الرئيسية / المكتبة الصحفية / العلامة الطاهر أحمد مكي أحب الأساتذة الدارعمة إلى الطلاب والخريجين والمثقفين

العلامة الطاهر أحمد مكي أحب الأساتذة الدارعمة إلى الطلاب والخريجين والمثقفين

كان الدكتور الطاهر أحمد مكي بلا منازع أكثر أستاذ في دار العلوم استحواذاً على حب طلابه وخرّيجيه، وقد زاد من مساحة هذا الحب أنه من بين أساتذة الكلية جميعاً لم يقض أوقات طويلة في الإعارة إلى البلاد العربية فقد أعير لفترة قصيرة إلى المكسيك وإلى الجزائر وفيما عدا ذلك بقي في كليته أسداً شامخاً مُحاطاً بحب تلاميذه وإقبالهم عليه، زاد من مساحة هذا الحب أنه لم يتزوج، وبالتالي فقد كان شأن كثير من الأعلام الذين لم يتزوجوا يتمتع بالعفة في سلوكه والعطف على تلاميذه، وهما ميزانان يُحرزهما العالم بسهولة ولا يفرط فيهما أبداً وقد كان الدكتور الطاهر أحمد مكي من هذا الطراز.

 

وعلى حين يفتقد كثيرون من أمثاله في مثل طروفه من يعني بتأطير حياتهم فقد رزق رحمه الله شقيقا فاضلاً من رجال القضاء كان يختار له الأفضل من البدائل المتاحة في سيارته، وفي سائقه، ومن يقومون على خدمته. كذلك فإنه كان قد اختار مبكراً وبصورة من التوفيق التلقائي عند من هم من طبقته من العلماء أن يكون واحداً من مجتمع أساتذة الجامعة في كل شيء، وهكذا كان مسكنه الذي أقام فيه في العقود الأخيرة في عمارة هيئة التدريس في أول شارع مصدق، ومن الطريف أن جاءت شقة الدكتور حسين نصار مع شقته في نفس الطابق الذي كان يضم أربع شقق، وكانت الشقة الثالثة من نصيب الدكتور أمين مبارك الأستاذ في كلية الهندسة ورئيس لجنة الصناعة في مجلس الشعب المصري. كذلك كان الشاليه الذي اختاره لقضاء الصيف في الساحل الشمالي في قرية نادي هيئة تدريس جامعة القاهرة، وفي مرحلة سابقة كان إذا أراد قضاء بعض الوقت في بعض الأمسيات الصيفية ذهب إلى نادي هيئة التدريس في شارع هارون، وكنت ألتقيه في أوبته من هذا النادي فكان يُشرّفني بالتكرم عليّ ببعض الوقت في عيادتي في شارع الدقي التي يمر بها في طريقه جيئة وذهابا.

كان أساتذة الأدب العربي من جيل تلاميذه يثقون به إلى حد مطلق يفوق مجموع ثقتهم بكل أساتذة الأدب العربي الآخرين، وهكذا كان حكما ومرشداً في كل الخلافات أو النزاعات كما كان مرحبا في كل الأسئلة، وأذكر بهذه المناسبة أنني كنت أتناقش مع الدكتور فتحي عامر أستاذ الأدب العربي في جامعة الزقازيق في نسبة بيت إلى قائله، فاستأذنني ريثما يسأل بالتليفون أستاذاً في القاهرة، فقلت له إنني أحرز أنه في الدقي وليس في القاهرة، وأنه في شارع مصدق، فانفجر أستاذانا بالضحك وهما يتبادلان القصة.

 

كان الدكتور الطاهر أحمد مكي أكثر أساتذة الأدب العربي عناية بتاريخ الأدب من حيث هو تاريخ له أصول التاريخ وضوابط التاريخ، فلم يكن يسمح لنفسه أن يدخل مناقشة علنية أو نصية في معترك الأدب والبلاغة إلا بعد أن يضبط موقع النص من التاريخ الأدبي، وكان هذا الأسلوب العلمي يوفر عليه بالطبع كثيراً من أعباء التأويل وإعادة التأويل كما كان يحميه أيضاً من الالتواء بالحقيقة الأدبية أو الاعتساف بها، لكن هذا الأسلوب كان يحرمه من عنصر نقدي مهم هو عنصر المغامرة الكفيل بكثير من الاشتباك المولد للمعاني النقدية الكفيلة بإرضاء الأذواق المتعطشة إلى المفارقات والتفسيرات والتوليدات حتى وإن لم تكن صائبة المضمون أو السياق، لكن أستاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي كان يدخر الطاقة اللازمة لمثل هذا الاشتباك ليخوض به المناطق التي عجز غيره عن خوضها أو الاقتراب منها، ويكفي على سبيل المثال ان أضرب ثلاثة أمثلة سريعة، ففي سياق أول كان الدكتور الطاهر أحمد مكي أول من صك تعبير الأدب السري وتعامل به مع الأمنية المتمثلة في تسجيل وتقييم النصوص الشعرية التي كانت متداولة سراً لا جهرا، ومنها ذلك النص البديع الذي كتبه أساتذتنا الثلاثة أحمد درويش وحامد طاهر ومحمد حماسة عبد اللطيف حول هزيمة يونيو 1967.

وفي سياق ثان كان الدكتور الطاهر أحمد مكي هو الذي رشّح لأحد طلابه أن يدرس الأستاذ سيد قطب من حيث هو ناقد أدبي رغم كل المحاذير على مثل تلك الرسالة وهذا الموضوع. وفي سياق ثالث فقد كان الدكتور الطاهر أحمد مكي هو الذي تولى رئاسة تحرير مجلة أدب ونقد التي كانت تصدر عن حزب التجمع الذي يضم التيارات اليسارية المصرية ومع أن هذا الحزب يضم عدداً من وجود أساتذة الأدب اليساريين فإن أحداً منهم لم يكن يملكك الشجاعة الأكاديمية والإجرائية التي يملكها الدكتور الطاهر مكي. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنه تولى رئاسة صحيفة دار العلوم فأضفى عليها من روحه الوثابة وعلمه الغزير، كما كانت رئاسته لنادي دار العلوم تتويجا لحب الدرعميين له وإحياء لهذا الكيان المدني العظيم الضارب في أعماق تاريخنا المعاصر بسهام الوطنية والمشاركة المجتمعية المعنوية.

 

حضر الدكتور الطاهر أحمد مكي منذ شبابه الباكر المعارك الأدبية والسياسية وعاش جو القاهرة معيشة إنسان مستنير متفتّح للفكر والثقافة، حريص على ارتشاف هذا الزاد المعنوي الذي لا يتكرر، وهكذا عرف وجوه الحياة الثقافية عن قرب، وعرف خصائص هذه الحياة وأسرارها ومساراتها على نحو لم يُتَح لأحد من مُعاصريه، وكنت أقول لأساتذتنا من أعضاء مجمع اللغة العربية أنهم يملكون كنز الأسرار في ثلاثة من الأعضاء الدراعمة تعاقبوا بفارق 6 سنوات، فالدكتور الطاهر أحمد مكي ولد في 1924 والدكتور حسن شافعي ولد في 1930 والأستاذ فاروق شوشة ولد في 1936 وكان هؤلاء الثلاثة يُلمّون بما لم يُلم به أحد غيرهم من أفاضل الأعضاء من دهاليز الأدب وكواليس الثقافة.

 

ظل الدكتور الطاهر أحمد مكي حتى تركت مصر في 2013 يتمتع بخط جميل في السياسة على نحو ما كان يتمتع بخط جميل في الكتابة، كان واضحاً ومحقاً منحازاً للحق لا يعرف المغالطة ولا الكذب، وكان يقول بكل وضوح أنه ما دامت الديموقراطية أتت بشخص أو اتجاه فلا بد من احترام الشخص أو الاتجاه وليس هناك داع ولا مبرر لعدم الاحترام بالاحتيال على الحق الظاهر. عاش الدكتور الطاهر أحمد مكي (وكذلك كان الدكتور محمود علي مكي) فترة فرانكو في إسبانيا فكان مرجعا حيا في سياسات فرانكو العامة والحكومية، وكنت كثيرا ما الجأ إليهما بالسؤال عما كان يفعل فرانكو في بعض المشكلات ومن المذهل أن الدكتور الطاهر أحمد مكي وزملاءه ذهبوا إلى إسبانيا برواتب البعثة فعاشوا وكأنهم أغنى بكثير من متوسط أفراد الطبقة المتوسطة في إسبانيا فقد كانت العملة المصرية لا تزال قوية، وكانت إسبانيا لا تزال تعاني من آثار الحرب.

 

لم اتعود في كتابتي عمن أحب أن اتناول قصة إضرابه عن الزواج إذا كان قد أضرب عن الزواج، ولم أتطرق إلى سؤاله لا بتلميح ولا بتصريح لكني عرفت الحقيقة بالمصادفة ذات مرة من السيدة الفاضلة زوجة الأستاذ الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عميد أساتذة التاريخ، وقد روت لي أنه كان يحب إسبانية عظيمة صديقة لها فلما كانا على وشك الزواج رفض أهلها زواجها من مسلم مهما كان الأمر فما كان منها إلا أن دخلت الدير.. ويبدو لي أن امتناعه عن الزواج كان وفاءاً منه لمن دخلت الدير بسببه! ذكرت هذه القصة الآن لأني مدين بها للحقيقة التي لا يعرفها كثيرون عن دوافع شخصيات عظيمة من الأجيال السابقة في الامتناع عن الزواج، وهو ما لا يتصوره أبناء جيلنا الذين لا يعرف مثل هذا التصرف النبيل ولا غيره، فقد انطلقت الماديات في سيطرتها علينا إلى حدود لم تكن متاحة للماديات من قبل.

 

لكن لهذه القصة وجها طريفا، وهو أن استاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي دعي للحديث في برنامج إذاعي (من برامج السهرة) عما كان يقرأه في ذلك الوقت فإذا به يتحدث عن كتاب “أدباء التنوير والتاريخ الإسلامي” وإذا بأحد الأصدقاء يسجل الحديث ويُهديه لوالدي عليه رحمة الله وكان هذا قبل وفاته بعام، وإذا والدي رحمه الله بعد أن سمع الحديث يُحدثني سعيداً بهذا التحليل والثناء الذي قدمه أستاذنا الدكتور الطاهر مكي. وبعد أسبوع رويت لوالدي رحمه الله أن أحد أصدقائه من جيلهم هاتفني، وقال لي إنه يرجح أنني زوج ابنة الدكتور الطاهر أحمد مكي، فإذا بعيني والديّ تشرقان بالسعادة وكأنه سعيد بالاختيار، فطلبت منه ان يصلي على نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يقرأ الفاتحة ثم أنهيت إليه أن استاذنا لم يتزوج. فوجم والدي عليه رحمة الله وجوما شديداً فعاجلته بما عرفت عن استاذنا وقصته، وطمأنته عليه رحمة الله أنني لست من مذهب استاذنا، مع أني لم أكن اعرف هل سأكون من هذا المذهب أم لا، لكن بر الوالدين كان يقتضيني مثل هذه الطمأنينة من آن لآخر.

 

 وبعد يومين من حديثي مع والدي فوجئت بصديق ثالث من جيل وسيط يتحدث في الموضوع ذاته بمثل ما تحدث الأول فأدركت أن الحب الغامر الذي غمرني به استاذنا الجليل لا سبيل إلى وصفه، ومع أنه كان لا سبيل إلى وصفه، فإن دلائل هذا الحب المعلنة كثيرة، فحين أهديت لأستاذنا بحروف المطبعة كتابي “التنمية الممكنة” لم تمر أسابيع حتى فاجأني بأن رد الهدية بإهدائي كتابه “في الأدب الإسلامي المقارن” بحروف المطبعة فكان هذا أول كتاب عظيم من مؤلف عظيم يُهدى إليّ بحروف المطبعة. أظن أن كثيراُ من القراء يعرفون أيضا أنه هو صاحب الفضل عليّ في اللقب الذي صرت أُعرَفُ به وهو “أبوالتاريخ” وأظن أيضا أن كثيراً من القراء يعرفون أيضا أنه كان مع الدكاترة الأحامد الثلاثة: أحمد هيكل وأحمد مستجير وأحمد علم الدين الجندي من زكوني كتابة لعضوية مجمع اللغة العربية. وأظن وأظن مما لا أتصورني قادراً على حصره من هذا الأستاذ الكريم الذي شملني برعايته وكرمه من قبل أن أعرفه.

 

حدثني أستاذنا ذات مرة أنه عرفني لأول مرة عام 1980 حين كان هو نفسه أحد أعضاء اللجنة التي منحتني جائزة الدولة التشجيعية في الأدب، ولم أكن أعرف هذا إلى أن أخبرني به في بعد ما يقرب من عشرة أعوام من الفضل، وبعد أن توثقت علاقتي به منذ 1985 دون أن أعرف علاقته بمنح الجائزة. وأذكر أنه لما صدر كتابي عن مجلة الثقافة كان أكثر الأساتذة ترحيبا به، وتعقيبا على كثير من أحكامي فيه، وحين توالى صدور أجزاء موسوعتي عن التاريخ المعاصر كان يُهاتفني في اليوم التالي لوصول كل كتاب جديد إليه ذاكراً انطباعاته عما قرأه في الكتاب، وكانت في واقع الأمر انطباعات ذكية مهمة أفادتني وعلمتني وارتقت بي وبفكري. في عام 2012 وبسبب لست أدريه وجدتني مسكونا عند الفجر بخاطر ضرورة كتابة مقال في تحيته، فكتبته ونشرته في مجلة أكتوبر، فنقلته كثير من مواقع التواصل الاجتماعي، وكم كان سعيداً به هو وتلاميذه الأقربون وعلى رأسهم الدكتور أبو همام. ثم جاءت مرحلة التشرد التي رزقني الله الابتلاء بها فكان افتقادي للقائه والاستماع إليه عن قرب من أكثر ما يؤلمني في غربتي.

 

 

 

 

 

 

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com