الرئيسية / المكتبة الصحفية / قصيدة علي #الجارم في مئوية إبراهيم باشا

قصيدة علي #الجارم في مئوية إبراهيم باشا

ربما جاز القول بأن قصيدة الشاعر على الجارم ١٨٨١-١٩٤٩ البائية في مئوية إبراهيم باشا ١٧٨٩- ١٨٤٨ التي حملت عنوان “إبراهيم بطل الشرق” هي أفضل قصيدة تذكارية نظمها شاعر في حكام أسرة محمد علي، نقصد بكلمة تذكارية انها قصيدة أنشئت بعد ان تحول “المرثي” أو “الممدوح” بمرور السنين إلى ذكرى، ونحن نعرف ان هذه القصيدة نظمت بعد مائة عام من وفاة إبراهيم باشا، ومن ثم فإن حجاب المعاصرة قد زال، كما أن محتواها الموضوعي كان لا بد ان يتناول فلسفة ما لما بقي أثره رغم مضي الأيام، وبقدر ما يمثل هذا صعوبة على شاعر الرثاء فإنه في الوقت نفسه يُتيح له أن يصوغ الرثاء على طريقة الصناعة المعملية الخالية من إجهاد الزمن أو إلحاح الوقت.

هكذا يبدأ الشاعر علي الجارم قصيدته من البيت الأول بالإقرار المسلم تماماً بعظمة إبراهيم باشا في طموحه وعزمه! ويسارع الشاعر علي في البيت الثاني بالحديث عن طبيعة المجد، وما يقتضيه المجد من مغامرة ودوي وسعي إلى انتصار الراية وما يقود إليه هذا كله من الخلود الذي يرفع شأن صاحبه.. وهكذا يصل الشاعر علي الجارم في سهولة في البيت السابع والثامن إلى حكمه الجازم بخلود إبراهيم باشا وفضله على مصر ورفع شأنها بين الأمم.

طُموحٌ! وإلَّا ما صِراعُ الكتائبِ؟ / وعَزْمٌ! وإلَّا فيمَ حَثُّ الركَائبِ؟

إذا المجد لم يترك وراءَكَ صَيحةً / مُدَوِّيَةً، فالمجدُ أوهامُ كاذبِ

يخَوضُ الهمامُ العبقري بِعزمهِ / ظلامَ الفيافيِ في ظلامِ الغَياهبِ

وأرْوَعُ ما تهفو له العينُ رايةٌ / تُداعبها الأرواحُ في كَفِّ غَالبِ

وكم بَطلٍ في الأرضِ غابَ وذكرهُ / يُحلِّق في الآفاقِ ليسَ بغائبِ!

يُدوِّنُه الميلادُ بينَ لِداتِهِ / ويكتُبه التاريخُ بينَ الكواكبِ

وما مَاتَ من أبقى لمصر مجادةً / تُطاول أعنانَ السماءِ بغاربِ

حمَاهَا بعزمٍ لو رأَتْه قَواضبٌ / لأضحَى سناهُ حسرةً في القواضبِ

ثم هو يتساءل (في البيت التاسع) من قبيل التأكيد على ما ذهب إليه عمن حقق ما حققه إبراهيم باشا من البطولة رغم مواجهته صواعق المدافع بخطورتها وأصواتها الفظيعة؟ وهو يجيب في البيت الثاني عشر بأن ينصح من سألهم أن يسألوا مدينة عكا عن انتصار إبراهيم باشا الذي حقق فيها ما لم يُحققه نابليون من نصر مؤزر. وهو يقارن بين موقف عكا من إبراهيم باشا ومن بونابارت مقارنة حماسية رائعة في البيتين العشرين والحادي والعشرين فيجعل نابليون يفرُّ جبنا ويعاتب الأقدار، ولكن إبراهيم باشا يحقق الإنتصار بسهولة وكأنه يلعب.

 

ومن مثل إبراهيم إن حمي الوغَى / وأمطرت الأرضُ السماءَ بحاصبِ

صَواعِقُ تلقى للحتُوفِ صَواعقًا / وسُحْبٌ عُجَاج تلتقي بسحائبِ

وزمزمةٌ تُنسي الرعودَ هزيمَها / وتثقب آذانَ النجومِ الثواقبِ

سلُوا عنه «عكا» إنَّها إن تكلَّمتْ / معَاقلُها حدثتكُمْ بالعجائبِ

رماهَا بجيشٍ لو رمَى مشرِقَ الضُّحى / لفر حسيرَ الطرفِ نَحو المغاربِ

رماهَا فتى لا يعرف الشك رأيه / ويعرف بالإلهَام سرَّ العواقبِ

ممنعةٌ ما راضَها عزمُ قائدٍ / وعذراءُ لم تَظْفَرْ بها كَفُّ خَاطبِ

أتاهَا «بنوبارتٌ» يُداوي ندوبَهُ / وآبَ يصُك الوجه صَكّ النوادِبِ

أتاهَا يجُر الذَّيلَ في تيه واثقٍ / فعادَ يَجُر الذَّيلَ في خِزي خَائبِ

رآهَا وفي العنقودِ والكرم ما اشْتهَى / وأيْنَ من العنقُودِ أيدِي الثعالبِ؟

وكم وضَعت مِنْ إصْبعٍ فوقَ أنفها! / وكم غمزَتْ أسوارُهَا بالحواجبِ!

رأت فاتحَ الدنْيا يفرُّ جبانةً / ويُلْقِي على الأقدار نظرةَ عاتبِ

ولكنَّ إبراهيم في الروْعِ كوكبٌ / إذا انقضَّ فالآطام لُعبة لاعبِ

ويبدأ الشاعر علي الجارم في استعراض بطولات إبراهيم باشا في معاركه الشهيرة، فيذكر له نصره في معركة نصيبين على الأتراك والألمان رغم احمرار مخالبهم (وهي صورة طريفة الدلالة) ويصل في البيت الرابع والعشرين إلى أكثر أبيات الشعر حماسة في وصف معركة نصيبين حيث يصور ارتياع البوسفور وارتجاج العرش وصياح من يسميهم ذئاب الشر 

ويوم «نصيبين» التي قامَ حولها / بنُو التركِ والألمانُ حُمْرَ المخَالبِ

عَلاهَا فتى مصرٍ بضربةِ فيصلٍ / ولكنَّها للنصرِ ضربة لازبِ

فريعَ لها البوسفورُ وارتَج عرشُه / وصاحت ذَئابُ الشرِّ من كلِّ جانبِ

ثم يعبر الشاعر علي الجارم تعبيراً مبكراً جداً (في البيت السادس والعشرين) عما نسميه الآن بازدواج المعايير حيث يتساءل في استنكار: أيدعى سليل الشرق للشرق غاصبا / ومغتاله في الغرب ليس بغاصب؟ وهو يصف هذه السياسة القائمة على ازدواج المعايير بأنها سياسة حاقدة (في البيت السابع والعشرين). ويبالغ في ازدرائها بوصفها بأنها فاقت سموم العقارب ونفثات الأفاعي لكنه قبل هذا في البيت الخامس والعشرين يتحدث عن هذا المعنى بعبارات قريبة مما نسميه الآن بالجيوبوليتيكا فيقول: أبى الغرب ان تختال للشرق راية ملخصا بهذا السبب في وقوف الدول الغربية جميعا في مواجهة إبراهيم باشا.

أبى الغربُ أن تختَال للشرقِ رايةٌ / وأن يقفَ المسلوبُ في وجه سالبِ

أيُدْعَى سليلُ الشرقِ للشرق غَاصِبًا / ومغتالُه في الغربِ ليسَ بغاصبِ؟

سياسةُ حِقْدٍ أيَن من نفثاتِهَا / لعاب الأفَاعِي أو سموم العقاربِ

وبعد كل هذا الفخر بإبراهيم باشا ينتقل الشاعر علي الجارم بدءاً من البيت الثامن والعشرين إلى نبرة الأسى على ما لاقاه إبراهيم باشا، بعد أن مهد لدعوى الأسى بالأبيات الثلاثة السابقة، وهو يقدم الأعذار بالنيابة عن إبراهيم باشا فيزعم أن أعداءه انتصروا عليه بالدهاء لا بالسيف. وهو يعود ليفخر بإبراهيم باشا في البيت الحادي والثلاثين فيطلق عليه لقب عزيزاً لو عرفه إبراهيم باشا أو علم به واستطاع أن يقوم من مرقده لوثب وثباً، فقد سمّاه الجارم بحامي القبلتين، فجعله بهذا اللقب موازيا للقب السلطان العثماني الذي استخدم منذ عهد السلطان سليم الأول: خادم الحرمين.

 

ويبدأ الشاعر علي الجارم في البيت الثاني والثلاثين في الحديث عن إبراهيم باشا بوصفه زعيما للقومية العربية، وهي أول أبيات صريحة (وربما متجاوزة للحقيقة في هذا المعنى) ولولا أن ثورة 1952 في مصر لم تكن تحب أحدا من الأسلاف ولم تكن تشيد إلا بزعيمها لأخذت هذه الأبيات لتجعلها ميثاق القومية العربية التي نادت بها، لكن النية الزائفة منعت الاستفادة المتاحة. وما بالنا بهذه الابيات التي تخلو من ذكر إبراهيم بالاسم بما يجعلها صالحة لأي زعيم قومي عربي بعده حين يقرر الشاعر علي الجارم بكل وضوح بدءاً من البيت الحادي والثلاثين ان طموح هذا الزعيم العربي يمتد ليصل إلى أي موضع ينطق بالعربية: فقال إلى أن تنتهي الضاد انتهى، بل إن البيت التالي (وهو البيت السادس والثلاثون) كان أنسب بيت في التعبير عن مزاعم الرئيس جمال عبد الناصر أو أوهام جهاز دعايته القوي: لقد زهيت مصر بباعث شعبها:

حنَانًا لإبراهيم لاقى كتائِبًا / من الكيدِ لم تَعْرِف نضَالَ الكتائبِ

غزُوه بجيشٍ بالدهاء مُحارِبٌ / ولكنَّه بالسيف غير محاربِ

فما ليَّنُوا منه قناةً صليبةً / ولا كدَّرُوا من صفو تلك المناقبِ

عرفنا لحاميِ القبلتيْنِ جهادَهُ / وكَمْ هانَ مطلوبٌ لعزَّةِ طَالبِ

له العُرْبُ ألقت في إباءٍ زِمَامَها / وكانت سَرَابًا لا يُنالُ لشاربِ

فوحَّدهَا في دولةٍ عربيةٍ / تُزاحم في ركب العُلَا بالمناكبِ

يقولون: قِفْ بالجيش ماذَا تريدُه؟ / وماذا تُرجِّي من وَرَاء السباسب؟

فقالَ: إلى أَنْ تنتهي «الضادُ» أنتهي / وحيث تسيرُ العُرْبُ تسري نجائبِي

لقد زُهيت مصر بباعثِ شعبِها / لكسب المعَالي واقتناءِ الرغائبِ

وكَمْ كتبَ التاريخُ لابن محمدٍ / خَوالِدَ، والتاريخُ أصدَقُ كاتبِ

وكَمْ صانَ مصرًا من بنيه مملكٌ / بعيد منال العزمِ جَمَّ المطَالبِ

ومن الطريف ان الشاعر علي الجارم تذكر انه لا بد في القصيدة من بيت يربط بين الملك فاروق وبين جده إبراهيم باشا فختم القصيدة ببيتها الأخير الذي يسد هذا النقص سداً تقليديا ليس فيه حماسة القصيدة المتأججة.

شمائلُ «فاروقٍ» وعزَّةُ ملكِه ت/ َزِيدُ جَلالًا في جلال المناسبِ

 

 

 

 

 

 

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 
شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com