الشيخ أحمد محمد شاكر (1892 – 1958) هو عمدة المحققين بلا منازع، وهو الذي بلغ في تحقيق نصوص التراث منزلة سامية سامقة ينسب إليها الآخرون فتقول عن ألمع من فيهم من باب المديح، إنه يقترب في مستواه العالي من الشيخ أحمد شاكر، وهو واسطة العقد بين والده العلامة الشيخ محمد شاكر١٨٦٦-١٩٣٩ وأخيه الأصغر الشيخ الأستاذ محمود شاكر ١٩٠٩- ١٩٩٧، وبلغة المكانة والوظيفة فإنه لم يصل أحد من العلماء إلى ما وصل إليه الشيخ أحمد شاكر من التفوق الساحق في ميداني القضاء والتحقيق، فقد بلغ الذروة في الميدانين مبكرًا واستمر مستويا على القمة حتى توفي، ومع أن شقيقه الأصغر الأستاذ محمود ترك من بصمته في الأستاذية ما جعل اسمه في موضع رفيع، ومع أن والدهما الشيخ محمد شاكر ترك من بصمة العمادة والقيادة الأزهرية ما جعل اسمه في أرفع مكان، فإن الشيخ أحمد شاكر احتفظ بمقعد أرسخ في ميدان القضاء، فقد جمع هذا العالم الجليل بين العمل بالقضاء في أعلى مراتبه، وتحقيق النصوص على أدق وجه.
الشيخ أحمد محمد شاكر بلا شك واحد من أعظم علماء الإسلام في القرن العشرين، وبلغة العلم الديني فإنه واحد من أبرز المحدثين الكلاسيكيين ذلك أنه لم يترك متحدثًا إلا تقرب إليه وتعلم على يديه، وكان هذا مؤهلًا له فيما بعد لأن يستقل بمذهب في علم الحديث، وما من محدث جاء بعده إلا وأثنى عليه، وإليه على سبيل المثال يرجع الفضل في تحقيق مسند الإمام ابن حنبل على سعته وشموله وتعدد أجزائه، وعدد كبير من أمهات كتب التفسير والحديث والفقه والأدب. أما عن نسبه فهو من آل أبي علياء، وينتهي نسبه إلى الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم. وقد سماه أبوه أحمد شمس الأئمة أبا الأشبال.
ولد الشيخ أحمد شاكر في 29 يناير سنة 1892 في القاهرة، وكان والده الشيخ محمد شاكر حينذاك يعمل أمينًا للفتوى، مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي مفتي الديار المصرية وقتئذ، وقد نقل الشيخ الأب قاضيًا للقضاة بالسودان (1900) عقب انتهاء الثورة المهدية، وانتقل معه ابنه أحمد، حيث التحق بكلية جوردون، واستمر يدرس بها حتى عاد والده إلى مصر لتولي مشيخة علماء الإسكندرية (1904)، وهو ثاني أرفع مناصب الأزهر الشريف، فالتحق الشيخ أحمد شاكر بمعهد الإسكندرية الديني الذي أصبح والده شيخًا له، ولم يكن هذا المعهد في حقيقة الأمر إلا نواة جامعة إقليمية على نحو ما فصلنا القول في موضع آخر، وفي سنة 1909 انتقل الوالد الشيخ محمد شاكر ليكون وكيلًا للأزهر، وليكون أيضا بمثابة القائم بأعمال المشيخة في أوقات كثيرة، فانتظم ابنه أحمد في الدراسة بالأزهر حتى حصل على شهادة العالمية (1917)، طبقًا لنظام ذلك العصر.
وكان لعناية والده بعلوم الحديث النبوي أثرها في توجه الشيخ أحمد شاكر إلى التعمق في هذا العلم، وقد ساعدته ظروفه على أن ينمي هوايته وموهبته، وعلى تتعدد أدواته ومصادره، كما أتاح له بيت العلم الذي نشأ فيه أن يأخذ كل ما هو ممكن على العديد من شيوخ العلم، وقد نقلنا ما روي من أنه لم يترك محدثًا معاصرًا له إلا تقرب إليه وتعلم على يديه. وعلى سبيل المثال، فإنه قرأ على أبيه في الإسكندرية تفسير البغوي، وتفسير النسفي، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، والشمائل المحمدية للترمذي، وجزءًا من صحيح البخاري، و«جمع الجوامع» في أصول الفقه، وشرح الإسنوي على المنهاج، وكتاب «الهداية» في فقه الحنفية.
كما درس في الأزهر على الشيخ محمود أبو دقيقة في الفقه وأصوله، والتقي بالشيخ أحمد الشنقيطي فأجازه بجميع علمه. وأخذ عن الشيخ عبد الله إدريس السنوسي عالم المغرب ومحدثها جل صحيح البخاري، وأجازه برواية البخاري وبقية الكتب الستة. ولقي الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي عندما زار مصر ولزمه، وأخذ منه توجهه السلفي ونبذ التعصب. وفيما بعد علق الشيخ أحمد شاكر على رسالة القاسمي عن المسح على الجوربين، كما لقي الشيخ طاهر الجزائري عالم الشام الرحالة. ولقي الشيخ الإمام محمد رشيد رضا.
خلاصة القول فيما استقر في كل الكتابات التي تولت التعريف بالشيخ أحمد شاكر «أنه لم يترك متحدثًا إلا تقرب إليه وتعلم على يديه»، وكان هذا مؤهلًا له فيما بعد لأن يستقل بمذهب بارز في علم الحديث. وقد توجه عمله الدائب والدقيق عميدًا لمحققي الحديث والسنة، حتى إن كل محدث جاء بعده أثنى عليه، كالشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وعلماء الهند، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمد حامد الفقي، وهم مجمعون على فضله في علم الحديث وأصول الفقه. ولم يقف الاعتراف بفضله عند المشتغلين بعلوم الحديث، فقد أثني عليه علماء الشريعة، وأثنى عليه علماء اللغة وأدباءها، وأشادت معاهد المخطوطات العربية والإسلامية بفضله وجهده في نشر المخطوطات، وتحقيقها تحقيقا متقنا، ووضع الفهارس وتنظيمها والعناية بها وإخراجها في الصورة التي ينبغي أن تخرج عليها كنوز التراث الإسلامي.
في مستوى الوظيفة، فقد كان من حظ الشيخ أحمد شاكر أن يبدأ وظائفه بالتدريس لمدة قصيرة حفظت له شرف الأستاذية المبكرة، فقد عين بعد حصوله على الشهادة العالمية من الأزهر الشريف مدرسًا بمدرسة عثمان ماهر (وكانت مدرسة نموذجية ذات طابع خاص مرتبطة بالأزهر الشريف وعلومه)، وهي المدرسة التي تولى الأستاذ أحمد الحملاوي نظارتها لفترة طويلة. لكنه بعد أربعة أشهر فقط انتقل للعمل بالقضاء وقد عين موظفا قضائيا، ثم قضى بقية حياته متدرجًا في وظائف القضاء الشرعي حتى أصبح عضوًا في المحكمة الشرعية العليا، ووصل سن التقاعد في يناير 1952 وهو رئيس للمحكمة العليا الشرعية وهو أعلى مناصب القضاء الشرعي. وطيلة خدمته في سلك القضاء، كانت للشيخ أحمد شاكر أحكام مشهورة في القضاء الشرعي قضي فيها باجتهاده غير مقلد ولا متبع، لكنه لم ينقطع خلال ذلك عن دراساته وتحقيقاته العلمية في التراث الإسلامي. وعلى الرغم من نشاطه الضخم في التحقيق والقضاء، إلا أنه تصدي بجرأة وشجاعة لكثير من القضايا التي شهدها عصره، فقد كان هو من تولى الرد على عبد العزيز فهمي في اقتراحه الداعي لكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، وطبع رده في كتاب «الشرع والفقه».
امتد نشاط الشيخ أحمد شاكر في تحقيق الأصول والنصوص إلى فروع كثيرة، وامتد إلى نصوص فقهية من مذاهب مختلفة، ومع أنه كان حنفيًا، فإنه هو الذي حقق كتاب الرسالة للإمام الشافعي، كما حقق نصوصًا كثيرة من النصوص الأمهات في الفقه الحنبلي.. ولم يكن هذا غريبًا على أنداده من الأفذاذ، بيد أن تفوقه كان لافتًا للنظر. ويمكن لنا أن نلخص جهد الشيخ أحمد شاكر في مجال التحقيق، بالإشارة إلى أنه قام بكثير من التحقيقات المنفردة.. وأعظم أعماله وأخلدها هو تحقيقه «مسند الإمام أحمد» نشر منه خمسة عشر جزءا (1946 ـ 1958)، وقد كان عمله هذا فتحًا في عالم تحقيق التراث، فقد كان تحقيقه هذا المسند مصدر أمل ومبعث شكوى كبار المحدثين، مما جعل الحافظ الذهبي نفسه يقول: «ولعل الله تبارك وتعالى أن يقيِّض لهذا الديوان السامي من يخدمه ويرتبه».
كذلك حقق الشيخ أحمد شاكر مجموعة من الكتب المرتبطة بمسند الإمام أحمد بن حنبل منها:
ـ «المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد» لابن الجزري (1946).
ـ «خصائص مسند الإمام أحمد» لأبي يوسف المديني نشر الجزء الأول (1946).
وإليه يعود الفضل في تحقيق كتاب «مفتاح كنوز السنة»، الذي وضعه المستشرق المشهور فنسنك، بعد أن ترجمه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي (1934).
ولم يكن مسند الإمام أحمد بن حنبل بمثابة كتاب الحديث الوحيد الذي حققه الشيخ أحمد شاكر، فقد حقق:
ـ «سنن الترمذي»، وقد طبع منه جزءان وأكمله الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي (1937).
ـ «الأربعون النووية» للإمام النووي (1954).
ـ «ألفية السيوطي في علم الحديث» (1934).
ـ «الباعث الحثيث شرح مختصر علوم الحديث» للحافظ بن كثير (1937).
ـ «صحيح ابن حبان» بترتيب الفاسي طبع الجزء الأول منه فقط (1952).
ـ «ألفية العراقي في مصطلح الحديث» للعراقي (1954).
ـ «مختصر سنن أبي داود» للمنذري، بالاشتراك مع الشيخ محمد حامد الفقي.
ـ حقق الشيخ أحمد شاكر بالاشتراك مع أخيه الشيخ محمود: «تفسير الجلالين» (1954)، و«تفسير الطبري» ابتداء من سنة 1955، وقد ظهر منه حتى وفاته سنة 1958 عشرة مجلدات.
ـ «جامع البيان في تفسير القرآن» لمعين الدين محمد الإيجي الصفوني (1936).
ـ كما حقق من «عمدة التفسير» اختصار تفسير ابن كثير خمسة أجزاء فقط (1956 ـ 1958).
ـ «منجد المقرئين ومرشد الطالبين» لابن الجزري (1932).
ـ «هداية المستفيد في أحكام التجويد» للشيخ أبي ريمة (1954).
ـ «إحكام الأحكام.. شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد.
ـ «الروض المربع (في فقه الإمام أحمد بن حنبل) لابن صلاح الدين (1954).
ـ «نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر» لابن حجر العسقلاني (1954).
ـ «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (1928 ـ 1930).
ـ «أخصر المختصرات في فقه الإمام أحمد بن حنبل» (1954).
ـ «الخراج» ليحيى بن آدم القرشي (1930).
ـ «الرسالة» للشافعي (1940).
ـ «جماع العلم» للإمام الشافعي.
ـ «الروضة الندية شرح الدرر البهية» لصديق حسن خان (1307 هـ).
ـ «صفة نهي النبي ﷺ» (1940).
«العمدة في الأحكام (في أحاديث الأحكام) لعبد الغني المقدسي (1954).
ـ «فتوى في إبطال وقف الجنف والإثم» لمحمد بن عبد الوهاب (1953).
ـ «قواعد الأصول ومعاقد الفصول»، وهو مختصر تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل لصفي الدين أبو الفضائل البغدادي الحنبلي.
ـ «المحلى» لابن حزم الأجزاء الستة الأولى (1929).
ـ «مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل» (1954).
ـ «المسح على الجوربين» للقاسمي (1979).
ـ «ترجمة الإمام أحمد بن حنبل» للذهبي (1954).
ـ «رسالة في شروط الصلاة» لمحمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ «الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ «الرسالة التدمرية» لابن تيمية (1954).
ـ «عقيد أهل السنّة والجماعة» لابن الجوزي (1954).
ـ «العقيدة الواسطية» لمحمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ «الفتوي الحموية الكبرى» لابن تيمية (1954).
ـ «القواعد الأربع» لمحمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ «كتاب التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ «لمعة الاعتقاد» لابن قدامة المقدسي (1954).
ـ «المناظرة في العقيدة الواسطية» لمحمد بن عبد الوهاب (1954).
ـ حقق الجزأين الثاني والثالث من «الكامل في الأدب» للمبرد (1937 ـ 1938)، ومن الجدير بالذكر أن الدكتور زكي مبارك كان هو الذي حقق الجزء الأول.
ـ «لباب الآداب» للأمير أسامة بن منقذ (1953).
ـ «المعَّرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم» لأبي منصور الجواليقي (1942)، ويتضمن هذا الكتاب شرحا كاملا للنص المحقق.
ـ «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (1948).
ـ «جوامع السيرة لابن حزم» (1956).
ـ «نسب قريش للمصعب الزبيري» (1953).
ـ «إصلاح المنطق لابن السكيت» (1949).
ـ «الأصمعيات للأصمعي» (1955).
ـ «المفضليات» للضبي (1952).
وعلى الرغم من أن طبيعة نشأته وعمله وعلمه كانت تجعل كل همه منصرفًا إلى التحقيق، إلا أنه ترك عددًا من المؤلفات المهمة والقيمة في مجال عمله بالشريعة والقضاء، ومن هذه المؤلفات:
ـ «الشرع واللغة» (1944).
ـ «الكتاب والسنّة يجب أن يكونا مصدر القوانين» (1408هـ).
ـ «أبحاث في أحكام «وهو كتاب في الفقه والقضاء والقانون» (1941).
ـ «كلمة الفصل في قتل مدمني الخمر» (1951).
ـ «مذكرة في قضية المحرومين وإبطال شروط الواقفين» (1953).
ـ «نظام الطلاق في الإسلام» (1936)، ولم يتقيد في كتابه هذا بمذهب من المذاهب.
على أن من أفضل أعماله ما كتبه عن سيرة والده: «محمد شاكر من أعلام العصر» (1953).
توفي الشيخ أحمد شاكر في 14 يونيو سنة 1958.