أحب أن أنبه أولًا إلى خطأ تكرر وكان تكراره بالنقل، وهو الخلط بين الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي (1892 – 1971) عضو مجمع اللغة العربية والأستاذ عبد المتعال الصعيدي (1894 – 1966)، العالم الأزهري المجدد صاحب المؤلفات العديدة، وهما متعاصران، وقد وصل تكرار هذا الخطأ إلى حد أن بعض الكتب التذكارية تضع ترجمة الأستاذ عبد المتعال تحت اسم الأستاذ عبد الفتاح، وبعضها يضع ترجمة الأستاذ عبد الفتاح للأستاذ عبد المتعال. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أنني نشرت فصلًا كبيرًا موسعا عن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كتابي «الأزهر الشريف والإصلاح الاجتماعي والمجتمعي». ومع أن هذين العالمين الجليلين يحملان لقب الصعيدي بما يشير إلى أصول صعيدية للعائلة فإنهما ولدا في مركزين متجاورين من الوجه البحري فولد الأستاذ الدرعمي في سمنود وولد الأستاذ الأزهري في مركز أجا.
كان الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي (1892 – 1971) واحدًا من كبار اللغويين في عصره، وهو واحد من أهم العلماء المجتهدين الذين عنوا بدراسات فقه اللغة، كما أنه واحد من أهم واضعي المصطلحات. وقد نجح نجاحًا ساحقًا فيما وهب له جهده من اهتمام بعلم اللغة وتوظيفها للكتابة العلمية الدقيقة. وكان في زمنه أبرز اللغويين الذين ارتبطت حياتهم بالمجمع اللغوي في مصر محررا ومديرا وعضوا. وقد فتح الباب لمن تلوه من كفايات المجمع للوصول إلى عضوية المجمع، فلحق به في هذا الميدان الأساتذة محمد شوقي أمين، وعبد الكريم الغرباوي، ومصطفى حجازي، وإبراهيم الترزي.
ولد الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي في سمنود بمحافظة الغربية (1892)، وتلقى تعليما دينيا في بداية حياته، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الدين، ثم قضي سنتين بمدرسة المعلمين الأولية بالمنصورة، وأتيحت له الفرصة للتحول إلى التعليم العالي، فالتحق بدار العلوم وتخرج فيها (1920) في الدفعة التي كان أبرز خريجيها هو الأستاذ حامد عبد القادر عميد اللغة العربية في وزارة المعارف الذي سبقه إلى عضوية مجمع اللغة العربية.
عين الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي عقب تخرجه مدرسًا بمدرسة بني سويف، وتنقل بعد ذلك مدرسا بالمدارس الحكومية حتى سنة 1936، وفي أثناء عمله بالتدريس أنجز عمله العلمي الكبير «فقه اللغة»، وهو ما ساعده على الانتقال من مدرسة فؤاد الأول الثانوية إلى وظيفة محرر في مجمع اللغة العربية. تدرج الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي في المناصب العلمية في المجمع من محرر إلى رئيس تحرير إلى وظيفة المراقب الإداري للمجمع (1943) خلفًا للشيخ عبد العزيز البشري، وكان هذا المنصب هو أكبر الوظائف الإدارية في المجمع، وقد بقي فيه حتى أحيل إلى المعاش (1952) ببلوغه الستين، وبقي مع تقاعده قريبًا من النشاط اللغوي والمجمعي، شأن العلماء الذين لا ينهي تقاعدهم علاقتهم بالعلم.
اختير الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي عضوًا بمجمع اللغة العربية (1961)، فكان واحدًا من العشرة الذين عينوا عند تعديل قانون المجمع وزيادة أعضائه المصريين إلى أربعين عضوًا، وقد نال العضوية معه أربعة آخرون من الدراعمة منهم ثلاثة من العمداء: إبراهيم عبد المجيد اللبان (عميد دار العلوم)، ومحمد مهدي علام (عميد الآداب)، وإبراهيم أنيس (عميد دار العلوم)، إضافة إلى الأستاذ عبد الحميد حسن وكيل دار العلوم.
كان الأستاذ الصعيدي أول من شغل الكرسي الخامس والثلاثين من كراسي المجمع، وقد خلفه فيه بعد وفاته الدكتور حامد جوهر أستاذ علوم البحار الأشهر فكان هذا التصادف تثبيتا لما عرف عن الأستاذ الصعيدي من فضل على علوم الحياة والطب. وفي مجمع اللغة العربية، اشترك الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي بجهد بارز في عدة لجان علمية منها: لجنة علوم الأحياء والزراعة، لجنة الكيمياء والصيدلة، لجنة الجيولوجيا، لجنة المصطلحات الطبية، وبهذا كان الأستاذ الصعيدي أكثر من أسهم في التوحيد المنهجي (القياس) للمصطلحات العلمية التي صدرت عن مجمع اللغة العربية وكان هذا كله بالإضافة إلى جهده في لجنة المعجم الكبير. كان الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي بالإضافة الى هذا كله ينظم الشعر، وقد ألقى قصيدة في الجلسة الختامية لمؤتمر المجمع ببغداد (1965).
أشهر مؤلفاته هو كتابه الإفصاح في فقه اللغة (بالاشتراك) (1929)، وقد ظل هذا الكتاب مرجعًا متميزًا؛ حتى أنه بعدما أنشئ مجمع اللغة العربية اقترح بعض أعضائه الاستعانة بهذا الكتاب في وضع المصطلحات العلمية العربية، ونوقش هذا الاقتراح في الدورة الثالثة للمجمع ووفق عليه، وقد أعيد طبع الكتاب موسعا ومبوبا ومزيدا (1964). كما اشترك الأستاذ الصعيدي في تأليف كتب اللغة والمحفوظات للمدارس الثانوية في ثلاثة أجزاء.
أسندت إليه وزارة الصحة المصرية مراجعة دستور الأدوية من الناحية اللغوية، وهو أول دستور رسمي يظهر باللغة العربية، وقد نشر الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي في مجلة المجمع بحثا بعنوان مصطلحات العلوم في اللغة العربية ودور المجمع فيها. كما كانت للأستاذ عبد الفتاح الصعيدي اقتراحات في تيسير وضع المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الأجنبية، وقد قدم بعضها لمجمع اللغة العربية والمكتب الدائم للتعريب بمدينة الرباط بالمغرب.. فكان من أوائل الذين قدموا الدراسات التجريبية والقياسية في علم المصطلح على الرغم من أنه ظل محافظًا على المتن القديم.
وتهدف هذه المقترحات إلى استخراج مصطلحات العلوم من الكتب العربية القديمة، وتوزيع كلمات المعجمات العربية على حسب معانيها لتكون مصطلحات كل علم بين يدي اللجنة الخاصة بوضع مصطلحاته، فلا ترجع اللجان إلا إلى ما بين يديها من هذه الألفاظ العربية، وكان يرى أن مقترحه هذا يحقق الاقتصاد في الوقت والجهد، إضافة إلى ربط الحديث بالقديم، مما ييسر على العلماء المحدثين الاطلاع والاستفادة من علوم الأقدمين.
توفي الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي على حين فجأة سنة ١٩٧١، عندما صدمته سيارة وهو في طريقه إلى حضور جلسة من جلسات المجمع اللغوي العلنية لتأبين أحد الأعضاء.