كان أحمد حشمت باشا (1858 ـ 1926) نائبا لرئيس لجنة الثلاثين التي وضعت دستور ١٩٢٣، وكان قبل هذا واحدا من أهم وزراء التعليم في مصر الحديثة، وهو في رأيي ثانيهم في الإنجاز بعد سلفه المباشر سعد زغلول، ذلك أن إنجازاته في التعليم (على نحم ما كتبت تاريخه) تجعله سابقا بمراحل على عدد من الوزراء العظماء ممن بولغ في تقدير قيمة أدائهم في هذه الوزارة.
وقد كان أحمد حشمت باشا من أصدقاء الشيخ محمد عبده، كما كان صديقا وراعيا لشاعر النيل حافظ إبراهيم، وهو الذي عينه وكيلا لدار الكتب، وقد رثاه حافظ إبراهيم بقصيدة من 34 بيتا، لم تنشر في الطبعة الأولي من ديوان حافظ، لكنها نشرت في الطبعة الثانية. وكان المجمعي العظيم الأستاذ إبراهيم الترزي قد صوب (في تعقيب له بمجلة الرسالة في ٤ أكتوبر ١٩٤٨) ما كان المجمعي الشهير الأستاذ احمد حافظ عوض قد رواه في مجلة المصور من أن الأستاذ الامام هو الذي الحق حافظ إبراهيم بالعمل في دار الكتب وقال الأستاذ الترزي الذي كان لا يزال طالبا في معهد الزقازيق الثانوي الأزهري انه عين في 14 مارس سنة 1911 بواسطة المغفور له أحمد حشمت باشا ناظر المعارف حينئذ.
يبدأ الشاعر حافظ إبراهيم بداية قوية يصور فيها سمعه وقد فقده، بسبب النبأ الرهيب الذي كانت له تأثيرات قاسية فقد حبس اللسان وأفقد السمع وأطلق الدمع، وسرعان ما ينتقل الشاعر العبقري في البيت الثاني إلى الحديث عن فضل حشمت باشا عليه وفي البيت الثالث يكرم الباشا المرثي بأن يقرن فضله بفضل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم يبدأ الشاعر حافظ إبراهيم في الرثاء لحال نفسه بعد فقده السند العظيم، وهو يصف حاله وصفا مؤثرا كعادته، فيد العلا مشلولة، والأنف مجدوعة، والمروءة مقفرة، والندى مستوحش:
حَبَسَ اللِسانَ وَأَطلَقَ الدَمعا ناعٍ أَصَمَّ بِنَعيِكَ السَمعا
لَكَ مِنَّةٌ قَد طَوَّقَت عُنُقي ما إِن أُريدُ لِطَوقِها نَزعا
ماتَ الإِمامُ وَكانَ لي كَنَفاً وَقَضَيتَ أَنتَ وَكُنتَ لي دِرعا
فَليَشمَتِ الحُسّادُ في رَجُلٍ أَمسَت مُناهُ وَأَصبَحَت صَرعى
وَلتَحمِلِ الأَيّامُ حَملَتَها غاضَ المَعينُ وَأَجدَبَ المَرعى
إِنّى أَرى مِن بَعدِهِ شَلَلاً بِيَدِ العُلا وَبِأَنفِها جَدعا
وَأَرى النَدى مُستَوحِشاً قَلِقاً وَأَرى المُروءَةَ أَقفَرَت رَبعا
يصف الشاعر حافظ إبراهيم بعض مناقب حشمت باشا بطريقته العبقرية في الوصف الشاعري المبرق الخاطف الحافل بالكنايات التقليدية والمجازات المستحدثة، فيتطرق بإشارات مضيئة إلى صنعه، وجميله، ومحامده المزدوجة، وكرمه:
قَد كانَ في الدُنيا أَبو حَسَنٍ يولي الجَميلَ وَيُحسِنُ الصُنعا
إِن جاءَ ذو جاهٍ بِمَحمَدَةٍ وَتراً شَآهُ بِمِثلِها شَفعا
فَإِذا نَظَرتَ إِلى أَنامِلِهِ تَندى حَسِبتَ بِكَفِّهِ نَبعا
ثم يلتفت الشاعر حافظ إبراهيم بطريقته الذكية، فيتوجه إلى مستمع له بالرجاء أن يسأله ليعترف له بأنه من صنائع حشمت باشا الذي امتد نفعه إلى المعارف واللغة العربية، ويردف هذا بأكثر أبيات القصيدة تعبيرا عن وفائه للرجل وهو البيت الثالث عشر الذي يعبر بنفس فولكلوري عن امتنانه العميق لحشمت باشا:
سَلني فَإِنّي مِن صَنائِعِهِ وَسَلِ المَعارِفَ كَم جَنَت نَفعا
قَد أَخصَبَت أُمُّ اللُغاتِ بِهِ خِصباً أَدَرَّ لِأَهلِها الضَرعا
تَاللَهِ لَولا أَن يُقالَ أَتى بِدعاً لَطُفتُ بِقَبرِهِ سَبعا
وينتقل الشاعر حافظ إبراهيم كعادته للحديث عن ضيقه بالحياة بعد فقدانه للأصدقاء وعونهم ومواجهته الشر وحيدا وإحساسه بنفاق من يعاملونه ويصل إلى وصف النفاق بطريقة عبقرية بديعية في البيت السابع عشر
قَد ضِقتُ ذَرعاً بِالحَياةِ وَمَن يَفقِد أَحِبَّتَهُ يَضِق ذَرعا
وَغَدَوتُ في بَلَدٍ تَكَنَّفَني فيهِ الشُرورُ وَلا أَرى دَفعا
كَم مِن صَديقٍ لي يُحاسِنُني وَكَأَنَّ تَحتَ ثِيابِهِ أَفعى
يَسعى فَيُخفي لينُ مَلمَسِهِ عَنّي مَسارِبَ حَيَّةٍ تَسعى
ويحمد الشاعر حافظ إبراهيم الله الذي أنقذه من محاولات أعدائه هدمه، بل و زاد في رفعته لأكنه سرعان ما يقرر في البيت التاسع عشر أنه أصبح لولا قدرته البيانية منفردا في مواجهة الجمع من أعدائه الذين يريدون تحطيم قلمه
كَم حاوَلَت هَدمي مَعاوِلُهُم وَأَبى الإِلَهُ فَزادَني رَفعا
أَصبَحتُ فَرداً لا يُناصِرُني غَيرُ البَيانِ وَأَصبَحوا جَمعا
وَمُناهُمُ أَن يَحطِموا بِيَدي قَلَماً أَثارَ عَلَيهِمُ النَقعا
ويمضي الشاعر حافظ إبراهيم ليؤكد على هذا المعنى ملتفتا إلى رثاء حشمت باشا بطريقة غير مباشرة فهو الذي كان يرعاه ويدفع عنه الكيد والمصائب ويقيله ويرفع من قدر وساطاته لمن يستحقونها بينما هو بطبعه الحر ضجر من نقد من لا يرقون إلى أقل نسبة له
وَلَرُبَّ حُرٍّ عابَهُ نَفَرٌ لا يَصلُحونَ لِنَعلِهِ شِسعا
مَن ذا يُواسيني وَيَكلَأُني في هَذِهِ الدُنيا وَمَن يَرعى
لا جاهَ يَحميني وَلا مَدَدٌ عَنّي يَرُدُّ الكَيدَ وَالقَذَعا
بِكَ كُنتُ أَدفَعُ كُلَّ عادِيَةٍ وَأُجيبُ في الجُلّى إِذا أُدعى
وَأُقيلُ عَثرَةَ كُلِّ مُبتَئِسٍ وَأَفي الحُقوقَ وَأُنجِحُ المَسعى
ثم يعود الشاعر حافظ إبراهيم ليتحدث عن اللحظة التي بلغه فيها نعي حشمت باشا وود لو أنه كان هومن نعي، كما يعود لتعداد مناقب حشمت باشا الذي لم يفرط في وده له ولا وصله وهو يخاطبه بأنه دوحة البر ذات الفروع ومنارة الفضل ناشرة النور ومثابة الرزق الذي لا يمتنع
حَتّى نَعى الناعي أَبا حَسَنٍ فَوَدَدتُ لَو كُنتُ الَّذي يُنعى
غيظُ العِداةُ فَحاوَلوا سَفَهاً مِنهُم لِحَبلِ وِدادِنا قَطعا
راموا لَهُ بَتّاً وَقَد حَمَلوا ظُلماً فَكانَ لِوَصلِهِ أَدعى
يا دَوحَةً لِلبَرِّ قَد نَشَرَت في كُلِّ صالِحَةٍ لَها فَرعا
وَمَنارَةً لِلفَضلِ قَد رُفِعَت فَوقَ الكَنانَةِ نورُها شَعّا
وَمَثابَةً لِلرِزقِ أَحمَدُها ما رَدَّ مِسكيناً وَلا دَعّا
ويختم الشاعر حافظ إبراهيم قصيدته الرائعة بثلاثة أبيات محبوكة الصياغة شديدة الأسر كما يقولون تعترف بالعجز وتؤمل في الوفاء لكنها مع هذا تعتذر بهول الأسى وتصدع القلب:
إِنّي رَثَيتُكَ وَالأَسى جَلَلٌ وَالحُزنُ يَصدَعُ مُهجَتي صَدعا
لا غَروَ إِن قَصَّرتُ فيكَ فَقَد جَلَّ المُصابُ وَجاوَزَ الوُسعا
سَأَفيكَ حَقَّك في الرِثاءِ كَما تَرضى إِذا لَم تُقدَرِ الرُجعى
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا