كان من فضل الله علي أنني أدركت، وأنا في بداية الفتوة، بعضا من تلاميذ الشيخ على عقل وأصهاره من قبل أن أعرف معنى الصوفية والطرق، فلما عرفت الصوفية والطرق، استحضرت ما عرفت من نصوص شعرية جميلة لمدرسة هذا الشاعر العظيم وصهره الشيخ الحلواني، ثم كان أحد أساتذتي في المرحلة الإعدادية مقربا من أقطاب هذه المدرسة، فازددت معرفة به، فلله الفضل والمنة. الشيخ علي عقل (1894 ـ 1948) هو أبرز الشعراء الصوفيين في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وهو أحد فحول عصره في التصوف، والعلوم الشرعية، والسيرة المحمدية.
نشأته وتدينه
ولد الشيخ علي عقل في سنة 1894 ببلدة بساط، في مديرية الدقهلية، من عائلة عريقة الحسب والنسب، لأبوين كريمين من أغنياء الريف، وكان من بيت العمودية، وقد كف بصره بعد ميلاده، فوهبه والده للقرآن وعلوم الدين، فحفظ القرآن صغيراً، وحفظ بعض متون القراءات، ثم أرسله والده للأزهر الشريف ليتعلم القراءات فأجادها قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، ثم عاد إلي بلده وأقام بها، وعرف عنه أنه كان يحب أن يجالس أهل المروءة والفضل، كما عرف بصواب الرأي و حسن المشورة، ولهذا فقد روي أنه كان مقدما علي أقرانه من أفراد أسرته عند عمه العمدة، وكان أعمامه لا يبرمون أمراً إلا بمشورته.
وقد روي الشيخ علي عقل عن نفسه أنه في شبابه كان يجادل الفقهاء في عدم تعففهم عن الدنيا، وكان يعتذر عن هذا بعد أن تقدمت به السن بأنه لو كان في شظف من العيش مثلهم ما نظر إليهم هذه النظرة غير المنصفة، كما روي الشيخ علي عقل عن نفسه أنه كان لا يحب أيضاً أهل الطريق، وكان السبب في هذا أن معظم مَنْ كانوا يزورون قريته من هؤلاء كانوا أدعياء علي غير بينة ولا علم، ومع هذا فقد نشأ الشيخ علي عقل ناسكاً متعبداً ويتنفل بقراءة القرآن حالاً ومرتحلاً، وحبب إليه أن يقوم بالأذان وقراءة قصائد المديح النبوي التي كان يحفظها في ذلك الوقت قبل الفجر وكان يؤديها علي المئذنة بصوت عذب. ثم إنه على طريقة المتصوفة أخذ العهد علي الشيخ أحمد عبد السلام الحلواني، ووصف حاله بعدها بقوله:
كان نظم الشيخ علي عقل للشعر الصوفي فريداً في تفوقه، إذ لم يستطع أحد أن يباريه في ارتجال الشعر بهذه السرعة، وهذه القوة مهما كان مطبوعاً على الشعر، مع غزارة المعاني، وطول النفس في النظم
«ما إن أخذت العهد حتي حُبب إلي الذكر، وما أكثرت من الذكر حتي أحببت شيخي حباً كنت لا أطيق معه البعد عنه، فلما قابلته ثانية شكوت له حالي، وبثثته شوقي، فقال: أنت مني وأنا منك ، فتعال إلي منزلي وعش معي، فاستأذنت أهلي وألحقت نفسي به قرير العين، جذلان، أسهر في الذكر طول الليل، وأنام بعد الفجر، فإذا استيقظت من نومي حضر هو من عمله ثم استمر يقرأ لي كتب والده الشيخ أحمد الحلواني كمواكب ربيع في مولد الشفيع، والدر الشارق، ولمع البارق، وغيرها من كتبه النافعة، ثم قرأ لي قصائده ومدائحه، وقرأ لي كتب الحديث والفقه، فإذا هجم الليل التفتنا للذكر إلي أن قال لي ذات ليلة غنّ من الفيض الإلهي ما يجري علي لسانك، فانطلق لساني كأني أقرأ سطورا نقشت علي فؤادي، أو أقرأ من كتاب مفتوح». ثم انتقل الشيخ علي عقل حسب روايته إلى صحبة الشيخ أبي خليل في الزقازيق ولازمه في سياحاته التي كان يزور فيها تلاميذه، وكان يحضر الليالي التي كان يحييها أتباعه احتفالاً بمقدم الشيخ. واستمر الشيخ علي عقل ملازماً للشيخ أبي خليل إلي سنة 1920، ثم عاد إلى ملازمة أستاذه أحمد الحلواني إلي أن انتقل إلى رحمة الله.
صفاته الشخصية
كان الشيخ علي عقل متواضعاً، جم الأدب، لا يحب التكلف والمتكلفين، كثير الدعابة، حريصاً على أن يروح عن الناس همومهم، وكان يتبسط للناس حتى لا يملوا العبادة ومجالس الصالحين، وقد أنعم الله عليه بصوت جميل، وكان يقرأ القرآن الكريم في عذوبة وكمال أداء، لكنه لم يكن يأخذ على ذلك أجرا، وعاش متعففاً زاهداً في الدنيا لم يجمع شيئاً من المال.
إمامته لمسجد المواساة
عين الشيخ علي عقل إماماً لمسجد المواساة بالإسكندرية منذ إنشائه، وكان يخطب الجمعة، ويتصدر للتدريس، وكانت حلقته على الدوام حافلة بالعلماء والطلاب والوجهاء يتلقون عنه العلم النافع، والتصوف الذي صفت موارده، كما كان يلقي دروساً خاصة في السنّة المحمدية والقراءات.
شعره الصوفي
كان نظم الشيخ علي عقل للشعر الصوفي فريداً في تفوقه، إذ لم يستطع أحد أن يباريه في ارتجال الشعر بهذه السرعة، وهذه القوة مهما كان مطبوعاً على الشعر، مع غزارة المعاني، وطول النفس في النظم. كان الشيخ علي عقل ينشد في مجالس الذكر أمام جميع الناس على اختلاف تعليمهم ومراتبهم ارتجالاً سريعاً فيض الخاطر، أي أنه كان يقول الشعر على نحو ما نخطب بالنثر غير المنظوم، ويقال إنه اشتهر بهذه الموهبة حتى حير عقول الفصحاء والبلغاء والعلماء، وكان يطلب منه تخميس أو تشطير أي بيت في وسط الجمع الحافل فيشطره أو يخمسه، ويقول عليه قصيدة فوراً لا يتلعثم فيها، ووصف بأنه ” إذا ما تواجد (أي دخل في مرحلة الوجد) زاد الفيض على قلبه وجناته، فقليلا ما يستطيع السمع لحاقه. وكان شعره حافلاً بآيات الفصاحة والبلاغة والبديع وعدم الإغراب.
وقد تميز الشيخ علي عقل عن غيره من الشعراء الصوفيين بأنه يكره التشبيب والنسيب وكل يعتمد عليه الشعراء في التدليل على قدرتهم على إجادة الشعر وتقريبه لذوق السامعين الذين يطربون من الغزل. وفي رأيي المتواضع، فإني ما رأيت شعرا حفل بالموسيقى الداخلية والخارجية على حد سواء مثلما رأيت في شعر الشيخ علي عقل.
شهادة الدكتور عبد الوهاب عزام
وصف الدكتور عبد الوهاب بك عزام عميد كلية الآداب شعر الشيخ علي عقل بأنه يدل «على أن الشعر الصوفي الذي عرفناه في تاريخنا البعيد والقريب، لا يزال حتى اليوم شائعاً يترجم عن النفس الإنسانية، ويحاول الإبانة عما في سرائرها، والإعراب عما لا يمكن الإعراب عنه من الشعور الرباني الذي لا يحد، والنفحات الإلهية التي لا تحيط بها الألفاظ، ولا تقوي عليها العبارات».
فهمه للتصوف
كان شعر الشيخ علي عقل بعيداً عن الإغراب أو الشطح الذي يجافي الكتاب والسنّة في ظاهره حتى لا يكون مثار التأويل الذي لا يطابق مشاهدات المتواجد، ويوقع في الحيرة، وليس فيه منفعة للمسلمين لأنه يكون حالاً اختص به صاحبه وهو مسئول به أمام ربه. وقد أجاد الشيخ علي عقل التعبير عن فهمه للتصوف، وإيمانه بالقيم الإيمانية العليا حيث قال في افتتاحية ديوانه الإلهام:
قتلت هوي نفسي فعشتُ بلا نفس وجافيتُ أنسي فانحدرت إلى الأنس
ولم أبد أمري للعباد فطالما كتمت الذي ألقي عن الجن والإنس
وأدركت بالوجدان سر أحبتي وعاينت آيات اليقين بلا لبس
وعشت زماني لست أحفل بالوري وكيف وقلبي هام في مشهد القدس
وعلمت غيري ما أفدت من الهدي فلم يبق ذو فهم لدي على طمس
إذا وسد الناس القبور فإنني جعلت التقي والذكر بين الوري رمسي
ولم أخش من بأس ولم أخش طاغيا ومن يخش ذات الله لم يرب من بأس
وهل غير ذات الله للنفس مطلب حرام سوي الرحمن يدخل في نفسي
وتوجت بالقرآن نفسي عقيدة أصون به نفســي عن الزيغ والدس
وما اتخذت روحي سوي الله غاية فتم الهدي للـروح والقلب والحس
وإن شرب الناس الطلا وتصببوا فسـنة خير الخلق في شربها كأسي
وإن رفع المثرون عجبا رءوسهم رفعت بذكر الله فوق الوري رأسي
لم يمدح إلا الرسول عليه الصلاة والسلام
وكذلك كان شعره خالياً من المدح والهجاء إلا ما يتقرب به إلي الله من مدح سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام، وعن هذا المعنى عبر الشيخ علي عقل في شعره بوضوح حيث يقول:
إن المحــبة في الحـــيا ء مـع الوقــار بها نهذب
فاحفظ عليك وقار قلـ ـبك إنه الذخــر المحبب
وانهض علي علم وسر بالصدق حتى لا تكذب
إلى أن قال:
ما كنت في الشعرا بالـ ـمعــروف فيمــن قد تصبب
أرضي الخيال ولست أر ضي فــيه غـرضـــاً ومطلب
أنشــدتـه للســـامـعـ ـين هدي من الإيمان تسكب
لا أعتني بزخارف الأقـ ـــوال أو مـــا كـان أكذب
بـل كل قـولي في موا هبــه الذكـــية وهي أصوب
لســت الذي جهل المبا لـــغة التي بالشـــعر أنسب
نطــقت بـلاغتنـا بأنـ ـنا في سـنا الرحمن نرغب
فبـذكـره يســـمو خيا ل الشــعر فينا وهو أعذب
سيطرة الوجد الصوفي عليه
وفي قصيدة بعنوان «لم تطعني على البكاء عيوني» يعبر الشيخ علي عقل عن أسمى المعاني الروحية التي تمكنت من نفسه الشاعرة ومن نفسه العابدة على حد سواء وهو يقول:
لم تطعني على البكاء عيوني فاعـــذروني إذا حبــست الدموعا
لم أجد للدموع أية جدوى قد أذاب الغــــرام مــني الجميعا
قد توجهت المهيمن وحدي ثـم أججـــت بالغــرام الضلوعا
راق شربي ولذلي ذلة القلـ ـب وأحببت في حماه الخضوعا
كلــما للأمور فتشت يوما لـم أجــد غـير شـــرعه ينبوعا
قيل لي بع بغيره قلت كلا لسوي الله مهجتي لن أبيعا
يا أخا الذكر لا نمل لسواه أنا أوصيك للوري لن تطيعا
قصيدته الجميلة أستغفر الله إلا من محبّته
أبدع الشيخ علي عقل في وصف الحب الإلهي، ومقامات أهل الشهود، ومراتب السلوك، وخفايا النفس وأمراضها، وتكلم عن الروح ومسالكها بغزارة وقوة وإكثار لم يعلم عن أحد غيره، وساق هذه الأغراض في شعره في قصائد كثيرة تدور في معانيها حول المعاني الصوفية بصياغات متعددة، وبأوزان متعددة، وقوافي مختلفة. وهذه قصيدة صادقة التعبير عن مواهب هذا الشاعر العظيم الشيخ علي عقل في التعبير عن الزهد والأحوال والمقامات والوجد في محبة الله تعالى ورسوله والتجليات والنفحات الإلهية، وطلب المغفرة:
أستغفر الله إلا من محبَّتهِ
فإنّها حسناتي يوم ألقاهُ
أستغفر الله إلا من محبته
يا فوزَ مَن في الورى يحيا بنجواه
الحبّ يُكسبني عزّي ويُلبسني
ثوبَ الوقار ويهديني للُقياه
وما المحبّةُ قولٌ قد نزخرفُهُ
بلِ المحبةُ قلبٌ قد وُهِبْناه
أُمسي على أرقٍ، أشتاق في حُرقٍ
بالدمع في غَرقٍ، قصدي محيّاه
ما رَدَّ ربُّك عبدًا عن موارده
وهل يَردّ كريمٌ مَن ترجّاه
وإن أراد إلهي بامرئٍ شرفًا
يرى المحبّة مبناه ومعناه
طال المدى وفُؤادي لا يفارقه
والحبّ إن طال تُذْكينا حُمَيَّاه
والحزم في الأمر أن تسعى وتعبدَه
والصدق في القلب يَهدينا لرؤياه
قلْ للمحبّ إذا زاد اليقين به
صبرًا فحسبُك باسم الله تَرعاه
إذا أُصِبتَ بناسٍ لا خلاقَ لهم
فصُدّ عنهم على صدقٍ وقلْ يا هو
إنّا أولو الحقّ ما ضلَّت عقائدُنا
لكنّنا من جَنَى التَّقوى جَنَيْناه
أرواحُنا قال فيها الحقُّ من قِدَمٍ
هاهمْ عبادي وإنّ المقصِدَ الله
لا أنثني عن هواه لحظةً أبدًا
وكيف أسلو وقلبي بيتُ جدواه
فتّشتُ أعماليَ الحسنى فوا أَسفي
لم ألقَ من حَسنٍ يُدني لعُقباه
هجرتُ كلّ مَرامٍ غيرَ رحمته
فإنّها حسناتي يومَ ألقاه
وفاته
توفي الشيخ علي عقل يوم 24 مارس سنة 1948 وكان قد مكث ينشد في مجلس الذكر إلى الهزيع الأخير من الليل، ثم استمر ساهراً ذاكراً إلى أن حضرته صلاة الفجر فصلي، ثم تلا بعض القرآن كعادته، ثم قام إلى سرير نومه، ثم فاضت روحه الشريفة إلى بارئها.
مقامه
دفن الشيخ علي عقل في الإسكندرية وله فيها مقام يزار.
آثاره
– «ديوان الإلهام» نشر عام 1959، نشره تلميذه الشيخ أحمد عبد السلام الحلواني، كما ضمنه بأكمله في كتابه «السمو الروحي في الأدب الصوفي». قصائد ضِمن كتابَيْ: «الرسالة الوفية في الردّ على منكري الصوفية» و«شاعر الأولياء».
– قصائد صوفية كثيرة منها:
– «شرح لمذهب المتصوفة في التفاني في حب الله»
– و«المغفرة»
– و«أرواحنا فوق السماء»
– و«أدخلوني في الحكمة الميدانا»
– و«جعلت هدي الرحمن كل حصوني»
– و«المصطفي مازال يعلو قدره»
– و«وإن يقولوا بأن الحب معصية»
– و«الناس لا بدرون»
– و«لكن ادينا المحبة والذكر»
– و«أفق فإن أولي الألباب قد عبروا»
– و«نحن نحكي بالعلم في كل ناد»
– و«لذة الحب في لقاء الحبيب»
دراسات عنه
صدر كتاب السمو الروحي في الأدب الصوفي في طبعة جيدة عن مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة 1948. وكتب عنه الشيخ أحمد عبد المنعم عبد السلام الحلواني في كتابه الإيمان والروح 1947. وكتب عنه الاستاذ حسن كامل الملطاوي وكيل وزارة المالية كتابا بعنوان: “شاعر الأولياء الشيخ علي عقل رضي الله عنه”، مطبعة السعادة ، القاهرة 1968، كما كتب عنه الأستاذ عبد العليم القباني “علي عقل شاعر التلقائية الصوفية”.