الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشيخ عطية الصوالحي الدرعمي المعمم رائد علم التحليل اللغوي والنحوي

الشيخ عطية الصوالحي الدرعمي المعمم رائد علم التحليل اللغوي والنحوي

لما شرع أستاذنا الدكتور حسن الشافعي في ارتداء الزي الأزهري قال له أحد أنداده من أعضاء المجمع اللغوي البارزين: إنك تستفيد من تخرجك المزدوج في أصول الدين ودار العلوم، ففي السنة الماضية كنت تتيه علينا بما خاطه لك سويلم ترزي الرئيس السادات من الحلل الإفرنجية مستندا إلى تخرجك في دار العلوم، وأنت اليوم “تتكوكل وتتعمم” مستندا إلى تخرجك في كلية أصول الدين، فبادرت أساتذتنا الأعضاء بالقول بأن الشيخ عطية الصوالحي (1892 ـ 1974) لم يتخرج إلا في دار العلوم، ومع هذا فإنه لم يفارق زيه الأزهري! ومن العجيب أن أساتذتنا كانوا يظنونه قد تخرج في الأزهر وأن هذا هو سبب تعممه، ثم سألني أحد أساتذتنا: هل أدركت الشيخ؟ فأجبته بأني نلت بركته ودعواته أيضا، فقال أستاذ زميل لنا كان يجيد التنمر: لو حظي غيرك بنصف دعاء الصالحين الذين دعوا لك لتفوق عليك، ولشدّ ما كانت دهشة الحاضرين حين أجبته بالتأمين على دعواه، وأردفت أن ذنوبي المتراكمة أضاعت كثيرا من فضل الدعاء، ولهذا فإني أقل بكثير مما كان ينبغي.

حركته في زيه توازي حركته في النحو العربي

أدركت الشيخ عطية الصوالحي قبل وفاته بأربع سنوات فقط، كان شيخا مهيبًا جليلا، على الرغم من أنه لم يكون ضخم الجثة ولا طويل القامة، ولكنه كان نشطًا صحيح البدن حاضر الذهن موفور الصحة، يدل عقله وصوته وحركاته على أن الله سبحانه وتعالى قد بارك له في صحته وحفظ عليه هذه الصحة ليَفيد منه تلاميذهُ ومحبوه وعارفو فضله. كان عميد النحويين في عصره، كما أنه أستاذ متميز، وعلم من أركان المجمع اللغوي. كان الشيخ عطية الصوالحي يلبس الزي الأزهري، ولكنه كان يتحرك برشاقة بالغة على الرغم من سنه، وذلك في رأيي راجع إلى أنه كان يحب هذا الزي، إذ أنه بدون أن يحب الإنسان زيًا ما يستحيل عليه أن يتحرك فيه برشاقة ولا حتى بسهولة، وكان قد التزم بهذا الزي الجميل باختياره المطلق، على الرغم من عمله أستاذًا في دار العلوم في جامعة القاهرة، حيث كان الأغلبية من زملائه لا يلبسونه، وهكذا فإنه كان يتحرك في هذا الزي حركة من يحب لا مَن يكره، وحركة مَنْ تعود لا من تأقلم.

وكانت صورة حركته في هذا الزي صورة مبسطة من تحركه في النحو العربي فقد كان يسير فيه من درب إلى درب وكأنه يطير، وكان يتنقل بين أفنانه وهو في غاية السعادة والحبور، وكان يتحدث في كل جزئية من جزئيات النحو، وكأنه يؤدي بعض التمارين الرياضية التي تعود عليها كل يوم، فإذا هي جزء من حركات عضلاته في كل حين. بل يمكنني القول إنه كان يتعشق النحو والصرف في كل لفظه وتفكيره وتعبيره. وكأنه المتصوف الذي لا يكف عن الذكر وعن تسبيح الخالق وذكر قدرته في كل ما يراه من خلقه، وليس كل ما يراه (بالطبع) إلا من خلق الله جل في علاه.

طريقة العلماء في البدء بالقواعد الكلية

كان الشيخ عطية الصوالحي إذا تكلم في مسألة من مسائل النحو ظهر علمه وتدقيقه، وكان بالنسبة لي صورة مبكرة من صور العلماء الأفذاذ الذين يوصف الواحد منهم بأنه ثبت أو حجة أو مرجع أو سلطة.. يبدأ بالقاعدة العامة ويردف مباشرة بالاستثناءات في إشارة سريعة تضمن الإحاطة بالموضوع، ثم يفصل القول في أهم هذه الاستثناءات على النسق الذي ينبغي له أن يصدر عليه من عالم جليل من طرازه. وكانت السعادة تغمر وجهه إذا رأى مستمعيه قد أدركوا ما يريد لهم أن يدركوه من صواب. وفي المقابل فإنه لم يكن يشعر باليأس أو القنوط إذا ما حدث غير ذلك، وإنما كان يتلمس الطريق مرة ثانية ليجعل فكرته أكثر وضوحًا أو أقرب منا أو أصدق تعبيرًا.

ريادته لعلم التحليل اللغوي

كان الشيخ الصوالحي رائدًا فيما قد يسمى بالتحليل اللغوي والنحوي، والمعنى واضح، وهو أنه كان، على سبيل المثال، يستعرض المذاهب المختلفة في الإعراب ووجوه كل مذهب من هذه المذاهب من الصواب، ومدى ما يمكن لتعدد الآراء أن يثمر من المعاني المختلفة لا تتعارض وإنما يفسر بعضها بعضًا. وكان يرى، ومعه حق، أن هذا الأسلوب كفيل بأن يرتقي بمستوى العلم بالنحو وباللغة عند مَنْ درسوا هذه العلوم من قبل. كما أنه كان يرى، وكان في هذا عبقريا، أن هذا الأسلوب كفيل بأن يغير من أنماط التفكير اللغوي عند مَنْ يقومون بتدريس علوم اللغة على مستويات مختلفة.

ويبدو لي أن وزارات التربية بحاجة إلى أن تتبنى مثل هذا الأسلوب، وأن تأخذ به في برامج التعليم المستمر لتجدد من معلومات مدرسيها، وموجهيها، ولتحدّث من إلمامهم بما يدرسون؛ بحيث يظل موقفهم دائمًا أقوى من موقف تلاميذهم، ولترقى في الوقت ذاته بالأسلوب الذي يمارسون به تفكيرهم العلمي فيما يتولون تدريسه أو توجيهه من علوم مختلفة، سواء في اللغات أو في غير اللغات. وقد تولى الأستاذ عطية الصوالحي تدريس مقرر فريد في «التحليل اللغوي والنحوي»، في برنامج لاستكمال التأهيل لمدرسي اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم بكلية دار العلوم.

شغلته الأستاذية طيلة حياته

كان الأستاذ عطية الصوالحي قبل كل هذا نموذجًا، بقي بنفسه إلى منتصف السبعينيات، للمدرس المتفوق الذي كان تفوقه في أداء مهنته بمثابة الدافع والمؤهل له كي ينتقل مباشرة إلى سلك هيئة التدريس الجامعية من دون أن يجتاز دراسات عليا أو أن يشغل بشكليات هذه الدراسات، إذ هو بالفعل قد شغل نفسه بجوهر هذه الدراسات وحقق فيها ما لا تحققه الدراسات العليا في كثير من الأحيان، وليس أدل على صواب هذا المعنى من تأمل تاريخه العلمي. تخرج الشيخ عطية الصوالحي من دار العلوم عام 1918، وقد تخرج معه في هذه الدفعة الأستاذ إبراهيم عبد المجيد اللبان الذي وصل إلى عمادة دار العلوم وشقيقه الوزير سعد اللبان، كما تخرج في الدفعة ذاتها ثلاثة من أساتذة الأدب العربي الأعلام هم: الأستاذ أحمد الشايب، والأستاذ إبراهيم سلامة، والأستاذ مصطفى السقا. وعمل الشيخ عطية الصوالحي ربع قرن بالتمام والكمال في المدارس الابتدائية والثانوية فمدارس المعلمين، حتى نقل عام 1943 مدرسًا للنحو والصرف والعروض في كلية دار العلوم وكان عندئذ في الواحدة والخمسين من عمره.

وحقق الشيخ عطية الصوالحي طيلة عمله شهرة واسعة بما عرف عنه من جد وعلم واستقامة خلقية، وإخلاص دائب للعمل، وكان مرشحًا على الدوام لمكانة علمية مرموقة. وبعد أربع سنوات من تعيينه مدرسًا في كلية دار العلوم نال درجة أستاذ مساعد (1947)، وبعد خمس سنوات أخرى نال درجة الأستاذية (1952) في نفس العام الذي بلغ فيه الستين، التي كانت سن التقاعد في ذلك الوقت. وظل يندب للتدريس في الكلية منذ ذلك العام وحتى 1963؛ حيث عين أستاذًا غير متفرغ للنحو والصرف والعروض. في هذه الأثناء ألف الشيخ عطية الصوالحي كتابين في النحو من الكتب التي يطلق عليها لقب الكتب الجامعية، والحق أنها كانت أكبر من هذا بكثير، وهما كتاب الأضواء النحوية والصرفية (مطبوع)، ومذكرات في التحليل اللغوي والنحوي (مطبوع بالرونيو)، وأزعم أن لي الشرف أن اطلعت على هذا المخطوط واحتفظت بنسخة منه، وأرجو الله أن يمد في عمري المتشرد حتى أتيح للمخطوط أن يخرج إلى القراء. بالإضافة إلى هذين الكتابين، فقد نشر الشيخ عطية الصوالحي دراسته التي اشتهر بها عن لغة إقليم الشرقية وتقريبها من اللغة العربية الفصحى، وقد كان الشيخ الصوالحي من إقليم الشرقية؛ حيث ولد في كفر شاويش مركز فاقوس.

إسهامه في التحقيق والبحث العلمي
 
اشترك الشيخ الصوالحي في تحقيق كتاب نثر الدرر للآبي؛ حيث حقق الجزء السابع، كما حقق كتاب الأمالى لابن الحاجب. بالإضافة إلى هذا كانت له دراسات لغوية نشرها في مجلة مجمع اللغة العربية قبل انتخابه عضوًا في هذا المجمع. وقد واصل نشر دراساته بعد هذا الانتخاب.. ومن هذه البحوث:

«إعراب مثل خلدون أو إعراب أسماء الأعلام المنقولة من صيغة جمع المذكر السالم».

«إحدى مسائل اسم التفضيل».

«من اللطائف اللغوية».

«التوسعة في بناء اسم المرة من مصدر الثلاثي المجرد».

وقبل اختياره لعضوية مجمع اللغة العربية كان قد نشر في مجلته بحثين هما: «طرائف لغوية»، و«إنصاف ورد إلى صواب».

عضويته في مجمع الخالدين

وقد انتخب الأستاذ عطية الصوالحي عضوًا في مجمع اللغة سنة 1965 وهو في الثالثة والسبعين من عمره، وجاء انتخابه في الكرسي الخامس خلفًا للدكتور علي توفيق شوشة، وبقي عضوًا عاملا وعلما نشطا مواظبا مثابرا حتى توفي، وتصادف أن الذي خلفه في كرسيه كان هو الدكتور شوقي ضيف. وقد اشترك في إخراج الطبعة الثانية من المعجم الوسيط مع ثلاثة من زملائه المجمعيين الفضلاء. كما تولى مراجعة معجم ألفاظ القران الكريم في إحدى طبعاته الأولى.

شهادة تلميذه الدكتور الرفاعي عميد أساتذة المسالك البولية

خصص الدكتور مصطفى الرفاعي فصلا من كتابه «شخصيات لا تنسى» للحديث عن ذكرياته عن الشيخ الصوالحي الذي كان أستاذا له في اللغة العربية في مدرسة الزقازيق الثانوية، ومن هذا الفصل ننقل بعض الفقرات: «شيخ معمم، قصير القامة، بشوش الوجه، لا تراه إلا مبتسما، محبوب من الطلبة ومن جميع العاملين بالمدرسة». «قوي في مادته، أسلوبه سلس بديع، عندما يقرأ الشعر يخيل إلينا أنه يعزف موسيقى عذبة».

«سابق لعصره، أفكاره متحررة، لم نلحظ عليه جمود خريجي دار العلوم أو الأزهر، كان مرحا، حاضر البديهة، لم يستطع أيا مَنْ كان أن يجاريه في ذلك، حتى الزملاء الذين لا يميلون إلى اللغة العربية أحبوها في شخصه. ذات يوم دخل علينا الفصل وقال: إن درس اليوم هو قراءة موضوع إنشاء، وهو أحسن وأبلغ موضوع إنشاء كُتب في امتحان التوجيهية السنة الماضية على مستوى مصر كلها، أرسلته الوزارة للمدرسة، وقد أحضرته معي لكي نقرأه سويا، وإني أعترف لكم أن الطالب الذي كتب هذا الموضوع، وأنا لا أعرفه ولم أقابله، أعترف لكم أن هذا الطالب يفوق أي طالب يدرس اللغة العربية في دار العلوم أو في الأزهر، موهبة.. سبحان الله فيقاطعه زميلنا المرح وحيد مطاولا: «هل يفوقك أنت أيضًا يا شيخ صوالحي؟».

«فيجيبه الشيخ: طبعا يا بني، يفوقني عندما كنت في عمره، فقد كنا في منتهى الجهل.. لا تندهشوا مما أقوله، فهذه هي الحقيقة التي يجب أن تعلمونها، إن الدراسات العصرية ودراسة اللغات والآداب الأوروبية تفتح الذهن، وتنمي ملكة الأدب، وتوسع دائرة الخيال، فأين كان لمثلنا هذه الدراسات القيمة. إن ظروفكم أحسن من ظروفنا، وتعليمكم أفضل من تعليمنا، لقد علمت من الأستاذ ونستون مدرس اللغة الإنجليزية أنكم تدرسون بعض أدب شكسبير، أما نحن فلم نكن نعلم شيئًا عن شكسبير أو فيكتور هوجو أو غيرهما. لقد قرأت حديثا ترجمة بعض هذه الأعمال وسعدت بها. إن العبقرية لا وطن لها. وابتدأ الشيخ يقرأ الإنشاء، وكان الموضوع يدور حول المفاضلة بين السيف والقلم في بناء الشعوب». «ويقول الشيخ: انظروا كيف يستشهد زميلكم بشعر المتنبي وأبي تمام، ويضع الأبيات في مكانها المناسب، وموضعها الصحيح، إن زميلكم هذا أديب بليغ، وكتاباته كأنها نوتة موسيقية، والأعجب من ذلك أنه من القسم العلمي مثلكم».

شهادة أقرانه

إذا أردت أن أقتبس ما يصور شخصيته على لسان أقرانه، فإني أقتطف ثلاث فقرات من الكلمات الثلاث التي يكون من حظ كل مجمعي أن يحظى بها، وهي كلمة خلفه بعد أن يتوفى، وكلمة المجمع عند تأبينه، وكلمة الاستقبال عند انتخابه، ومن حسن حظ الأستاذ الصوالحي أن الكلمات الثلاث كانت لثلاثة من أعلام اللغة والأدب. تحدث خلفه الدكتور شوقي ضيف عن الأستاذ الصوالحي العظيم فقال: «كان لا يزال ينفق بياض أيامه وسواد لياليه في البحوث والتحقيقات اللغوية والنحوية، يريد أن ينفع الباحثين نفعا متعدد الأنحاء، ينفعهم بإحياء بعض النصوص الأدبية والنحوية وتقديمها لهم نقية مصفاة خالية من أدران الأخطاء والتصحيفات، وينفعهم بتحليلاته النحوية واللغوية واستدراكاته العلمية، وينفعهم في تبين الصلات بين الفصحى والعامية. وكل هذه آثار علمية جديرة بكل ثناء وتقدير».

أما زميله اللاحق به في قسم النحو الصرف الأستاذ علي النجدي ناصف، وهو الذي تولى النيابة عن المجمع في القيام بواجب تأبينه فقال: «كان الأستاذ الصوالحي لغويا معرقا ومجمعيا أصيلا تمرس بمباحث اللغة غير آل جهدا ولا ضنين بوقت، يبحث ويمحص ويستنبط ويستخلص، مشاركا لزملائه في العمل الموصول والجهد المبذول». وقبل هؤلاء كان الذي استقبله في المجمع هو زميله السابق عليه الأستاذ عبد الحميد حسن، وقد قال في استقباله: «كلما امتد بيننا النقاش والحوار رأيت منه علما غزيرا فياضا في رفق وهوادة، وتحريا في التحقيق والتمحيص في تثبت وأناة، وإلماما واسع الآفاق بدقيق المسائل اللغوية في غير زهو ولا مخيلة».

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com