الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار (1862 ـ 1941) أستاذ تاريخ غير تقليدي في عصر حفل بالنوابغ، فلم يدرك فضله حق قدره، لكن أثره ظل ممتدا فيما ترك من آثار، بيد أن ضعف روح المؤسسة في وطننا لم يتح لعمله الفكري ما يستحقه من التمجيد والتخليد فلا تزال بعض أعماله مخطوطة، أدعو الله أن يوفقنا لنشرها في برنامج يعنى بهذه الكنوز
إذا أردنا أن نصف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار بلغة إدارة الأعمال فإننا نقول باطمئنان إنه هو ألمع المؤرخين في مصر في القرن العشرين، وأكثرهم توزيعا، ذلك أن كتابه «قصص الأنبياء» طبع طبعات عديدة في كميات كبيرة، وظل منهلا بأخذ عنه و يأخذ منه الناقلون، والباحثون، والمدعون كذلك، وقد نجح هذا المؤرخ العظيم في أن يقدم للقارئ المعاصر تاريخا متماسكا يخلو من تجاوزات الأزمنة الغابرة، ويتوافق مع الطبيعة الإنسانية، ومع طبائع الأشياء كذلك، معتمدا علي عقلية مؤرخة ناضجة تمكنت من أن تفيد من التراث الأدبي المتراكم عبر العصور الماضية، وأن تصوغ ما هو أقرب إلى الحقيقة من حصيلة الروايات المنسوبة إلي التوراة والكتب الدينية وشبه الدينية الأخرى ، وأن تتسق مع ما عرفه العالم من تاريخ مكتوب.
جمع الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار إلى صفات المؤرخ الإسلامي معرفة جيدة بفلسفة الأديان الأخرى، وتاريخها، كما كان يحفظ كثيراً من نصوص التوراة بالعربية والعبرية، والأناجيل، وإلمامه بأقوال شراحها، وكان يجيد الاستشهاد من هذه المصادر بما يؤيد رسالة الإسلام والرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
هكذا أفاد الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من دراساته وممارساته في عهد الشباب و طلب العلم وهي الدراسات و الممارسات التي تنوعت ما بين الميادين الأربعة الأزهرية والدرعمية والقانونية والحرة، وتضافرت جميعها علي تنمية ملكاته النقدية إلي درجة عالية يسرت له كتابة التاريخ علي نحو غير مسبوق، ويكفي أن نذكر أنه كان على عادة العلماء الأجانب الكبار يمارس الأستاذية في الجامعة الأهلية ومع هذا يجد في نفسه الشجاعة الأدبية لممارسة التلمذة بين جنباتها في الوقت نفسه لينمي علمه باللغات الشرقية (وبخاصة العبرية ) على سبيل المثال .
وقد كان في علمه وفي حياته واحدا من جيل الوسط في علماء الأزهر ودار العلوم وهو الجيل الذي يقع بين جيلي الشيخ محمد عبده وجيل المراغي وهو أكبر أعلام هذا الجيل، السابق على جيل المراغي وأقرانه الذين كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلي الأستاذ المتقدم عليهم في كل شيء.
ولد الأستاذ الشيخ عبد الوهاب بن أحمد النجار في قرية القرشية بالقرب من طنطا عاصمة إقليم الغربية، وبدأ تعليمه التقليدي فيها، وهي القرية التي كانت تضم بعض أملاك المنشاوي باشا، والتي عاش الشاعر أحمد الكاشف حياته كلها فيها، ثم انتقل إلى القاهرة ودرس في الأزهر، وكلية دار العلوم وتخرج فيها، وألم ببعض اللغات السامية مما ساعده على الإجادة فيما وضعه من مؤلفات تاريخية اعتمدت علي المعرفة بهذه اللغات وتراثها.
ولما كانت شهادة دار العلوم (التي حصل عليها الأستاذ الشيخ النجار) تسمح، في ذلك الوقت، بالعمل في المحاماة الشرعية، فقد عمل في المحاماة، ثم اختير ليكون مدرسا للأدب والشريعة في كلية دار العلوم، ثم اختير أستاذا للتاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية القديمة، ثم عاد أستاذا للشريعة في دار العلوم، ثم انتقل ناظرا لمدرسة عثمان ماهر، وكانت مدرسة نموذجية، وكان درجة ناظر تلك المدرسة تفوق في أهميتها وقيمتها المادية والأدبية وظائف أستاذية الجامعة.
اكتسب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار مقومات العقلية الناقدة من تلمذته على الأستاذ الإمام محمد عبده، وكان قد درس التاريخ على يديه في دار العلوم في ذلك الكتاب الذي قرره الأستاذ الأمام كمرجع لدراسة التاريخ وهو كتاب مقدمة ابن خلدون.
” … عشقت كتابة ابن خلدون، فأصلح ذلك العشق من كتابتي، وقوم أسلوبي حين أغرمت بمحاكاته، ذلك في حين الحداثة وعنفوان الشباب، وحببت كتابته في التاريخ قراءة التاريخ حتي صار نهمة النفس، وغذاء الروح، وسلوتي في خلوتي، فقد حبب إلي نقد عبارات المؤرخين، ووزن الحوادث البصيرة، فكل حسنة عندي من التاريخ من عنده، كان أستاذنا محمد عبده قبل نفيه إلي بلدة محلة روح مدرسا بدار العلوم، وكان يكلف الطلبة بدراسة المقدمة، وكان يكتب هو معهم مع مراعاة تغير الأزمان، واختلاف الأحوال والملابسات بين الزمنين، فتكوّن في كتابة أستاذنا جزء عظيم من الموضوعات التي تناولها ابن خلدون في مقدمته” .
وصف أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار بأنه ” كان نسيج وحده في معالجة التاريخ، إذ هدته بصيرته إلى مناقشة الافتراءات الزائفة شبهة بعد أخرى شبهة في كل مناسبة تعن، وقد ساعدته على ذلك ذاكرة نيرة تستوعب الأحداث المختلفة استيعابا شافيا، ومن ورائها عقل مدرك ينظم ويرتب، وينفي ويثبت! ومازال الباحثون يتناقلون آراءه الصائبة في بيعة أبي بكر، ومقتل عمر، وحادث التحكيم، وخرافة إحراق مكتبة الإسكندرية”.
وصف الأستاذ عبد المنعم خلاف عوامل التفوق في شخصية الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار حين تحدث عن أسباب التفاف الشبان المسلمين حوله، ونحن نلاحظ فيما لخصه الأستاذ خلاف من شخصيته ما اشتملت عليه هذه الشخصية عوامل التفوق في شخصية وقدراته التاريخية.
“…… وقد ساعده على الاقتراب من قلوبهم والدخول إلى عقولهم اتصاله بنصيب وافر من العلوم العصرية التي كان يعلم منها ما جعله ابن زمانه وربيب عصره لا رجلاً متخلفاً عن ملاحقة سير الحياة بالأحياء وسرعة نمو هذه المدنية العجيبة التي تتفتح فيها أسرار الطبيعة للعقول تفتحاً متلاحقاً يحير الألباب ويثير الدهشة، ويكشف عن كلمات الله التي ليس لها نهاية ولا نفاد!
“كان عليه رحمة الله يعلم من مباحث علوم الطبيعة والكيمياء والكهرباء وفنون الصناعات والآليات ما كان يثير إعجاب من يسمعونه وهو شيخ معمم تقدمت به السن، وتوجه فكره من قديم إلى الأدبيات وعلوم اللغة والشريعة والجدليات وما إليها من الميراث الشرق النظري
“………. كان يحمل بين جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم. وشباب القلب وحب الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما متفتح الفكر متجدد العزم متلفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة، بريئاً من الاشتغال بالأضغان الغليظة والسخافات التافهة التي تشغل بال الجهال وتصرفهم عن ملء قلوبهم وأوعيتهم بأسرار الوجود
” وإلى هذه الصفات كان يرجع أنس الشباب به وحبهم إياه وحبه إياهم وفهمه عقليتهم ومنازع نفوسهم في زمانهم يضاف إلى تلك الصفات أنه كان مؤرخاً واعياً وقصاصاً مملوء الحافظة بحوادث التاريخ ونوادر الرجال، فكانت مجالسة عامرة بأعذب القصص وأطرف الحكايات وتلك ميزة محببة إلى نفوس الناس جميعاً وخصوصاً الشبان الناشئين الذين يسرهم كثيراً أن يستمعوا لأحاديث الغابرين وصور الماضي تلقيها وتعرضها عليهم شيخوخة جليلة يتكلم الزمان على لسانها ويتحدث من خلال بيانها”
” وقد نفع الله شباب هذه الجمعية بالفقيد كمؤرخ إسلامي أجل نفع، إذا كان لما يسرده من تاريخ الإسلام ورسوله الأعظم ﷺ وأبطاله ومغازيه وذكرياته وفتوح سيوفه وأقلامه، أثر بالغ خالد في توجيه نفوسهم إلى إحياء تلك الذكريات الغاليات والأمجاد الخالدات، وقد سمعت من السيد رشيد رضا رحمه الله قوله: إن العقيدة الإسلامية لا يربيها ويثبتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإن أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات، وهذا قول صادق تزيده الأيام تأييداً. فكلما زاد اطلاع المسلمين على تاريخهم ونشطت المطبعة في إخراج دفائنه ازدادت عقيدتهم رسوخاً وإيمانهم بأنفسهم وثوقاً.
” ملأ أيدي الوعاظ والدعاة الإسلاميين بالحجج المدافعة عن دينهم في مجال الجدل الديني، ومما جعل الشبان في عصمة من أضاليل الإرساليات الدينية الأجنبية التي همها تشكيك المسلمين في رسالتهم الخالدة”.
لجأ الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار إلي منهج علمي قريب من أسلوب الجبرتي في التأريخ لأحداث الثورة المصرية في 1919، وقد سجل هذا التاريخ في يومياته المعروفة بالأيام الحمراء، وقد نشرها على حلقات متواصلة بجريدة «البلاغ»، وكان يضمنها كل ما كان يعرفه ويحققه من حوادث المدن والأقاليم على نحو ما كان يتناقلها المراسلون، ساردا ما يراه من التعقيب، والملاحظة! وقد كتبت عن هذه المذكرات ثلاث مدونات نشرت في الجزيرة كما تدارستها في باب مستقل من كتبي التي تنتظر النشر بإذن الله سبحانه وتعالى.
وقد انحاز الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في هذه اليوميات التاريخية لأنباء جماهير الشعب وجعلها أكثر أهمية وتأثيرا من قرارات الحكام والوزراء! وكان بهذا سابقا معاصريه من المؤرخين الرسميين.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن هذا المنهج الذي أخذ به الشيخ النجار هو في أصله منهج تاريخي متوافق مع القيم الإسلامية، ولهذا فإنه هو نفسه المنهج الذي اتبعه من قبله الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخ الحملة الفرنسية، وكان كلا الرجلين من المقتدين بكتب الأسلاف من المؤرخين. المسلمين الذين غمطهم أهلهم حقهم.
والحق أن عبد الوهاب النجار في تأريخه للأحداث كان مؤمنا بالشعب وبدوره في الحركة الوطنية ونجاحها، وقال في مقدمة اليوميات:
«لقد لاح لي الأمل عندما أريق أول دم في سبيل المطالبة بحرية البلد، وكنت أري المظاهرات تفرق من قبل برش الماء على المتظاهرين، ولكن معارضة السلطة الإنجليزية لذلك الشعور الفياض قد أكسبت القضية المصرية عطفا عاما”.
أما أشهر مؤلفاته على الإطلاق فهو كتابه «قصص الأنبياء»، ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ النجار ألف هذا الكتاب حين انتدب لتدريس قصص الأنبياء علي طلبة التخصص في الوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين، فتصدي لأول مرة في تاريخ التحقيق النزيه إلي كشف الزيف المختلط بسير الأنبياء.
وقد رزق كتاب «قصص الأنبياء» حظا آخر لا يقل أهمية عن جهد صاحبه في تأليفه، وذلك أنه تعرض لمراجعة المنافسين لمؤلفه، وذلك بناء على قرار ذكي لعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد المجيد اللبان، الذي بادر بتشكيل لجنتين علميتين لقراءة الكتاب ونقده، فقامت اللجنتان بمجهود كبير حيث نشرتا تقريرين يتضمنان بعض مآخذ على بعض ما اشتمله هذا الكتاب!
كان الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار يتمتع بقدر كبير من الثقة بنفسه ومنهجه إلى الحد الذي جعله يثبت التقريرين اللذين كتبا عن كتابه في الطبعة الثانية من كتابه وما تلاها من عقبات، وقد عقب على كل مأخذ بما يدحضه دحضا لا شبهة فيه، وقد كان الأساس المقرر لدي الناقدين أن آراء السلف لا تقبل التعديل، وأن ما ذكره النجار يبعد في بعض اتجاهاته عما دوّن في كتب الأقدمين! وقد شمل نقد زملائه له أكثر من ست عشرة نقطة علمية، وقد شكر عبد الوهاب النجار لزملائه نقدهم فقال:
“إني لا أنكر أن لهم فضلا علي في توجيه أنظار العالم إلى الوقوف على كتابي، ولهم الفضل على لأنهم بتقريرهم هذا قد حفزوني إلى المطالعة والدرس، فازددت رسوخا في كل المعاني التي أوردتها في كتابي، وثوقا بما ضمنته ذلك الكتاب”.
كان هذا الكتاب، كما وصفه الدكتور محمد رجب البيومي، فتحا جديدا في كتابة تاريخ النبوات على مدي أجيالها منذ آدم، ونظرا لأن الشيخ ارتاد فيه مناطق كثيرة متعددة لم تكن متناولة في مؤلفات واسعة الانتشار فقد لقي ترحيبا واسعا وإقبالا منقطع النظير لكنه شأنه شأن المؤلفات الرائدة لقي انتقادات عنيفة وبخاصة ممن كانوا يلمون ببعض المعلومات عن الموضوعات التي تناولها، ونظرا لحيوية الأزهر في ذلك الوقت فقد اهتمت قيادات الأزهر، بالموضوع.
ونحن نعرف أن «قصص الأنبياء» كانت تروي في بحوث السابقين علي الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من المؤرخين والمفسرين (واللاحقين به ممن لم يقرأوا عمله العظيم) إلا مقترنة ومختلطة بمفتريات ومبالغات، ألصقها الرواة من الروايات الإسرائيلية عن عمد، وتقبلها المؤلفون عن حسن نية، وقد استغلها الوعاظ من القصاص قديما وحديثا في التشويق، فأصبحت الإضافات أصلا أو ما يشابه الأصل.
وعن الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار نفسه ننقل ملخص ما وضع أمامه من قواعد علمية، وقد سجل هذه القواعد في مقدمة الطبعة الثانية والطبعات التالية لقصص الأنبياء:
ـ إن العقل ركن المعتقدات الأول، فما أوجبه كان واجبا، وما أحاله كان محالا، وما أجازه كان جائزا.
ـ إن الخبر الوارد عن المعصوم إذا كان قطعي الثبوت والدلالة فهو حجة قاطعة على ما تضمنه، وذلك يشمل شيئين: الكتاب الكريم، والخبر المتواتر.
ـ إذا عارض الخبر العقل وجب تأويل الخبر بما يزيل هذا التعارض.
ـ الخبر إذا كان رواته آحادا، فلا يصلح أن يكون دليلا على ثبوت الأمور الاعتقادية، لأن الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع.
ـ ما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد، سواء بلغ حد الشهرة أو لا فمردود لأن نسبة الخطأ للرواة أهون من نسبة المعاصي للأنبياء.
ـ ما نقل عما يشعر بكذب أحد الأنبياء أو معصيته وكان النقل متواترا فما يمكن صرفه عن ظاهره صرف إن أمكن، وإلا فيحمل على أنه ترك الأولي أو قبل البعثة.
ـ المعجزات لا تثبت بخبر الآحاد، لأن المطلوب فيها اليقين، وخبر الآحاد لا يقين فيه.
ـ إنكار المعجزة الثابتة بنص قطعي الثبوت والدلالة كفر.
ـ الإسرائيليات لا حرج في مخالفتها، ولا في إنكارها جملة وتفصيلا.
ـ كتب العهد القديم والجديد ما كان منها موافقا للقرآن فهو حق، وما كان منها مخالفا للقرآن فهو باطل، وما كان القرآن ساكتا عنه فلا نقطع بصدقه أو كذبه، ويجوز نقله والاستئناس به.
ـ أقوال المفسرين ليست حجة قاطعة فيما نصت عليه، بل هي أوجه، كما يجوز حمل القرآن عليها يجوز مخالفتها، وحمل عبارته على غيرها، ولا مؤاخذة على مَنْ خالفها.
ـ القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد غرائبه، فلكل أمرئ أن يتدبره بعقله، ويفهمه على الوجه الذي يستقر في اعتقاده، بشرط أن يكون ذلك جاريا على مقتضي العربية غير مخل بفصاحته، ولا مخل بشيء من مقاصد الدين.
وقد ختم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار هذه القواعد بروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال الأول: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي»، وعنه أيضا أنه متي اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وحيث قال الثاني: «ما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين».
كان الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار كما وصفه أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي كثير الاستشهاد بالأمثلة السائرة، والآيات الذائعة، والحوادث التاريخية مما يدل على سعة اطلاع، وحضور ذهن، وذلك بعض ما قرّب حديثه ومقاله من النفوس.
“وأذكر أن الأستاذ محمد خلف الله قد خص أبا الفرج الجوزي بحديث تحليلي أثبت فيه براعته الفائقة في تصيد النوادر، وجمال الاستشهاد، وحسن المحاضرة، وامتلاء الذاكرة بأطايب المفاكهات، وروائع القصص، وشوارد الآيات، ثم قرنه في ذلك بالأستاذ عبد الوهاب النجار الذي يجمع خصائص ابن الجوزي جمعا جذب إليه كثيرا من المريدين وجعل حديثه فاكهة المجلس، ومحاضراته ريحانة الأندية!».
كان الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار على اتصال وثيق بأوساط الأدباء، ويكفي أن نذكر علاقته بالشاعر حافظ إبراهيم وغيره من أرباب القلم، و قد كانت ملكة لتاريخ تدفع هذا الأستاذ العظيم الى كتابة تاريخ بعض الادباء الذين لم يؤرخ لهم أحد غيره ، وفي هذه المقالات زاد لا ينقطع لتاريخنا التعليمي و الأزهري ، ولحياة الأدب والساسة والمجتمع على نحو ما سنراه مما اخترناه له .
وقد اخترت للقارئ ما افرد به مما كتبه في تاريخ شخصيتين أدبيتين مهمتين في مقالين ممتعين نشرهما في الرسالة في يوليو ١٩٣٥ ومايو ١٩٣٦
” أقول جندي فقط لأنه لم يكن ضابطاً كريماً ولا ضابطاً عظيماً ولا ضابطاً صغيراً، بل كان جنديا. وكفى
والذي أتحدث إلى حضرات الأدباء عنه، أعتقد أن أحداً منهم لا يعرف عنه شيئاً. وهو المرحوم الشيخ المعمر محمد أفندي التميمي بن المرحوم احمد التميمي مفتي الديار المصرية. وكان والده المرحوم الشيخ أحمد التميمي من أهل مدينة الخليل بفلسطين ومن علمائها ومن ذرية تميم الداري. وقد آتى به إلى الديار المصرية ساكن الجنان إبراهيم باشا جد مولانا الملك فؤاد، وعين مفتياً للديار المصرية. وظل بتلك بالوظيفة إلى ان عزل بالمرحوم (أي حل محله) الشيخ محمد العباسي الحفني المهدي (وقد تولى الشيخ المهدي إفتاء الديار المصرية وهو طالب بالأزهر).
“مات المرحوم الشيخ احمد التميمي عن ولديه عبد الرحمن أفندي ومحمد افندي؛ فإما عبد الرحمن فأسرع في تركة والده إسراعا شديداً، فانشأ له ذهبية (عوامة ) في النيل وجعل مقابض مداريها من الذهب، والجزء الذي يغرز في الطين من الفظة، وجعل نعال خيله (الحدوة ) من الفضة! وكان أخوه محمد لا يعصي له أمراً، فكلما أراد بيع عمارة أو بيت أمضى محمد مع أخيه عبد الرحمن واعترف بقبض ثمن حصته، وهو في الواقع لا يناله من ذلك سوى النزر اليسير، فلما فرغت الراحة، عمد محمد أفندي إلى اسطنبول ليجد واسطة من أصدقاء والده ليعين في وظيفة. ولست اعلم إن كان أخوه عبد الرحمن أفندي سافر إلى اسطنبول أولا، وآخر عهدي بعبد الرحمن أفندي أنه كان مأمور مركز؛ وكانت له ورشة نجارة بطنطا، لأنه أتقن فن النجارة أيام أن كان مهيمناً على عمارات والده.
” كان المرحوم محمد أفندي التميمي مغرماً بالتدخين في النرجيلة (الشيشة)، فلما كان في اسطنبول خرج إلى متنزه اسمه (الكاغد خانه) ومعه النرجيلة يدخن فيها، وجاءت السيدات والأوانس من كل صوب وحدب إلى ذلك المكان النزه. ونظر فوجد بقربه سيدة جميلة رشيقة قد جلست ومعها سيدة أخرى. وحانت من السيدة التركية التفاتة فرأت ذلك الرجل الذي يلبس جبة وقفطاناً وعمة خليلية منهمكاً في كتابة شيء، فحزرت أنه يكتب عنها، فأرسلت السيدة الأخرى إليه وكانت تحذق العربية فسألته عما يكتب، فناولها ما كتبه فقرأت:
ظل قلبي في غزال … من بنات الترك يُفكرْ
رمت منها الوصل قالت … سن صقللي هيدا سكتَر
“أي أنت ملتح، هلم فأذهب! فأسرعت إلى السيدة التركية وأرتها ما كتبه وترجمت لها بالتركية ما في الكتابة من ألفاظ عربية فسرها ما سمعت، وحلفت بالمحرجات من الأيمان إلا ما حل عندها ضيفاً الليلة.
ولما كان بتفتيش السنطة ومركزه القرشية عين ناظراً لورشة التصليحات التي أنشأها ا(الخديو) إسماعيل باشا لإصلاح الآلات الميكانيكية، وكان بناؤها سنة بضع وسبعين ومائتين وألف هجرية؛ فمر التميمي بالحدادين يحمون الحديد إلى درجة الاحمرار ثم يفطحونه بمطارقهم. فقال موالياً أوله:
لان الحديد للمعلم والحبيب ما لان
وقد ند عن ذاكرتي باقيه (أي نسيه)
” وله لطيفة وهو بالورشة، فأن المرحوم خلف الله باشا عين مفتشاً لتفتيش السنطة والهياتم؛ فلما استقر به المقام طلب إحصاء بالعمال الذين بالورشة ومرتب كل واحد منهم أو يوميته، فلما نظر في ذلك الإحصاء وجد (خوجة لتعليم العمال القراءة والكتابة وإرشادهم في أمر دينهم، ومرتبه جنيه في الشهر) فقال: هذا الخوجة لا لزوم له. فقال التميمي: إني فكرت فيما فكر فيه سعادة الباشا وأردت رفته ولكني وجدت الرجل يصلي بالناس الصلوات الخمس بالمسجد مجاناً، ويخطب الناس يوم الجمعة والأعياد بلا مقابل، فقلت أتركه الآن حتى يأتي (أبن الحلال) الذي يكون قطع رزق هذا الرجل على يده. والحمد لله سعادتكم، شرفتم ويمكنكم أن تعملوا ما لم أعمله. فقال خلف الباشا: والله لا أكون ابن الـ. . . الذي يقطع رزق هذا الرجل على يده. وبقي الرجل في هذه الوظيفة عشرات من السنين إلى أن توفى.
“وكان له صديق مثر من المال، علم أن التميمي اعتزم الزواج، وما بينهما من المودة يقضي عليه بتقديم المساعدة و (النقوط)، فأحدث غضباً لا أصل له، (أي تذرع بالغضب والمغاضبة من لا شيء) وفطن التميمي فكتب إليه:
إن قوماً أبغضونا … خيفة من قول هاتِ
قل لهم في يوم عرسي … نقوطنا بالسكاتِ
والأمثال لا تغير
” ولما نقل المرحوم إبراهيم أدهم باشا من تفتيش السنطة والهياتم وعين مديراً للغربية، طلب أحد العمد، فخشي العمدة أن يعتريه الباشا المدير بسوء، وجاء إلى التميمي ليكتب إلى الباشا خطاب عناية به فكتب:
قد ظن هذا رجائي عندكم فأتى … مستشفعاً بيَ فعلَ الطامع الراجي
قد ظن عكساً وقصدي من سعادتكم … أن تضربوه جزاءً ألفَ كرباج
” وأخذ الرجل الكتاب بعد أن ألصق جوانبه بالبرشام وهو يكاد يطير من الفرح، وقدم على الباشا وناوله إياه، فأغرق الباشا في الضحك وعفا عنه.
” وله رجز في الفلاح حين واتاه القطن في نحو سنة 1280 عقب حرب أمريكا، واقتنى الجواري البيض والعبيد، وتأنق في المأكل والملبس، أحفظ منه:
من بعدَ خضْرَا صار يَقْني كلفدان … وطعامه قلدر وخادمه أمان
ولكم مصاغ علقه بعضهم … من فوق زوجته الكئيبة ستهم
تلقاه يرمي اللفظ كالجالوس … ويقول عندي نسخة الجاموس
رواية الشيخ عبد الوهاب النجار لقصة التميمي مع النديم
“وفي أيام اختفاء عبد الله أفندي النديم بالقرشية عند المرحوم أحمد باشا المنشاوي، وكان يسمي نفسه السيد علي الإدريسي اليمني، كان النديم يجالسه كل ليلة ولا يدري حقيقته. وكان المجلس يمتد بهما إلى ما بعد نصف الليل. ففي ليلة سأل المنشاوي باشا جليسيه عن أرباب الجرائد، فكان عبد الله النديم يسرع ويجيب ويسبق التميمي إلى الجواب، فقال المنشاوي باشا: وما تقولان في صاحب اللطائف؟ فسكت النديم أو السيد علي الإدريسي اليمنى وتكلم التميمي، وقد رابه شأن النديم ولم يقم من المجلس إلا وهو موقن بأن جليسه في هذه السنوات هو عبد الله النديم، فلما رجع إلى بيته كتب إليه:
يأيها الحبر الذي … كالبحر يبعد ساحله
من كان مثله فاضلاً … نمت عليه فضائله
” وأرسل البيتين مع الخادم؛ فلما قرأهما النديم ارتاع وخشى على نفسه. فلما جن الليل وجاء محمد أفندي التميمي على عادته لقيه بالعناق، وكتم التميمي أمره، إلى أن أعلنه الذي قال إنه علم بالنديم بالجميزة، وكان الواقع إن النديم أعلن نفسه لذلك المخبر بعد أن مضى على الحكم عشر سنوات شمسية وأحد عشر يوماً.
” وللتميمي قصائد لا احفظها ولا أجد من يقفني عليها الآن؛ وهو أول من أبرز رواية بالعربية وسماها أم حكيم، وقد مضى على إبرازها أكثر من خمسين سنة.
علاقة الشيخ التميمي بوالد الشيخ عبد الوهاب النجار
” وقولي انه معمر سببه أن التميمي كان قد تولى عمارة مسجد وضريح سيدي فخر الدين ببلدة طوخ مزيد في عهد المرحوم إسماعيل باشا، وكانت العمارة ينفق عليها من دائرة ثالثة أزواج الخديو إسماعيل، وأحيلت الكتابة على والدي رحمه الله وكانا قريبين في العمر. وكنت إذا سألت كلا منهما عن الأسن منهما اتهم كل منهما الأخر بأنه أسن منه، وقد توفي والدي سنة 1919 عن نحو مائة سنة، وعاش محمد أفندي التميمي بعده من أربع إلى خمس سنوات، واعتقادي انه أربى على المائة فهذا الرجل في نظري هو جندي الأدب المجهول
مقاله المتفرد عن الأديب الشيخ محمد النجار صاحب الأرغول
كتب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار مقالا مهما عن هذا الأديب شبه المشهور وشبه المغمور في عدد مجلة الرسالة الصادر في 18 مايو ١٩٣٦ ، وكان مقاله تعليقا على محاضرة لرائد من رواد الأدب الشعبي هو الأستاذ حسين شفيق المصري.
كتب الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار ضمن ما كتب يقول :
” لمناسبة ما ذكره الأستاذ حسين شفيق المصري عن صاحب الأرغول في محاضرته القيمة في تطور الصحافة الأسبوعية : فالشيخ محمد النجار شخصية غير مجهولة في عالم الأدب في غروب القرن الماضي وفجر القرن الحاضر ، كان المرحوم طالباً بالأزهر الشريف نابهاً بين إخوانه، يجمع الطلبة الذين هم أقل منه ويدرس لهم من العلوم الأزهرية ما هم في حاجة إليه فلما جاء الشيخ محمد العباسي المهدي شيخاً للأزهر لم يجد به نظاماً يتبع في إعطاء إجازة التدريس ولا دفتراً يضم أسماء العلماء بالأزهر، بل كان من آنس في نفسه قوة وأهلية للتدريس أعد نفسه لتدريس أحد الكتب ودعا الطلبة والعلماء لحضور ابتداء درسه، فإذا أداه حق الأداء وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت إليه والاعتراضات التي اصطدم بها من الطلبة والعلماء عد عالماً، وذلك بتهنئة العلماء إياه وثنائهم عليه، وعليه بعد ذلك أن يدعو جلة العلماء والفضلاء إلى مأدبة يعملها لهم شكراً على نجاحه وفلاحه ، أما إذا لم يسدد إلى سداد، ولم يوفق في درسه إلى صواب، فإن العلماء ينصرفون عنه دون تهنئته، وحينئذ يتبين الجمهور أنه أخفق ولم يوفق. “
“عزم الشيخ العباسي المهدي على أن يسجل أسماء العلماء الذين يدرسون في الأزهر لذلك العهد وألا يدخل في زمرتهم أحد بعد ذلك إلا إذا اجتاز امتحاناً يعقد لذلك، وعين العلوم [التي] على الطالب أن يمر فيها بنجاح في ذلك الامتحان.”
” كان في ذلك العهد يوجد عالم بالأزهر قد بلغ من الكبر عتياً أسمه الشيخ محمد النجار (غير صاحب الأرغول) وقد ذهب ذلك الشيخ إلى بلده ومات بها ولا يعلم بذلك أحد. فلما شرع الشيخ المهدي في تسجيل أسماء العلماء المدرسين بالأزهر أملى بعض العلماء أسم الشيخ محمد النجار، وكان الكبير الذي يحمل ذلك الاسم قد مات قبل ذلك لوقت ، ولا يوجد ممن يدرس للطلبة بهذا الاسم سوى الشيخ محمد النجار (صاحب الأرغول فيما بعد)، فتلقف هذه الوظيفة النجار الفتى إذ لا يوجد بازاء الوظيفة ما يميز نجاراً من نجار.
بعد أن أتم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار روايته الشائقة هذه، أشار بأمانة إلى مصدرها فقال:
” بهذا أخبرني العلامة الأديب المرحوم الشيخ محمد أبو راشد إمام المعية في عهد الخديو السابق عباس حلمي باشا الثاني”.
” عين الشيخ محمد النجار [بعد ذلك] مدرساً بالمدارس الأميرية مع بقائه مدرساً بالأزهر إلى أن كان مدرساً بمدرسة الفنون والصنائع الأميرية ببولاق وقد كانت نظارة المعارف في ذلك العهد ليس بها درجات للمدرسين ولا نظام للعلاوات وإنما كان ينال من العلاوات من يصادفه الجد ويسعده الحظ. وقد عبر الشيخ النجار على ذلك مدة من الزمن، وكلما آنس أن العلاوة ستسعده بعدت وأخطأته أو تخطته.
روايته لزجل الشيخ محمد النجار في علي مبارك باشا
فلما كان عهد تولية علي مبارك باشا نظارة المعارف عمل له زجلاً يشكو به حاله وقدمه إليه.
وهأنذا أنص ما وعته ذاكرتي منه:
الدهر دا ديْماً غدار … لكنه عَ العاقل أكتر
والسعد يأتي بالأقدار … والرزق مقسومْ ومقدر
الدهر ديْماً مع الأحرار … يقول حاوريني يا طيطه
تلقى الردِى بخته طيب … والحر لُو بخت قليطه
ودا غنى بيتو فشبراً … ودا انزرع في التبليطه
ودا حمار وراكبلو حمار … مبسوط بأنه سي بعجر
الناس خدامتها سهلة … وان خدامتي في اتعاب
في كل يوم الصبيحه … أمشي إلى بولاق قراب
واللي أبات فيه أصبح فيه … رايح وجي من الكُتاب
خوجه وعايز حق حمار … ولي ماهيَّه لا تذكر
امتى أفوت مشوار بولاق … واعرف أنا الآخر بختي
وأفوت بتوع حياك الله … وبتوع حبرتك يا ستي
كتب علينا (قل سيروا) … فيها مصيَّف ومْشَتي
الشمس فيها زي النار … وفي الهوا دايماً تعفر
يا أهل المعارف والأنصاف … أنا جرالي معاكم إيه
تأخروني بالمرة … وتقدموا الغير عني ليه
البيه يقول روح للباشا … والباشا يأمر روح للبيه
وأنا كدا واقف محتار … زعلان ومغموم ومكدر
قالوا الديوان عامل ترتيب … وبالزيادة لك جادوا
يا حلم وان صحت الأحلام … وطلعت أنا في اللي زادوا
ورحت أرجو سيدي فلان … والعبد يترجا اسيادوا
وضع أمام اسمي أصفار … حتى بقي حالي يصفر
لا أنا مساعد في الساحل … ولا قريب الشيخ قفه
ولا صعيدي بياع دوم … خالي حمد سرق الزلفه
ولا مراكبي لي مركب … عويلها مربوط بالدفه
إلا شريف جدي المختار … عالم مدرس بالأزهر
بحث الشيخ محمد النجار عن نظيره في الزجل في المنيا
” وكان [الشيخ محمد النجار] رحمه الله راسخ القدم في فنون الأدب، فكان ينظم المواويل الحمر ويساجل أبطالها، كان يوجد رجل بمديرية المنيا اسمه الشيخ عبد الله لهلبها ينظم المواويل، وقد ذهب المرحوم الشيخ محمد النجار إلى المنيا وبحث عن الشيخ فلم يجده فترك له موالاً عند عبد القادر أفندي إدريس وهو:
والله ما حرق الأحشا ولَهْلِبْها … ولا أذاب مهجتي إلا ولَهْلبها
ونزلت في أرض لا ناسي ولهلبها … وجيت أدور على مواوي يواويلي
قالوا ما فيش إلا أبو كراع في بلدة ولهلبها
أما ما رد به عبد الله لهلبها على هذا الموال فعند عبد القادر أفندي إدريس
وكان [الشيخ محمد النجار] رحمه الله يبتدئ الموال ويتحدى الأدباء يريد منهم تكملته فلا يجد. وربما زاد قسما آخر بعد ذلك في الموال. فيعي الأدباء [أي يعجزون] عن ذلك من هذا قوله:
مغزل حماتك سقط ضاعت تقافيله
فلما لم يظفر بتكملته زاد عليه:
ما تنظر الديك والفرخه تقاقي له
ومن ذلك أيضاً قوله:
مغزل حماتك سقط ضاعت سنانيره – ثم زاد -: فضل المعدل يعدل في سنانيره
وكان رحمه الله سريعاً إلى النكتة، حاضر البديهة. فمن ذلك أنه مر بصديق له، فقال له الصديق: يا شيخ محمد، ازاي الأرغول؟ – فأجابه بقوله: (بِنَفَسك ماشي)
كانت أعظم رحلة قام بها الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في خدمة أهداف جمعية الشبان المسلمين هي رحلته إلى الهند سنة 1936 مع البعثة الأزهرية التي بعثها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي لدراسة شئون طائفة المنبوذين في الهند تمهيداً لدعوتهم إلى الإسلام ولدراسة شئون إخواننا المسلمين هناك عن قرب، وإنشاء روابط تعارف بين رجالنا ورجالهم .
” وتنقل الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في هذه الرحلة بين بلاد الهند الواسعة يخطب ويكتب ويتحدث، وهو الشيخ المعمر الذي يحتاج إلى الراحة السكون. . . هي أعظم شهادة له تدخله في عداد المجاهدين الصادقين والعلماء العاملين الذين وهبوا الله جهودهم وأعمالهم بعدما وهبوه ألسنتهم وأقلامهم إلى آخر رمق من حياتهم. والذين يعلمون أن العمل للإسلام في هذا العصر لا يكون بتحصيل العلوم وتأليف الكتب وحدها بل لابد معه من النزول إلى ميدان الجهاد العملي والاشتراك في المعترك الأبدي بين الخير والشر والإصلاح والإفساد. . . وإن أدراك الحق ورسمه على الصحف أمر سهل جداً على النفوس، ولكن العمل على تحقيقه وتجسيمه بين الناس متمثلاً في أشخاص وأعمال مهمة شاقة، لا يحتملها إلا أُلو العزم من محبي الإصلاح.
كتب الأستاذ عبد المنعم خلاف في مجلة الرسالة في اول ديسمبر ١٩٤١ كلمة حول جهود الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في جمعية الشبان المسلمين فقال فيها ضمن ما قال:
” لما قبض الله إلى جواره الكريم المغفور له المجاهد الشيخ عبد العزيز جاويش بك الوكيل الأول لهذه الجمعية، تلفت أعضاؤها يبحثون عمن يملأ مكانه الخالي، فلم يجدوا غير فقيدنا العزيز الذي اجتمعنا اليوم لتأبينه. إذ كان الشيخان نظيرين في الدعوة إلى الله والعلم بأسرار الإسلام والبذل في سبيله والوقوف على أسرار تشريعه ومناهج دعوته، مع اطلاع واسع في مقارنات الأديان، وقدرة على حل كثير من العقد الاجتماعية التي تشغل بال الشباب في ظروف الانتقال الخطير التي يجتازها الشرق الإسلامي ، وإذا كان الأستاذ جاويش لم يمد الله في أجله طويلاً في خدمة هذه الجمعية، بعد أن اشترك بجاهه وخبرته في دور تأسيسها، وتمهيد العقبات الأولى أمامها، فقد مد الله وبارك في خدمة الأستاذ النجار لهذه المؤسسة حتى نمت واتسعت جهودها الدينية والاجتماعية فمنذ ثلاث عشر سنة والفقيد دائب على القيام بواجباته فيها، يأنس به الشبان ويستفتونه في قضايا الإسلام والشبهات التي تترامى على عقولهم في فترة الانتقال واحتكاك العقل الشرقي بالعقل الغربي، وهو يفتيهم ويدحض ما يحوك في صدورهم من الشبهات، ويدخل على قلوبهم الطمأنينة ويرد اليقين وقوة العقيدة .
وقد أشار الأستاذ عبد المنعم خلاف إلى الدور المبكر للأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في تأسيس جمعيات نسوية للدعوة الدينية بين النساء:
” وحين رأت [جمعية الشبان المسلمين] أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بصلاح نصفها الذي طال إهماله – أعني نساءها – لأنهن الأساس في بنائها والمتصرفات في قلوب نشئها، وعزمت أن تنشئ لهن دروساً دينية عهدت إلى الفقيد بإلقائها وتنظيمها بالاشتراك مع المغفور له شيخ العروبة أحمد زكي باشا. فنهضا بذلك نهضة كان لها أثرها. إذ حملت كثيراً من فضليات السيدات الآنسات المسلمات على تأسيس جمعيات نسوية للدعوة الدينية بين النساء وتوجبهن إلى فهم أسرار دينهن، مما يبشر بتحقيق الآمال في حركة الإصلاح.
قيادته لنشاط جمعية الشبان المسلمين في البلاد الإسلامية
كذلك أشار الأستاذ عبد المنعم خلاف إلى أن نشاط الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار لم يكن قاصرا على خدمة أغراض هذه الجمعية في داخل حدود مصر، بل تعداها إلى البلاد العربية والإسلامية الشقيقة، فقام إليها بسفارات عدة وأسفار بعيدة؛ إذ اشترك في أول مؤتمر إسلامي عام حين عقد بالقدس خاصاً بقضية فلسطين 1931.
وتزعم الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار الرحلة التي قام بها جوالة الشبان المسلمين في صيف السنة ذاتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان. وكان وجوده على رأسها من أعظم أسباب الترحيب بها والالتفات إليها من السلطات والأندية الدينية والاجتماعية التي كان له فيها ذكر مرفوع.
ثم قام الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار برحلة مع جوالة الشبان المسلمين كذلك إلى تركيا في صيف 1934
كانت للأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار مئات المقالات في صحائف «اللواء» و«الأهرام» و«الجهاد» و«كوكب الشرق» و«في مجلات «الرسالة» و«الإسلام» و«مكارم الأخلاق» و«الشبان المسلمين» و«الهلال» و«دار العلوم» و«الجامعة المصرية».
لف الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار عمله الموسوعي القيم كتاب «تاريخ الإسلام» في ستة أجزاء، طبع منها جزآن فقط.
ـ قصص الأنبياء، طبعات متعددة لا حصر لها.
ـ تاريخ الخلفاء الراشدين.
ـ مذكرات عن الهند، مخطوط عن رحلة له إليها.
قصيدة الشاعر الجارم في رثاء المؤرخ عبد الوهاب النجار
في هذه القصيدة التي حملت عنوان “جُرح لم يندمل” يُمارس الشاعر علي الجارم قُدراته الشعرية بنفس طويل وعلى نطاق عريض، وبتدفُّق نادر يجعلها أكثر قصائده تدفُّقاً ، وهو لأسباب متعددة يجد نفسه يستعرض قدراته المتميّزة في شعر الحكمة وبخاصة الحكمة التي تتعلق بالحياة والموت، لكنه يبدو متأثراً بسبب الحزن بالفكرة العدمية، مع أن هذا لا يتناسب مع عقيدته ولا مع شعره ولا مع فكره، لكن هذا المنوال من الحديث عن الحكمة في قضايا الحياة والموت عندما يأتي إليه الشعر لينسج عليه في قصائد الرثاء لا يقود إلا إلى هذا التفكير العدمي أو شبه العدمي على أقل تقدير، وما بالك بالجارم الضحوك وهو يصل في البيت التاسع عشر من قصيدته في رثاء الشيخ عبد الوهاب النجار إلى أن يقول أنه إذا كان الفناء إلى بقاء فإن أفضل دواء هو ما يكون سببا للعلة لأنه يقود إلى الفناء الذي هو بقاء.. قبل هذا البيت مباشرة كان الجارم قد مضى مع قواعد المنطق إلى أن اعترف بحيرته لا اعتراف العاجز أمام قدرة الله، وإنما اعتراف المكابر الذي يستند إلى قواعد المنطق ويظن أن كل شيء لا بد أن يخضع لها، حين يقول إنه رأى لكل مشكلة حلاً لكن مشكلة المنية ليس لها حل! وفيما قبل هذا فإن الشاعر علي الجارم على سبيل المثال يعود بالذنب على الدنيا في البيت الثالث عشر حين يقول إنها الدنيا التي ليس لها ذمام ولا صاحب.. يصل الشاعر علي الجارم إلى كل هذه الحكمة اليائسة بعد أن يُصور في المطلع الأول وعلى مدى أحد عشر بيتا من الشعر الجميل افتقاده لأصدقائه الذين ذهب بهم الموت فأصبح يناديهم فلا يجيبون شأنهم شأن البشر من لدن آدم عليه السلام.
أقاموا بعضَ يومٍ فاستقلُّوا / فطار القلبُ يخفِقُ حيثُ حلُّوا
مضت بهمُ النجائبُ مُصْعِداتٍ / تَمَلُّ بها الطريقُ ولا تَمَلُّ
زواملُ لم يُعوِّقُهُنّ ليلٌ / ولم يُثْقِلْ كواهلَهُنَ حِمْل
رآهَا آدمٌ، وَعَدَتْ بنُوحٍ / وولَّى بعدَها نَسْلٌ ونسل
يسايرهُنَّ أنَّى سِرْنَ بَيْنٌ / ويتبعهُنّ حيثُ ذهبنَ ثُكّل
هَوَتْ أمُّ الَّركائب؟ كيف سارت؟ / وهل تدري الركائبُ من تُقِلّ؟
أسائلها ، وقد شطّتْ ، وقوفًا / وأيْنَ من الوقوفِ المُشْمَعِلُّ؟
طفِقْتُ أمدُّ نحوَ الركبِ طَرْفي / فَغَصَّ الطرفَ كُثْبانٌ ورمل
وقمتُ أُطِلُّ من شَرَفٍ عليهم / فخانتني الدمُوُع فما أُطلّ
وناديتُ الحبيبَ فعاد صوتي / وفي نَبَراتِه هَلَعٌ وخَبْلُ
أصاخ له من الصحْراء نَجْدٌ / فردّده من الصحراء سهل
إذا بدت الغزالةُ ثم غارت / علِمنا أن هذا العيشَ ظِلّ!
هي الدنيا، فليس لها ذِمامٌ / وليس لها على الأيام خِلّ
إذا أعطت فقد أعطت قليلًا / ولا يبقَى القليلُ ولا الأقل!
تدورُ: فبيْنَ شيخٍ أسكتته / مَنيَّتهُ، وطفلٍ يَسْتهِلُّ
لها نَهَلٌ من الأممِ المواضي / ومما تَنْسُلُ الأيامُ عَلّ
نعودُ إلى الترابِ كما بدأنا / فكُلُّ حياتِنا نَقْضٌ وغَزْل!
رأيتُ لكلِّ مشكلةٍ حُلولًا / ومشكلةُ المنيَّةِ لا تُحلُّ!
إذا كان الفَناءُ إلى بقاءٍ / فأنجَعُ ما يُصِحُّك ما يُعِلّ!
و في البيت العشرين يبدأ الشاعر علي الجارم من الاقتراب من صفات الشخص العظيم الذي يرثيه فيختار لوصفه أنه كان غصنا رطيبا ، ويفيض في وصف صفاته التي جعلته يستحق هذا الوصف، ويبلغ القمة في هذا الوصف حين يقول في البيت السادس والعشرين أنه كان يشم ريح الخلد في هذا الغصن، ويتمتع بالهناءة في ظله، وكان يظن أنه هو الذي سيسبقه إلى الموت فإذا بهذا الترجي لا يحدث (في البيت السابع والعشرين) ولهذا فإن فؤاده يذوب من الأسى عليه (في البيت التاسع والعشرين).
بنفسي في الثرى غُصنًا رطيبًا / يرِفُّ من الشبابِ ويَخضَئل!
تُضاحكُه لدى الإصباحِ شمسٌ / ويلثِمه لدى الإمساء طَلّ
كأنّ حَفيفَه نَضْرًا وريقًا / بسمعي حَلْيُ غانية يصِلُّ
يميلُ به النسيمُ كأنّ أُمًّا / يميلُ بصدرِها الخفَّاقِ طفلُ
إذا اشتبهت غُصُونُ الروضِ شكْلًا / فليس لقدِّه في الحسنِ شكلُ
ضَننْتُ به وجُدتُ له بنفسي / وإنّ الحبَّ تبذيرٌ وبُخل
وكنتُ أشمُّ ريحَ الخُلْدِ منه / وأهنأ في ذَراه وأستظِلّ
وقلتُ: لَعلّه يبقَى ورائي / بدَوْحَتِه، فما نفعت «لَعلّ»
فَسَلْ عنه العواصفَ: أيُّ نَوْءٍ / أطاح به؟ وأيُّ ثَرَى يحُلّ؟
نأَى عنّي وخلّف لي فؤادًا / يذوبُ أسًى عليه ويضمحلُّ
يُبلُّ على التداوي كلُّ جُرْحٍ / وجُرْحُ القلبِ دامٍ لا يُبِلّ!
ويفتتح الشاعر علي الجارم المقطع الرابع (في البيت الحادي والثلاثين) بصورة تبدو قاسية ومنفرة لكنها تُعبر عن مدى الألم الذي اجتاحه بوفاة الأستاذ النجار الذي أصبح واجب رثائه تعذيبا للمذبوح الذي هو الجارم الراثي، وتعذيب الذبيحة لا يحل، ويجعل هذا البيت مدخلا للحديث عن الصعوبة التي يلقاها رثاء هذا الصديق العزيز على نفسه بما يجلبه عليه الرثاء من الدموع المتصلة والاشجان،وآلام الجريح ، وافتقاد النبل، والتهاب النار ، وسيطرة الحزن على الفقيد لكثيرين قرب بينهم الحزن عليه حتى أصبحوا كالأهل بسبب هذا الحزن المشترك. ويختم الشاعر علي الجارم هذا المقطع ببيت جميل يتسامى في رقيه وهو يستشهد ببكاء النبي صلى الله عليه وسلم على طفله فيقول: بكى خير البرية خير طفل، ودمع العين في الأحداث نبل.
أشرتم بالرثاء فهجتموني / وتعذيبُ الذبيحةِ لا يحِلُّ
فضلَّ الشعرُ في وادي الثُكالَى / وكان إذا تحفَّز لا يضِلّ
خذوا مني الرثاءَ دموعَ عينٍ / تَكِلُّ المعُصْرِاتُ ولا تكِل
وآلامَ الجريح، أطلّ نَبْلٌ / يزاحم جانبيْه وغار نَبل
وشعرًا يُلهبُ الأشجانَ جَزْلًا / كما أذكَى لهيبَ النارِ جَزْل
فليس له مع الأنّاتِ خَبْنٌ / وليس به مع الزفَرات خَبْلُ
له نَغَمٌ يعِزُّ عليه مِثْلٌ / على ماضٍ يَعِزُّ عليه مثلُ
لعل به لمن فُجعوا عزاءً / فإنّ جميعَنا في الحزنِ أهل
فقد يشفي بكاءٌ من بكاءٍ / كما يشفى أليمَ الْجُرْحِ نَصْلُ
بكى خيرُ البريةِ خيرَ طفلٍ / ودمعُ العينِ في الأحداثِ نُبل
وبدءاً من البيت الحادي و الأربعين يبدأ حديث الشاعر علي الجارم عن الاستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار بالاسم الصريح والصفات التي يختصه بها من قبيل أنه يراه حصنا للسمو بكل معانيه، وان احداً لا يصل إلى سموه فقد وضع على حصن العلياء باباً وقفلاً، ومن قبيل أنه استخدم العقل في جمع العلم وهي عبارة جميلة واثقة وملخصة لمنهج الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه التاريخ كتابة اعتمدت على العقل في المقام الأول ولهذا أنبتت علما متماسك الشمل، وينتقل الشاعر علي الجارم في سرعة بالغة إلى الحديث عن موهبة النجار الخطابية، وقدراته البيانية الفذة، التي تعتمد على موهبة رزقها الله سبحانه وتعالى له وهكذا يبدو الجارم وكأنه اعتبر أن بيان النجار المشرق واعتماد إنتاجه العلمي على العقل ميزتان كفيلتان بكل ما حقّقه ذلك العالم الكبير من فضل في مجال التأليف والتأريخ.
مضى «النجارُ» والعلياء حِصْنٌ / عليه بعده بابٌ وقُفْل
به جمع الحجا للعلمِ شَمْلًا / فبُدِّد بعده للعلم شمل
له حججٌ يُسمِّيها كلامًا / وما هي غيرُ أسيافٍ تُسَلّ
إذا فاضت ينابعُه خطيبًا / علمتَ بأن ماءَ البحرِ ضَحْل
يذِلُّ له شَموسُ القوْلِ طوْعًا / ويستخذِي له المعنى المُدِلّ
بيانٌ مشرقُ اللمحاتِ زاهٍ / وقولٌ صادقُ النّبرَاتِ فَصْل
وآياتٌ ترى فيها «ابنَ بحرٍ» / يصولُ كما يشاءُ ويستدلّ
يفُلُّ شَبا الخصومة كيف كانت / برأيٍ كالمهنّدِ لا يُفَلّ
فذاك الفضلُ، جلّ اللهُ ربّي! / فليس يُحَدُّ للرحمنِ فضل
ثم يمضي الشاعر علي الجارم بالقصيدة ومعها ليصف ذكرياته مع الشيخ النجار في مرضه حين كان الموت يدنو إليه، ومن العجيب أن الجارم في وصفه يشير بوضوح إلى أن الشيخوخة كانت بلغت مبلغها من الرجل ، مع أنه في مطلع قصيدته يبدو وكأنه فوجئ بوفاته ، ومع هذا فإن وصفه للحالة الصحية للشيخ النجار دقيق وموح بالنهاية: فوجهك ذابل والصمت همس ومشيُك واهن الخطوات دأل ، بل إنه يعتبر أن مشية الشيخ النجار كانت بمثابة السعي إلى القبر بإحدى رجليه (البيت الثالث والخمسين)
رأيتكَ والردَى يدنو رويْدًا / إليكَ كما دنا للفتك صِلُّ
فوجهُك ذابلٌ، والصمتُ هَمْسٌ / ومشيُك واهنُ الْخُطَواتِ دَأْل
تجرُّ وراءكَ السبعين عامًا / وللسبعينَ أَرْزاءٌ وثِقْل
مشيتَ كأَنّ رِجْلًا في بساطي / تسيرُ بها، وفوق القبرِ رِجْل
و يروي الشاعر علي الجارم أن الشيخ النجار جاء لزيارته، وأنهما تعانقا عناق المحبين وأنه شكا له المشيب وافتقد الشباب فأطراه وأنه أخذ يمازحه وهنا ينساب من شعر الجارم بيت من روائعه في بساطتها: إذا أمل الفتى فالهزل جد ، وإن يئس الفتى فالجد هزل.
أتيتَ تزورني فهُرِعْتُ أسعَى / إليكَ، ودمعُ عيني يستَهل
وكان عِناقُنا لمّا افترقنا / وَثَاقًا للمودّةِ لا يُحَلُّ
ذممتَ لِيَ المشيبَ وفيه حَزْمٌ / وأطريتَ الشبابَ وفيه جهل
وأين الْحَزْمُ ويْحَكَ يا ابنَ أُمِّي / إذا ما خانني جسمٌ وعقل؟
أتذكرُ إذ تَمَازَحْنَا لتنسَى / وقد أدركتَ أنَّ المزحَ خَتْل؟
إذا أَمَلَ الفتَى فالهزلُ جِدّ / وإن يئِسَ الفتَى فالْجِدُّ هزل
ثم يبدأ الشاعر علي الجارم من البيت الستين النظم على غرار الأولين الذين يتمنون عودة من ذهب أو التلاقي معهم من بعد، وكأنهم يفتقدون وجودهم في كلّ آن.. وينصرف الشاعر الجارم إلى خطاب صديقه حتى يصل إلى أن يطلب منه أن يقوم من موته ليخطب في الناس ليقول لهم إن الفناء إلى خلودّ وإن الموت إطلاق للروح المعذبة.
فديتك! هل إلى الأخرَى بَريدٌ؟ / وهل لتزاورِ الأرواحِ سُبْل؟
وهل يبقَى الفَتَى بعد المنايا / له بالأهلِ والإخوانِ شُغْل؟
وهل تصِلُ الدُّموعُ إلى حبيبٍ / ويعلَمُ حُرْقَةَ الأشجانِ نَجْل؟
وهل لي بينَ من أهوَى مكانٌ / إذا قوَّضْتُ رحلي أو مَحَلُّ؟
وهل في ساحةِ الجنّاتِ نهرٌ / يزول بمائهِ حِقْدٌ وغِلّ؟
وهل إن ساءل الأحياءُ قبرًا / يُجابُ لصيحةِ الأحياء سُؤْل؟
لقد جلّ المصابُ، وجلّ صبري / عليكَ، وأنت من صبري أَجَلّ!
فقم واخطب بحفلِك، كم تَغَنَّى / وهام بصوتِكَ الرنّانِ حَفْلُ!
وذكَرْنا اليقينَ فكم عقولٍ / تكادُ عليك من شَجَنٍ تَزِلّ
وقل: إنّ الفناءَ إلى خلودٍ / وإنَّ زخارفَ الأيامِ بُطْل
وإنّ الموتَ إطلاقٌ لروحٍ / معذَّبةٍ، وإنَّ العيشَ غُل
شبابُ المسلمين بكلِّ أرضٍ / عليكَ ثناؤهم فرضٌ ونَفْلُ
أخذتَ عليهِمُ للحقِّ عهدًا / فوَفَّوْا بالعهودِ وما أخلّوا
شبابٌ إن دعا القرآنُ شُمْسٌ / وإن تستصرِخ النّجدَاتُ بُسْل
بنو العرب الذين عَلَوْا وسادوا / سما فرعٌ لهم واعتزَّ أصل
وفي الابيات الثلاثة الأخيرة من البيت الخامس والسبعين وحتى السابع والسبعين يُخاطب الشاعر علي الجارم الشيخ عبد الوهاب النجار بكنيته “أبا صلاح” أن ينام ملئ الجفون (ومن الجدير بالذكر انه خاطب النقراشي بعد سبع سنوات في آخر مرثياته: نم قرير العين، وأنه خاطب أنطون الجميل قبله بقوله: نم قريرا)
فنم ملءَ الجفونِ «أبا صلاحٍ» / ففي الجناتِ للأبرارِ نُزْل
يطوفُ بقبرِك الزاكي سلامٌ / وينضَحُه من الرَّحَماتِ وَبْل
ويعترف الشاعر علي الجارم في آخر أبيات هذه القصيدة بأن هذا رثاء محزون مُقل لم يف لأنه لم يستطيع غلا البذل القليل.
وهاك رثاء محزونٍ مُقِلٍّ / وما أوْفَى إذَا بذلَ المُقِلّ!
رثاء الدكتور زكي مبارك وحديثه عن بعض مواقفه الشجاعة
” أستاذي وصاحب الفضل علي في كثير من المواقف، والصديق الذي لم أر منه ما يسوء على كثرة ما عانيت من تغير الأصدقاء
” كان الشيخ النجار يتأدب بالأثر الذي يقول: أطلب العلم من المهد إلى اللحد فلما دعي لتدريس التاريخ الإسلامي بالجامعة المصرية سنة 1918 أخذ يواظب مع الطلبة على دروس اللغة العبرية، وقد عرف منها أكثر مما عرفت، مع أنه لن يُسأل معي أمام لجنة الامتحان!”
” وحين شبت الثورة المصرية في سنة 1919 تفضل فدعاني ليحدثني أنه يريد أن يؤرخ أيام الثورة على طريقة الجبرتي بكتاب يسميه (الأيام الحمراء). ورجاني أن أقدم إليه أخبار الأزهر يوماً بيوم، وكان الأزهر ملتقى الوفود في تلك الأيام والذين نعوا الشيخ النجار في الجرائد اليومية وتحدثوا عن مؤلفاته نسوا الحديث عن هذا الكتاب، لأنه غير مطبوع، فليعرفوا أني أشرت إليه مرة في جريدة البلاغ، فاهتم الأستاذ عبد القادر حمزة بأمره وطلبه من الشيخ لنشره مسلسلاً على صفحات البلاغ. وقد نشر بالفعل منذ بضع سنين، فأكبر خدمة يؤديها أصدقاء الشيخ النجار لذكراه هي جمع تلك الصفحات في كتاب، لأنها أعظم وثيقة كتبها مؤرخ شاهد الحوادث في سنة 1919
” أنكر وزير المعارف في عهد سلف – وذاكرتي تزعم أنه مصطفى ماهر باشا – أنكر ذلك الوزير أن تكون (دار العلوم) مدرسة عالية، لأن طلابها لا يدرسون إحدى اللغات الأجنبية ولأنهم لا يجيدون غير تصريف افعوعل وافعنلل؛ وأنبني على ذلك أن ينكر حقوقهم في (تعديل الدرجات) فماذا صنع الشيخ النجار في دفع ذلك التحامل البغيض؟ كتب سلسلة من المقالات في جريدة الأهرام تحت عنوان: (لا ذنب لي، قد قلت للقوم استقوا) كتبها بإمضاء مستعار ليسلم من بطش الوزير، في أوقات لم يكن يجوز فيها لأحد الموظفين أن ينشر مقالاً في معارضة أحد الوزراء، وتحققت الغاية المنشودة من تلك المقالات، فتساوى أبناء (دار العلوم) مع أبناء (المعلمين العليا) في (تعديل الدرجات) بعد أن طال العهد بالتفريق بين هاتين الطبقتين من رجال التعليم .
“فأين من يذكر وفاء الشيخ النجار للمعهد الذي تخرج فيه، يوم تخلى عن نصرته أبناؤه الأوفياء؟
شهادة السفير أحمد رمزي لأستاذية الشيخ عبد الوهاب النجار
تحدث السفير أحمد رمزي سفير مصر السابق في روما في كتابه «منادمة الحروب» عن ذكرياته في التلمذة للأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار فقال فيما نقله عنه أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي:
“أما الأثر الذي توطد في نفسي، فجاء عن التاريخ الإسلامي نتيجة للمحاضرات التي ألقاها علينا رجل من نوادر رجال مصر، ومن أشجعهم وأشدهم تمسكا بتعاليم هذا التاريخ الإسلامي الذي طالما أهملناه، أعني به المرحوم الشيخ عبد الوهاب النجار».
“كنا في السنوات الأولي بمدرسة الحقوق، وكانت الدراسة في الصباح، فأخذنا نتلقى دروسا بكلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، وتتلمذنا جميعا علي هذا الأستاذ الكبير الذي عرفنا منه رجال المراجع، مثل الطبري، وابن الأثير، والبلاذري، وغيرهم، وكان إلقاؤه رحمة الله عليه وقت الدرس يحرك مشاعر الطالب، فهو إذا تحدث عن الدولة العباسية جاء بالأسانيد، وقرن التاريخ بالأدب، وتحدث حديث المؤرخ الواعي الذي يعيش في الفترة التي يتكلم عنها، فهو لا يسرد لك الحوادث فحسب، بل يعلق عليها وينتقل بك إلي تلك الفترة فكأنك عشت فيها، وعرفت رجالها، وسمعت خطبهم».
«وكان رنين كلامه قويا يتغلغل في النفس، فكنت أخرج من الدرس وفي مخيلتي الألفاظ والكلمات التي استعملها، وأبيات الشعر التي رتلها فتلازمني، وأجد نفسي مدفوعا إلي مراجعة هذه النصوص واستكمالها، لكي تلصق في ذاكرتي لأتكلم بها، وأستشهد بما فيها.
«ومن فيض هذا الأستاذ العظيم عرفت التاريخ الإسلامي، واطلعت علي كنوزه، وكتبت فيه».
“ألا سلامٌ على تلك الشيخوخة الجليلة السمحة المتفائلة التي كانت تضحي بما يصحب تقدم السن من الترفع والاعتزال، وتمتزج بروح الشباب لتعطيهم خبرتها وتجاربها. . . و سلامٌ على تلك الروح الرحبة اللطيفة الوديعة التي كانت كأنها لا تعرف الغضب والمساءات. . . وعلى ذلك القلب البريء كقلوب الأطفال الأبرار، وعلى تلك الأسارير المنبسطة التي يترقرق فيها الطهر وخلوص الطوية، وعلى ذلك المنطق العفيف عن الادعاء والغيبة وتجريح الناس ومقابلة السوء بالسوء. . . وسلام على تلك الجبهة العالية التي كرمت صفحتها عن سمات الذلة والخضوع لغير الحق. . . وعلى تلك الذاكرة الواعية التي ما كان يفر منها رقم أو مسألة من مسائل العلم والدين التي اطلعت عليها، وما كان أكثرها!
ألا إن فقيدنا لم يكن شخصاً، وإنما كان حديقة مزهرة مثمرة بأطايب المعاني العالية، ورقائق الصفات الكريمة، ووثائق الأخبار والأسمار والمعلومات. . . فرحمة الله له، والخلود لذكراه، والصبر الجميل لذويه وتلاميذه ومحبيه
“هناك جانب خفي للفقيد في مؤازرة هذه الجمعية شاء هو أن يخفيه عمداً، هو جانب بذله المال حسب طاقته في بعض حاجات هذه الجمعية وحاجات غيرها من وجوه البر. فقد كان لا يبخل بمال، ولا يحسب حساب ذريته الخاصة في سبيل تحقيق مصلحة عامة؛ وقد طال عمره وهو كبير الراتب، ولكنه لم يتهالك على جمع شيء من الحطام الفاني، ولم يخرج من الدنيا إلا عن ميراث الحكماء والأصفياء. . .
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى … ومالاً فما أشقى بني الحكماء!”
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا