الأستاذ علي النجدي ناصف (1898 – 1982) هو آخر أساتذة النحو الكبار الذين أبدعوا في النقد الأدبي التقليدي والدراسات الأدبية على نحو رفيع، وهو يمثل نموذجًا للجمع بين أستاذيتي اللغة والأدب في المستوى الأعلى من الأستاذية، كما أنه نموذج فذ للإنسان الكامل علما وخلقا، ولا أذكر أني في حياتي كلها قد تتلمذت لأستاذ على هذا النمط من الهدوء والرقي في مصر ولا في خارج مصر، لا في الطب ولا في الأدب ولا في اللغة ولا في العلم ولا في الرياضيات ولا في الاقتصاد ولا في المعلومات ولا في غير ذلك.. كان وكأنه هو النسيم، بل ربما كان الأصدق أن نقول إنه كان بمثابة من نتصوره أن يكون الملاك الحي الوديع النشط. عرفت التلمذة على محاضراته منذ مطلع السبعينيات ثم كان هذا الأستاذ الجليل واحدا من الذين شرفوني بمنحي جائزة مجمع اللغة العربية في الأدب 1978، وكان لتقديره لي ولبحثي مذاق خاص ما أزال أحس بطعمه الباعث على النشوة، رغم مضي أكثر من أربعين عاما.
كان الأستاذ علي النجدي ناصف واحدًا من الذين يطلق عليهم لقب «الأستاذ» فحسب، ولا ينصرف اللقب إلا إليه إذا كان في مجموعة من النظراء. فقد كان من النوادر الذين دان لهم ميدانا الدراسات اللغوية والأدبية بنفس القدر من الإذعان والخضوع وأبدع فيهما محققًا ذروات رفيعة من الجودة والإتقان. كان عالمًا بالنحو وباحثا فيه على أرفع مستوى ممكن، وكان كذلك عالما بالأدب ونقده وباحثًا فيه على أرفع مستوى ممكن. وكانت صورته في الحياة العامة والأكاديمية انعكاسا لهذا العلم، فكان رفيقًا رقيقًا ضعيف الصوت، كما كان رقيق الحاشية، جامعًا كل أطراف الأدب الرفيع كما ينبغي أن يكون، كما كان أيضًا دقيقًا ملتزمًا متسقًا مرتبا، كما ينبغي للتفكير النحوي أن يكون.
أستاذيته في النحو واللغة
كان علمه بالنحو علم المتثبت الذي أدرك الصواب الحقيقي لا الصواب الذي يمكن إدراكه بالتأويل أو التفسير أو التضمين أو التحليل أو التشبيه، وكان علمه بالأدب نموذجًا لسعة الاطلاع، ودقة الشعور، ورهافة الحس النقدي. وبالإضافة إلى هذا كله كان في الصف الأول من محققي التراث، الذين قدموا لوطنهم وللغتهم خدمات جليلة. كان رقيقًا وراقيا في الوقت ذاته، وكان دقيقًا وحرفيا في الوقت ذاته أيضًا، وكانت شخصيته نادرة المثل ونادرة المثال كذلك.
يكفيني في التحيز لقيمته أن أشير من دراساته النحوية إلى دراساته المرجعية عن سيبويه إمام النحاة، وعن أبي الأسود الدؤلي، ولو أنه عني بهذا الجانب من الترجمة لعمداء النحو لاحتكر الكتابة عن أعلام النحو إلى أمد طويل.
ومن حسن الحظ أنه كتب كتابا في تاريخ النحو، وهكذا كان من رواد هذا المجال، وقد كتب أيضًا كتابًا عن بعض قضايا اللغة والنحو، وقدم فيه دراسة لجوانب ومشكلات لغوية لا تزال تستحق مزيدًا من الدرس والبحث، ومنها على سبيل المثال: قوالب التعبير، والإعراب وعلاقته بالمعني، والتأويل والتقدير في اللغة، والفصحي والعامية.
أتيحت للأستاذ علي النجدي ناصف فرصة نادرة في إبراز علمه اللغوي بطريقة فائقة في مناقشته لعلاقة القرآن الكريم والنحو، وقد كنت أعتقد في أن النحو كله موجود في القرآن الكريم، وأنه ليس من واجبنا أن نبحث عن النحو في خارج القرآن الكريم، فإذا بي أفاجأ بحججه القوية في خطأ هذه الفكرة من ناحية وفي تصويبها من ناحية أخرى. و قد قاد هذا الأستاذ الجليل مناقشة علمية متميزة حول هذه القضية مع الدكتور شوقي ضيف، وإذا بالدكتور شوقي ضيف نفسه يشير إلى تفوق الأستاذ علي النجدي في إدراك وجه الصواب في هذه القضية، وقد ضمّن هذا بحثه الذي تُلي في مؤتمر من مؤتمرات مجمع اللغة العربية بعنوان «بين القرآن والنحو».
وفي ذلك البحث ناقش الأستاذ علي النجدي دعوة قيلت تعليقا على محاضرة للدكتور شوقي ضيف عن تيسير النحو، مؤداها أن يعْتَمدَ في التيسير المنشود على نحوٍ يستمد من القرآن الكريم، ومع أن أي دعوة إلى عمل يقوم على أساس من الذكر الحكيم تقابل بالترحيب تيمنا بالقرآن وارتفاعا إلى أفقه الأعلى، فإن هذا الأستاذ الجليل ظل يدير هذه الدعوة في نفسه (على حد تعبير الدكتور شوقي)، حتى كتب بحثه الذي ألقاه في مؤتمر المجمع التالي، ملاحظا أن ضروبا من أساليب العربية لا يوجد لها نظائر في القرآن، والنحو إنما وضع لجميع أساليب العربية.
وأضاف الأستاذ علي النجدي أن لكتاب الله قراءات كثيرة يتنوع الخلاف بينها في حركات الإعراب وفي بنية الكلمة، بل إن قراءة واحدة من القراءات سبعية وغير سبعية قد يخالف صاحبها فيها نفسه، فيقرأ الحركة الإعرابية للكلمة في موضع أو مواضع بقراءة، ثم يغير حركتها في موضع أو مواضع أخرى، ويضرب لذلك مثلا الآية الكريمة: ﴿كن فيكون﴾ فقد تكررت تلك الآية في القرآن إحدى عشرة مرة وقرأها ابن عامر أحد القراء السبعة (فيكونَ) بالنصب ست مرات، وقرأها (فيكونُ) بالرفع خمس مرات.
وخلص الأستاذ النجدي من ذلك كله إلى قوله: «إننا حين تمنينا على الله أن يجعل لنا من القرآن نحوا لم نطلب الأمر من مأتاه الأصيل، لأن القرآن ليس كتاب لغة ولكنه دستور حياة ونبراس هداية».
لخص الدكتور شوقي ضيف بأمانته ودقته هذا الفهم الأصيل للأستاذ علي النجدي ناصف ثم علق عليه بقوله:
«والأستاذ علي النجدي ناصف كان يعلم حق العلم حين قال ذلك أن النحاة منذ سيبويه يستشهدون بآيات القرآن الكريم في النحو، وأن الآية منه وبعض الآية حين يستشهدون بها لقواعدهم بين ما يستشهدون به من الشعر والنثر تكون كالشهاب الثاقب والضوء الساطع. غير أن التفكير في شواهد القواعد النحوية ومدى الاستعانة فيها بآيات القرآن الكريم المضيئة شيء، وتيسير النحو المأمول بتذليل صعابه وتنسيق أبوابه وحذف زوائده وتبسيط قواعده للناشئة شيء آخر”.
وعن ذلك صدر الأستاذ علي النجدي ناصف في بحثه: «بين القرآن والنحو، وأعترف بأني لم أكن لأستطيع تبيان هذا الموضوع على نحو ما بينه في البحث بيانا علميا وافيا».
عضويته في مجمع اللغة العربية
انتخب الأستاذ علي النجدي ناصف عضوًا في مجمع اللغة العربية (1974) في الكرسي الذي خلا بوفاة الدكتور محمد مصطفى القللي، وهو الكرسي التاسع من كراسي المجمع الذي شغله ثلاثة من القانونيين الأفذاذ هم: الأستاذ محمد توفيق رفعت رئيس المجمع، ثم الدكتور عبد الحميد بدوي، ثم الدكتور القللي.
وكان الأستاذ علي النجدي ناصف طيلة السنوات الثماني التي قضاها عضوًا في مجمع اللغة العربية بمثابة الدينامو الدؤوب، كما كان بمثابة الدرعمي الخطيب. فقد تولى تأبين أربعة من المجمعيين كان منهم اثنان من أساتذة النحو الذين زاملوه في نفس القسم وهما الشيخ عطية الصوالحي، والأستاذ عباس حسن. كما تولى تأبين زميله الدكتور إبراهيم أنيس أستاذ علم اللغة، وتولى تأبين الأستاذ محمد رفعت أحمد المؤرخ.
ولم يقدر له أن يستقبل أحدًا من المجمعيين الدراعمة، ولكنه استقبل أزهريا مبرزًا في علوم اللغة والنحو وهو الأستاذ محمد رفعت فتح الله.
تركزت بحوث الأستاذ علي النجدي ناصف في مجمع اللغة العربية في ميدان مهم، كان الدكتور الشيخ عبد الرحمن تاج قد بدأ إعادة النظر فيه، وهو فكرة وصف بعض الحروف بالزيادة، وهو وصف «نحوي»، فإذا بالأستاذ علي النجدي يتعمق في هذه الدراسات وينشر بحثا عن «الزيادة في القرآن الكريم»، وفي دورة تالية يستكمل البحث بآخر عنوانه «من أسرار الزيادة في القرآن الكريم، وبعد خمسة أعوام أخرى يقدم بحثا ثالثا بعنوان «من وحي الزيادة في القرآن الكريم».
إضافة إلى هذا، فقد تناول الأستاذ علي النجدي ميدانين من ميادين الدراسات اللغوية ببحثين مهمين فنشر بحثا عن «التثنية في القرآن الكريم»، وبحثا آخر عن «تصريف الضمير في القرآن الكريم».
دراسته لثلاثة من الشعراء من عصور مختلفة
وفي دراساته الأدبية لم يقف الأستاذ علي النجدي ناصف عند عصر معين، وقد شاء لنفسه أن يدرس ثلاثة من الشعراء من عصور مختلفة، فقدم دراسات رائقة وجلّي إسهاماته الشعرية في ميادين مهمة:
- حماسة أبي تمام وفيها مقدمة جميلة عن الاختيار في الشعر.
- الدين والأخلاق في شعر شوقي.
- السياسة والغزل في شعر أبي قيس الرقيات.
كذلك فإن الأستاذ علي النجدي لم يقف عند تحليل مضامين فن الشعر على نحو ما فعل في دراساته الثلاث هذه، وإنما أضاف إلى هذا أنه درس القصة في الشعر العربي حتى أوائل القرن الثاني الهجري، كأنما كان يضرب المثل على التمكن من كافة المجالات المرتبطة بالدراسات اللغوية والأدبية.
على صعيد موازٍ كان الأستاذ علي النجدي من الرعيل الثالث لمؤلفي الكتب المدرسية، وهو الرعيل الذي لم يقدر له أن يستمر في هذه الوظيفة كثيرًا في عهد يمكن وصفه بلغة السياسة بأنه عهد توحش البيروقراطية وتراجع التكنوقراطية، لكنه (أي العهد)، كان باللغة العلمية الأبسط منها، هو عهد الموظفين في مقاعد العلماء. وقد اشترك مع الدكتور محمد مهدي علام، والأساتذة عباس حسن، وعلي السباعي، وأحمد الحوفي في تأليف كتاب المطالعة الوافية للمدارس الثانوية.
أما تحقيقات الأستاذ علي النجدي فشملت:
- الجزء الثالث من لسان العرب.
- الجزء العشرين من الأغاني.
كما اشترك الأستاذ علي النجدي في تحقيق كتابين مهمين من كتب القراءات:
- كتاب الحجة في علل القراءات»، لأبي على الفارسي.
- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها»، لابن جني.
- راجع تحقيق الجزء الثالث من «معاني القرآن للفراء»، وهو أحد التفاسير العلمية المتميزة للقرآن الكريم.
وامتد الأستاذ علي النجدي ناصف في تحقيقه إلى مجال الفقه، بل الفقه المقارن.. فحقق منفردا مجلدين من كتاب «الاستذكار في فقه السنة المقارن» للحافظ ابن عبد البر القرطبي الأندلسي، بتكليف من المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وهو كتاب ضخم متعدد الأجزاء، عماده كتاب الموطأ لمالك وما فيه من الأحاديث، عارضا مختلف المذاهب الفقهية ومقارنا بينها مقارنات وافية.
وقد تولى الأستاذ النجدي تحقيق هذين المجلدين بهمة عالية تنم عن علم غزير بمجال متخصص لم يتول تدريسه، ولكنه ظل محفوظًا في قلبه القادر على استيعاب العلم وحفظه.
رأي أقرانه فيه
قال الدكتور إبراهيم بيومي مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في تأبينه:
«رحم الله الأستاذ زكي المهندس، فهو أول من وجه نظرنا نحو عالم جليل وأستاذ كبير هو فقيد اليوم المرحوم الأستاذ علي النجدي ناصف، وجه نظرنا إليه منذ خمس عشرة سنة أو يزيد، ولم يكن حظنا سعيدًا لننعم بصحبته وزمالته منذ اللحظة الأولى التي ذكر اسمه فيها بيننا، ولكننا نعمنا به منذ ديسمبر عام 1973، تسع سنوات أو تزيد قليلا قضاها معنا المرحوم علي النجدي، قضاها في عطاء مستمر، عطاء في اللجان المختلفة، عطاء في مجلسنا، عطاء في مؤتمرنا، عطاء كله ذهن صاف، وأسلوب رقيق، لا يتكلم لمجرد الكلام، ولكنه صامت إلا إن وجد ما يقوله من كلام».
ظل الأستاذ علي النجدي يحظى بتقدير خاص من أساتذته وزملائه واللاحقين به، ويتبدى هذا من كثير المظاهر، ومنها على سبيل المثال أن الذي تولى استقباله في مجمع اللغة العربية لم يكن زميله في نفس القسم (الأستاذ عباس حسن)، الذي سبقه إلى عضوية المجمع، وإنما كان واحدًا من جيل أساتذته، بل كان من المفتشين الذين عمل تحت رئاستهم وهو الأستاذ عبد الحميد حسن الأمين العام للمجمع.
قال الأستاذ عبد الحميد حسن في استقباله عضوًا في مجمع اللغة العربية:
«… وأول لقائي بالزميل الكريم كان في إحدى مدارس المعلمين الأولية، وفي مدرسة دسوق للمعلمين حظيت بزيارة الأستاذ علي النجدي وكان يلقي درسا يعد من أدق الدروس وأدلها على مقدرة المعلم ومهارته في مادته وطريقته، وهو درس التعبير أو الإنشاء الشفهي، وكان موضوع الدرس من مشاهدات البيئة المحلية، وهو «دسوق يوم السوق».
«وكان في أدائه وإلقائه وحواره نموذجا للمعلم القدير والمربي الماهر الذي يتخذ من درسه، وما يعالج من حقائق وسيلة لبناء العقول وإنشاء الأنفس، وكان بذلك محققا لقول شاعرنا شوقي:
أرأيت أعظم أو أجلّ من الذي يبني وينشئ أنفسًا وعقولًا
رأيت كل هذا من الزميل الكريم فامتلأ قلبي وسمعي وبصري إجلالا له وتقديرًا. كان في جميع أدوار حياته مثالا للجد والنشاط عاكفا على الدرس والبحث».
أما الدكتور شوقي ضيف فقال في تأبينه:
«وأي زميل له منا لا يخالجه الحزن العميق حين يذكر ما فقدناه فيه من طمأنينة النفس وصفاء الروح وطلاقة الوجه وعفة اللسان؟ وبالمثل ما فقدناه فيه من قهر المشاكل اللغوية العويصة، وما كان يقدم لها من حلول سديدة في صوت هادئ متزن لين خفيض، وكأنما يتكلم همسًا، وهو همس كان يحمل دائمًا التصويبات اللغوية الصائبة في غير جلبة ولا ضوضاء شأن العلماء الوقورين الأجلاء».
نشأته العلمية و وظائفه المتميزة
تخرج الأستاذ علي النجدي في دار العلوم عام 1921، أي وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقد تخرج معه في هذه الدفعة أستاذ الفلسفة الشهير أبو العلا عفيفي، وقد سبقه في التخرج علمان من أعلام النحو واللغة والمجمع اللغوي هما الأستاذان علي السباعي (ولد قبله بخمس سنوات وتخرج قبله بأربع سنوات)، وعطية الصوالحي (ولد قبله بست سنوات وتخرج قبله بثلاث سنوات)، ولحق به من أعلام الدراعمة أساتذة النحو الأستاذ عباس حسن (الذي تخرج بعده بأربع سنوات (1925) وولد بعده بعامين) وإن كان قد سبقه إلى الوفاة . وإلى هؤلاء الأربعة معًا انتهت رياسة النحو الدرعمي في ذلك العصر الذي انضمت فيه دار العلوم للجامعة المصرية، وبهؤلاء برزت مدرسة النحو في دراسة العلوم متفوقة بالطبع على كلية الآداب، رغم أن الأستاذ عبد السلام هارون نفسه اختير في ذلك الوقت أستاذًا للغة العربية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية.
وهكذا عاد الأستاذ علي النجدي إلى كليته بعد اثنين وعشرين عامًا من تخرجه فيها (1943) مدرسًا للنحو والصرف، في العام الذي نقل فيه الأستاذ الصوالحي أيضًا إلى الدار. وقد رشحته لهذه الوظيفة بحوثه اللغوية التي كان يعدها مدفوعًا بحب العلم وحده وينشرها في صحيفة دار العلوم.
وتدرج الأستاذ علي النجدي في وظائف هيئة التدريس بدار العلوم مدرسًا فأستاذ مساعدًا فأستاذًا، وظل أستاذا غير متفرغ منذ أحيل إلى التقاعد وحتى وفاته، وهكذا ظل يدرس لأجيال هذه الكلية على مدى أربعين عامًا.
قصة مقالاته عن المتنبي
وليس من سبيل إلى التعريف الشامل بقدرات الأستاذ علي النجدي ناصف النقدية والأدبية ، فذلك أمر يتطلب دراسة أكاديمية على مستوى عالٍ تستعرض ذوقه ومنهجه وتؤصل لفهمه وعمله ـ وهو ما كنت أخطط لإنجازه، لولا ما أصابني من هذا التشرد، الذي أدعو الله أن يكون في ميزان حسناتي ، كنت قد انتهيت من معظم أجزاء هذه الدراسة الموسعة، وأدعو الله أن تعود إلى يدي!
لكني مع هذا أستطيع أن أصور هذه القدرات من خلال استحضاري لمقال بلغ الغاية في التهذيب والتواضع كتبه الأستاذ علي النجدي في الأربعينيات ونشره في مجلة الكاتب المصري التي كان يرأسها الدكتور طه حسين، وقد كتب هذا المقال تعقيبا على مقال للدكتور محمد كامل حسين نشر في المجلة نفسها في عدد نوفمبر 1945 عن «التعقيد في شعر المتنبي»، ويمكنني أن أقول وأنا المحب الأول لمحمد كامل حسين إن مقال علي النجدي ناصف لا يقل قيمة ولا فكرًا عن مقال محمد كامل حسين، بل ربما فاقه في كثير من الفهم والتعليل، وإن اشتركا في ذكاء التحليل وفي استيعاب الملكة الشعرية.
ونحن لا ننكر أنه لمحمد كامل حسين فضل إثارة القضية على نحو ما أثارها بما عرف عنه من نظرة ذكية ومحدثة إلى التراث، وإجادة التعبير عما يبدو للبعض على أنه فكرة عابرة فحسب، بل يمكنني أن أتجاوز لأقول إن لمحمد كامل حسين الفضل في إثارة قريحة وفكر الأستاذ علي النجدي نفسه ليكتب مثل هذا المقال الرائع الذي نستعرضه هنا، بل ربما، وهذا علمه عند الله، أنه بهذا المقال استثار الأستاذ علي النجدي ليكتب ما كتب بعد هذا من دراسات رائعة عن المتنبي.
والحق أن مستوى إلمام الأستاذ علي النجدي وفهمه للمتنبي وحياته وشعره في هذا الوقت المبكر من حياته الأكاديمية يذكرنا بلا مبالغة بمستوى الأستاذ محمود شاكر عميد الدراسات العربية التي تناولت المتنبي وحياته وشعره، أو كما يحلو لي أن أقول باختصار: «عميد الدراسات المتنبوية».
يقول الأستاذ علي النجدي في مقاله:
«قرأت في مجلة «الكاتب المصري» (عدد نوفمبر 1945) مقالا للأستاذ الدكتور محمد كامل حسين، ألم فيه بالتعقيد في شعر المتنبي، وحاول أن يرده إلى أسبابه الأصيلة في نفس الشاعر، ولكنه فيما يخيل إليّ لم يبلغ ما أراد، بل لعله أن يكون قد مال عنه؛ لأنه سعى إليه من غير وجهه».
………………..
هكذا يقرر الأستاذ علي النجدي بكل أدب وتواضع، فهو مع احترامه لمحمد كامل حسين قد يصف بحثه بأنه «إلمامة» فحسب، وبمثل هذا اللفظ المهذب عبر علي النجدي عما لا يكن لغيره أن يعبر عنه إلا في فقرات أو صفحات، وهو يسارع في بداية مقاله إلى تقرير ما يراه من أن محمد كامل حسين قد حاول ولكنه لم ينجح في محاولته، وهو يعلل هذا الإخفاق بأن كامل حسين سعى إلى هدفه من طريق غير الطريق الذي كان ينبغي عليه أن يسلكه.. هكذا يقرر علي النجدي على سبيل الإجمال.
ثم يبدأ الأستاذ علي النجدي بتفصيل مذهبه في هذه القضية، لافتا النظر إلى حقيقة أن التعقيد في شعر المتنبي لم يكن صفة دائمة مستمرة وإنما كان عارضا طارئًا.. وهو يرى أن مثل هذا التعقيد شائع تمامًا في الشعراء والكتاب، وإن كان التعقيد في الشعر أكثر شيوعا لأسباب يذكرها الأستاذ علي النجدي على سبيل الإجمال:
«فالتعقيد لم يكن عند المتنبي طبيعة راسخة، ولا صفة ملازمة؛ فتتصل بنفسه، وتستمد منها الوجود والثبات، ولكنه كان عرضًا طارئًا تقتضيه أسباب موقوته؛ فيبقى ما بقيت، ويمضي على أثرها حين تزول»
«وليس المتنبي في هذا بدعًا ولا وحيدًا؛ فما من شاعر ولا كاتب إلا له منه حظ قليل أو كثير. غير أن منهم مَنْ يحذر النقاد، ويحفل بالرأي الأدبي العام؛ فينحي على معقداته بالتهذيب أو الحذف، فلا يصدر عنه إلا الواضح السمح، أو الآخذ من الوضوح والسماحة بنصيب. ومنهم من لا يقيم وزنًا للنقاد ولا للرأي الأدبي العام؛ فيصدر عنه كل ما يقع له، لا يبالي تعقيدًا ولا سخفًا ولا إسفافًا
وإذا كان حظ الشاعر من التعقيد أكبر فلأنه يتقيد في الشعر بكثير مما لا يتقيد به الكاتب في النثر».
«وأسباب التعقيد كثيرة، يرجع بعضها إلى الشاعر نفسه: كنضوب طبعه، وفتور حسه لملل، أو إعياء، أو اختلال مزاج، أو نحو ذلك. ويرجع بعضها الآخر إلى الموضوع الذي يعالجه: كجدته، ودقة مسالكه، وصعوبة تناوله، واستبهام حقائقه، وما يشبه ذلك».
«وليس يعنينا على كل حال أن نتتبع هنا أسباب التعقيد بالإحصاء والبيان؛ فلسنا منها الآن بسبيل إلا على قدر ما يتطلب الموضوع؛ فلنقتصر على هذا القدر: لا نتوسع ولا نزيد».
المتنبي لم يكن بخيلا
وينتقل الأستاذ علي النجدي إلي مناقشة آراء محمد كامل حسين بطريقة علمية تحليلية، ونراه لا يبخل على نصوص محمد كامل حسين بالتفسير الذي يمكنه هو من مناقشتها، وهو يتعرض على سبيل المثال للمقصود بالحرص في تشخيص الدكتور محمد كامل حسين لأسباب التعقيد في شعر المتنبي، وهو لا يحمل عبارات كامل حسين بأكثر مما تحتمل، ولكنه يعبر عن المعاني التي تناولها بعبارات ذكية قادرة على التعبير عن المعنى الدقيق الذي يقصده:
والأستاذ الدكتور يرى أن التعقيد في شعر المتنبي يرجع بعضه إلى حرص كان عنده، ويرجع بعضه الآخر إلى أمل كان يرجوه، لكنه أخفق فيه.
«فأما الحرص فلست أدري على التحقيق ما مراده به؟ أتراه يريد أن يقول مع القائلين: إن المتنبي كان بخيلا، يحب المال، ويحرص على جمعه وادخاره، ثم يزيد حضرته أن هذا البخل كان متمكنًا منه، وشديد الإلحاح عليه، حتى لقد كان له عمل في فنه، وسلطان على مواهبه؟ أم تراه يريد أن الشاعر كان لشعره محبًا، وبه مفتونًا، وأن ذلك كان يغريه بالإبقاء عليه، والضن بكل ما ينتج منه، دون تفريق بين المعقد وغير المعقد؟
وأيا ما يكن المراد الذي يقصد إليه الأستاذ الدكتور، فلا شك أن البخل بالمال أو الحرص على الشعر لا يعلل التعقيد نفسه، ولا يكشف عن سر التورط فيه، ولكنه يعلل الاعتزاز بالشعر المعقد، ويكشف عن سر الإبقاء عليه».
هكذا يصل الأستاذ علي النجدي إلى تشخيص أدق من تشخيص كامل حسين بناء على المعطيات التي بنى عليها كامل حسين أحكامه وتشخيصه، وهو يرى أن البخل بالمال أو بالشعر لا يعلل التعقيد، وإن علل الاعتزاز بالشعر المعقد.
ويستأنف الأستاذ علي النجدي طرح دفوعه في هذا الصدد ويقول:
«وشيء آخر: أن البخل بالمال، أو الحرص على الشعر لا يستطيع وحده أن يهون التعقيد على الشاعر، ويرخص له في اصطناعه وإذاعته في الناس؛ فقد يحب المرء آثاره الأدبية، ويود جاهدًا لو أتيح له الإبقاء عليها كلها، ولكنه يمنعه من ذلك خوف النقاد، أو الرغبة في استرضاء القراء.
هكذا يعود الأستاذ علي النجدي إلى فكرة سبق له أن طرحها في بداية حديثه عن أثر النقد والرأي العام في إذاعة الشاعر (أو الكاتب) لما كتب.
هل كان التعقيد سمة في شعر المتنبي؟
على أن المفاجأة المهمة هي أن الأستاذ علي النجدي بعد هذا المدخل الذي يبدو فيه مسلمًا بالمقدمات التي ساقها الدكتور محمد كامل حسين، فإنه يبدأ في نقض هذه المقدمات.
وهو يفعل هذا بتمكن شديد لدرجة أنه لا يكتفي بأن يقدم دليلًا واحدًا على رأيه، ولكنه يقدم أدلة متعددة ومتعاقبة، ويكتفي بذكر هذه الأدلة على سبيل الإجمال دون أن يذكر تفصيلاتها.
كما أنه يفعل هذا بسلاسة وكأنه يستحضر قوائم من محفوظاته، وليس أمثلة يصعب على غير الدارسين المتميزين أن يصلوا إليها ويحصروها ويستعرضوها على هذا النحو المتدفق.
يبدأ الأستاذ علي النجدي ناصف في تفنيد الافتراء بوصف المتنبي بالبخل وهو يسوق أدلته على هذا التصحيح (الذي يراه ضروريا) مدعما بالمراجع فيقول:
«ولم يكن المتنبي بعد هذا كما يصوره بعض الرواة شحيحًا، جمّاعا للمال، يشتد في جمعه والحرص عليه، ولا يرى بأسًا أن يفرط في سبيله ببعض مالا يجمل بالرجل الأبي الكريم أن يفرط فيه، فليس في المعروف من سلوكه ما يؤيد ذلك أو يشير إليه، وإنما تلك فيما أعتقد فرية افتراها عليه بعض خصومه والمنافسين له، كما افتروا عليه غيرها من العيوب.
فالرجل الذي ينزع منازع العظمة، ويتشبه في خروجه بأصحاب السلطان، فلا يركب إلا في موكب من المماليك، يحفون من حوله وهم مدججون بالسلاح.
والرجل الذي يفد على بغداد، فيذهب بنفسه عن مدح الوزير المهلبي؛ لاشتهاره بالسخف، وتولعه بالمجانة والهزل، ثم يتودد إليه سري من تجارها الأدباء، فيخدمه، ويكرم مثواه عسى أن يمدحه، فلا يفعل.. ويقول له في الاعتذار من ذلك: لو كنت مادحًا تاجرًا لمدحتك.
ثم يسأله أبو إسحاق الصابي أن يمدحه بقصيدتين، ويجعل له عليهما خمسة آلاف درهم، ويوسط بينهما في ذلك رجلا من وجوه التجار؛ فيقول له: قل لأبي إسحاق: ما رأيت بالعراق مَنْ يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير المهلبي، وتغير عليك؛ لأنني لم أمدحه. فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست.. وما أريد منك منالا، ولا عن شعري عوضًا.
والرجل الذي يدعوه الصاحب ابن عباد إلى زيارته، ويعده أن يشاطره جميع ماله؛ فلا يستجيب له، ولا يرد عليه كتابه..
والرجل الذي يستزيره عضد الدولة وهو عند ابن العميد؛ فيأبى، ويرغبه ابن العميد في المسير إليه، بما يصف له من سخاء الملك وجزالة عطاياه للكفاء وأصحاب المواهب؛ فيقول له: إن الذي أجود به على الملوك من الشعر خير مما يجودون به عليّ من المال؛ لأن شعري خالد، ومالهم زائل، ثم يقول: إني امرؤ شجر ملول، وأريد أن يكون إليّ الأمر في الإقامة والظعن، لكن الملوك يستبدون بي، ويأبون على الخروج حين أريد؛ فأضطر إلى مغاضبتهم، والرحيل عنهم على أقبح الوجوه، ثم لا يزال مصرًا متشبثًا، حين يكتب ابن العميد في ذلك إلى الملك، ويرد جواب الملك أن الشاعر حر: يقيم ما شاء، ويرحل متى شاء» .
بعد أن يعدد الأستاذ علي النجدي ناصف هذه الأمثلة القاطعة الدالة على صحة رأيه هو، والدالة بالتالي على خطأ المقدمات التي بنى عليها الدكتور محمد كامل حسين رؤيته، يلخص الموقف في قوله:
«الرجل (أي المتنبي) الذي يعمل بعض هذه الأعمال، ويقول بعض هذه الأقوال لا يمكن أن يكون بخيلا، ولا يصح أن يوصم بالبخل وفي الدنيا إنصاف، وللكلام معان يؤديها ويقصد به إليها».
هل كان المتنبي محبطا ؟
ثم يبدأ الأستاذ علي النجدي ناصف في تفنيد الفكرة الشائعة الثانية، وهي فكرة إخفاق الأمل التي عانى منها المتنبي على حد الأقوال الشائعة التي آثر كامل حسين أن يستند إليها.. وهو يقدم تحليله الذكي المفند في عبارات ناصعة دالة فيقول:
والإخفاق في الأمل لا أرى له كذلك أثرًا في التعقيد عند المتنبي؛ فالمفهوم أن الأمل الذي هام به، وشقي في طلبه، وأطال الحديث عنه منذ كان شابًا يافعًا، إنما كان ولاية السلطان. والمعروف كذلك أنه لم يستيئس منه، وينصرف عنه إلى غير رجعة إلا عند عضد الدولة بن بويه فقد أشار إليه في مدح دلير وابن العميد إشارة مهمة، لكنها تدل على كل حال أنه حتى ذلك الوقت كان لا يزال يذكره، ويفكر فيه، ويتحدث عنه. قال من قصيدته في مدح دلير:
ذريني أنل ما لا ينال من العـلا فصعد العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين لقيان المعالي رخيصة ولا بـد دون الشـــــهد من إبـــر النحـــل
حذرت علينا الموت والخيــل تلتقي ولـم تعلمي عن أي عاقبـة تنجلــي
وقال من قصيدة في مدح ابن العميد:
صغـت السـوار لأي كـف بشـرت بابــن العــميد وأي عبــد كبـــرا
متى أقـود إلى الأعــادي عسكـرا؟ إن لم تغثــني خيــلـه وسلاحـــه
ويتساءل الأستاذ علي النجدي في ذكاء:
«فلو كان للإخفاق عمل في تعقيد شعره كما يقول الأستاذ الدكتور (هكذا كان علي النجدي يتحدث عن محمد كامل حسين) ، لوجب أن يكون المعقد في شعره عند عضد الدولة أكثر منه في شعره قبل أن يرحل إليه؛ فقد أصبح له منذ ذلك الحين عاملان اثنان بدل عامل واحد: أحدهما ثابت ملازم، وهو الحرص أو البخل. والآخر طارئ جديد، وهو الإخفاق في ولاية السلطان».
«لكنا إذ نرجع إليه لا نرى فيه شيئًا من التعقيد، مع اختلاف نوعه، وتعدد موضوعاته، وكثرة مقداره، بالإضافة إلى المدة القصيرة التي قيل فيها؛ فقد نظم وهو عند عضد الدولة ست قصائد طوالا إحداها أرجوزة، ونظم قصيدة سابعة في سبعة أبيات، وتناول فيها من الأغراض: الغزل، والمدح، والتعزية، والحكمة، والوداع، والوصف المنوع الموضوعات.
المتنبي مصور موهوب حتى في شعر الحكمة
وبعد هذا كله يعرض الأستاذ علي النجدي رؤيته هو للتعقيد في شعر المتنبي بادئًا بالتأكيد على حقيقة أن نسبة التعقيد في شعر المتنبي قد تفوق نسبة التعقيد في شعر غيره بسبب اعتزازه بنفسه ومواهبه من ناحية وبسبب اهتمامه بشعر الحكمة والعقل من ناحية ثانية، وبسبب اهتمامه بالصناعة في شعره.. ولكنه قبل هذا كله يرى أن السبب في التعقيد في شعر المتنبي (إن وجد) هو نفسه السبب في التعقيد في شعر غيره. وهو يقول:
«الذي يبدو لي أن سببه عنده هو سببه عند غيره: لا تمايز هناك ولا شذوذ. وإذا كان حظ شعر المتنبي منه كبيرًا فلأنه كان يغالي بنفسه، ويعتز بمواهبه، حتى ما يكاد يفكر في جمهوره، أو يحفل بنقاده، كما يتمثل في المحاورات التي كانت تدور بينه وبينهم بعض الأحيان، وكما يقول في بيته المشهور:
أنـام مـلء جفونـي عن شواردهـا ويسهـر الخلـق جراهـا ويختصم
«ثم إنه كغيره من شعراء العقل والحكمة كان يطلب المعاني العميقة، التي لا تنال بغير المصابرة والكد، ولا تستقيم إلا بعد المداورة وطول الاحتيال. وكان إلى جانب ذلك يحرص على أن تكون عبارته فخمة، وألفاظه جزلة، وموسيقاه مجلجلة، فيها قوة ولها رنين.
من ناحية ثالثة، فقد حرص الأستاذ علي النجدي ناصف على معارضة محمد كامل حسين فيما ذهب إليه من جدب الخيال عند المتنبي وضعف التصوير، وهو يراه حتى في شعر الحكمة مصورًا موهوبا:
يرى الأستاذ الدكتور بعد ذلك أن المتنبي من أجدب الناس خيالا، وأقلهم تصويرًا. وهو رأى لا نوافق عليه، ولا نرى في شعر الشاعر ما يعززه. ولست أعني هنا شعر الوصف وما يشبهه مما يكون للتخيل فيه مجال فسيح، ولكنني أعني مع ذلك شعر الحكمة أيضًا، حيث يغلب التفكير المجرد، ويأخذ الغرض على نمط يقل فيه تصنيع الخيال».
فهو في هذا الغرض مثله في بقيه الأغراض، مصور موهوب، خصب الخيال، ثاقب الذهن، واسع الإحاطة، بارع الملاحظة، عميق الفكرة».
المتنبي كان يبث الحياة والحركة في كل ما يتناوله
في هذا السياق من الحب على بصيرة (إذا جاز هذا التعبير) تأتي عبارات الأستاذ علي النجدي ناصف في وصف المتنبي لتكون، بجدارة، من أبلغ ما يمكن لعبارات ناقد أو دارس للأدب أن تصل إليه، وانظر على سبيل المثال إلى هذه العبارات:
دأبه في الإبانة والتعبير أن يبث الحياة والحركة في كل ما يتناول من معنى، وكل ما يؤلف من مشهد، حتى إذا انبعث مواته وجاش ساكنه، وتحرك جامده، أدار وحداته على ما تقتضيه الصناعة، ويوجبه النسق وحسن الافتنان، فإذا الأشباه تتلاقى والأضداد تتنافر، والبعيد يدنو، والغائب يتمثل، والعواطف تتراءي، والشائع يتميز، بما يتوارد هناك من أمثال، ويتلاحق من تشبيه، ويفصل من حدود، ويقوم من موازين، وإذا نحن تجاه معرض يموج بمشاهد حية من الشعر المتفلسف أو الفلسفة الشاعرة، تستأثر بالانتباه، وتحرك المشاعر، وتمتع العقل والوجدان معا. وهذا مثلا قوله من قصيدة تعزية لعضد الدولة:
لا بد للإنسـان من ضجعــــة لا تقلـب المضجع عن جنبـه
نسي بها ما كـان مـن عجبـــه وما أذاق المــوت من كربــه
نحن بنـو الموتـى فما بالنـــا نعـــاف مـا لابد من شربــه
تبــخــل أيدينــــا بأرواحنـا على زمـــان هـي من كسبـه
فهـــذه الأرواح مـن جــــوه وهـذه الأجســام من تربـــه
لـو فكــر العاشــق في منتهى حسـن الذي يسبيه لـم يسبــه
لم ير قـرن الشمس في شرقـه فشكــت الأنفـس فـي غربـه
يموت راعي الضأن في جهلـه موتـــة جالينـوس في طبــه
ربمــا زاد علــــى عمــــره وزاد في الأمـــن على سربـه
غايـــة المفــرط في سلمــه كغايــة المفــرط في حـربـه
لا قضــى حاجتـه طـــالـب فــؤاده يخفـــق مـن رعبــه
المتنبي هو شاعر العربية الأكبر
ويواصل الأستاذ علي النجدي ناصف التعبير عن تقديره العميق لشعر المتنبي فيقول في موضع آخر من مقاله:
عندي أن هذه الحياة التي ينفخها المتنبي في شعره، وتوشك أن تكون خصيصة من خصائص فنه الكبرى هي أهم أسرار خلوده وسيرورة شعره في الناس، فكثيرًا ما يتناول المعنى الشائع أو المعنى الذي سبق إليه؛ فيصنعه على طريقته، ويطبعه بطابعه، ثم يرسله فيتردد على كل لسان، ويدخل إلى كل مكان
وما أعرف شاعرًا من شعراء العربية القدماء والمحدثين نال من سعة الشهرة، وحفاوة الدرس والنقد مثلما نال المتنبي».
لقد سيطر على الحياة الأدبية حياته، وظل مسيطرا عليها بعد موته حتى خلفه أبو العلاء. وتوفر الأدباء والنقاد على درسه ونقده؛ فأكثروا الدرس والنقد، وذهبوا فيه مذاهب شتى، وكتبوا عنه من البحوث والمؤلفات ما لا يجتمع مثله لغير عظيم من عظماء التاريخ.
لا يزال البحث الأدبي إلى الآن حفيا به، ماضيا في استخراج ذخائره، واكتناه مذاهبه، وسيظل مذكورًا أبدًا ما بقي للعربية وللثقافة والأدب وجود».
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا