التي لا أعرفها، ولا عهد لنا بها، فماذا نشتري؟ وماذا نترك؟».
«خطرت ببالي نصيحة الشيخ يوسف الشربيني التي أوردها في كتابه العجيب «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» عندما تكلم عن اختيار أطايب الأسماك حيث يقول: «كل مما تفلس: أي مما يكون علي جلده فلوس.. والفلوس هي القشر الذي يغطي جلد بعض الأسماك كالبوري، والجران، أما ما تلمس: أي السمك الأملس الأملط الذي لا تغطي جلده هذه الفلوس كالقراميط والشيلان، فدعك منه».
القائمة الموجزة بآثاره:
«صورة الشباب»، 1928.
«الأشواك»، 1932.
«القيثارة السارية»، 1938.
«راهب الليل» 1983.
«الليالي»، 1986.
«دموع لا تجف»، 1987.
الدراسات الأدبية والنقدية.
العشق الإلهي.
الذين أدركتهم حُرفة الأدب
هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف.
الرحلات
وراء تمثال الحرية.
«عشرون يومًا في روما» – 1958
كتب في الشئون المعنوية
الجمهورية العربية المتحدة بعد عشر سنوات
«في معركة المصير العربي» – 1963
«أيام وأحداث»: 1958
«قصة الســـد العالـــي»
«الجلاء مـن الألف إلى الياء»
قصة ميناء دمياط
الأعمال التليفزيونية:
«ألف ليلة وليلة».
«ألف يوم ويوم».
الأعمال الكاملة
صدرت بعد رحيله بتقديم الكاتب ثروت أباظة 1992
توفي الشاعر طاهر أبو فاشا في 12 مايو 1989.
أعد الاستاذ عبد الله عبدالحليم رسالة ماجستير في كلية دار العلوم جامعة القاهرة 1993بعنوان طاهر أبو فاشا حياته وشعره. و أعد الاستاذ عزت عبد الرحمن رسالة ماجستير في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بعنوان طاهر أبو فاشا شاعرًا
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا