سمي الشاعر أحمد محرم ١٨٧٧- ١٩٤٥ باسم الشهر الهجري الذي ولد فيه، ومن الطريف أن أباه كان قد سمي أخاه الأكبر محمد صفر لولادته في شهر صفر. وكان هذا الشاعر من أصول تركية من ناحية والده و والدته لكنه كان محبا للإسلام ولدولة الخلافة الإسلامية بأكثر من الترك و من العرب المعاصرين له ، و يتميز حبه للدولة العثمانية عن حب الشاعر أحمد الكاشف ١٨٧٨- ١٩٤٨ المعاصر له (الذي ولد بعده بعام و توفي بعده بثلاثة أعوام وعاش مثل عمره و عامين) في أنه كان متعلقا بفكرة الإسلام والخلافة الإسلامية على وجه العموم بأكثر من التعلق بالحالة المرتبطة بالعثمانيين على وجه الخصوص ، و هو ما يظهر في انتباهه الذكي إلى الاستجابة لما اقترحه عليه المسلمون الغيورون من عناية بتاريخ الإسلام كله ، و استجابته لإنجاز دعوة الأستاذ محيي الدين الخطيب التي لم يتمكن الشاعر أحمد شوقي من إنجازها ، لكن أحمد محرم أنجزها في الديوان الذي سماه مجد الإسلام ، وهي ذات الدعوة التي مضى الشاعر حافظ إبراهيم في سبيلها فأنجز خطوة في غاية التوفيق وهي قصيدته العمرية ، وقد لمست هذه المعاني منذ أكثر من ثلاثين عاما في كتابي أدباء التنوير و التاريخ الإسلامي ، وكانت أولى الإشارات التي نبهتني لهذا الجانب المشرق في وعينا بذاتنا قد جاءتني من تعليق للدكتور على مصطفى مشرفة في يومياته وهو يستحضر أبياتا من القصيدة العمرية للشاعر حافظ إبراهيم .
نشأته وثقافته
ولد الشاعر أحمد محرم بن حسن عبد الله يوم السبت 5 من المحرم سنة 1294هـ الموافق 20 من يناير سنة 1877، في قرية إبيا الحمراء، مركز الدلنجات، محافظة البحيرة، فى أغلب الأقوال، وتنفرد سيرة ذاتية نشرها له أحمد عبيد (1922) في كتابه «مشاهير شعراء العصر» بالإشارة إلى أنه ولد في مدينة القاهرة في باب الوزير (بقسم الدرب الأحمر) وقد عاش بعض طفولته في القاهرة ثم انتقلت الأسرة إلى ريف البحيرة.
نال الشاعر أحمد محرم في طفولته قسطا وافرا من التعليم الديني والمدني معا، حيث عني والده بتهذيبه وتعليمه وتحفيظه القرآن وتعليمه النحو والعروض واللغة، وكان هذا الوالد يمتلك مكتبة حافلة بكتب الأدب، وكان الشاعر منذ صباه يبدو محبا للأدب حبا فطريا، عاشقا لفن الشعر، ذواقة، وقد قرر بموافقة أهله أن يترك التعليم الرسمي بالمدارس الحكومية ليتزود بثقافة أرفع من مستوي نظرائه، وليغذي موهبته الشعرية، وما تتطلبه من إخلاص للإبداع والنظم، وشغف بحفظ النصوص الأدبية كما شغف بدراسة السيرة النبوية والعلوم الدينية.
ولم يكد الشاعر أحمد محرم يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى كان قد عرف على نطاق واسع بفضل نجاحه في مراسلة الصحف السياسية والمجلات التي كانت تنشر له كتاباته المتميزة التي كان يبعث بها مستنداً إلى عقلية روتها وغذتها معرفة عميقة بالتاريخ.
الاعتراف المبكر بشاعريته أقنعه بالتفرغ للشعر
اشترك الشاعر أحمد محرم في مسابقة شعرية (في ١٩٠٢) في عيد جلوس الخديو عباس حلمي الثاني ١٨٧٤- ١٩٤٤ فظفر فيها بشهادة الامتياز، وعلى مدي حياته التالية نال الشاعر أحمد محرم خمس عشرة جائزة في مسابقات شعرية ونثرية نظمتها الصحف والمجلات.
كان الاعتراف المبكر دافعا للشاعر أحمد محرم أن يعيش حياته للأدب فقط، وبالطبع فإنه لم ينل منه إلا ما كان يكفيه بالكاد، ولما دعته بعض الصحف إلى العمل فيها أحس في نفسه رغبة في البعد عن العمل الدائم بالصحافة من أجل التفرغ للشعر حبا ودراسة ونظما، لكنه ظل يكتب، وهو في دمنهور، مقالة واحدة في كل أسبوع، وكانت تلك المقالة مورد رزقه، إذ كانت تدر من الأجر أو المكافأة ما لا يناله غيره من الذين يكتبون في الصحف كل يوم، ومع هذا فقد كان حريصا على أن يكتب في صحف الحزب الوطني متطوعاً.
وقد عوّض الشاعر أحمد محرم الانصراف عن الصحف القاهرية بأن ركز جهده في مجلة «الصدق» التي كانت تصدر في دمنهور، وجعل من هذه المجلة مدرسة أدبية فأصبحت من أرقي المجلات، وكانت صفحتها الأدبية تضارع أكبر الصحف، بفضل ما كان هو يوليها من عنايته، وقد جعلها منبرا يقدم فيه الشعراء الناشئين. وبعد أن قضي فترة في ريف البحيرة انتقل للمعيشة في دمنهور وفيها عاش حياته وتوفي ودفن.
قيمته الفائقة عند النقاد
على الرغم من أن اسم الشاعر أحمد محرم لا يحظى بالإلحاح المباشر في الكتابات الأدبية والنقدية المعاصرة، فإن النقاد ومؤرخي الأدب المنصفين يعدونه واحدا من أهم شعراء عصر البعث الذين تمكنوا من الصياغة الشعرية وإعادتها إلى مستواها الرفيع في عهد الفحول.
كان الشاعر أحمد محرم في شعره نموذجا للأصالة فقد خلق شاعرا مطبوعا وعبقريا موهوبا، كما أن ملكته الفنية قد ظهرت وهو لايزال في باكورة شبابه، وقد شهد له بذلك النبوغ المبكر بعض الذين قرأوا بواكير إنتاجه، وعاصروا مرحلة حداثته، ومنهم الشاعر أحمد الكاشف الذي تولي كتابة مقدمة ديوانه الأول.
وقد تميز شعره بجودة الصياغة، وسهولة الألفاظ، وسمو المعاني، وفخامتها، كما تميز بجزالة اللفظ، وقوة الأسر، وسلامة المباني، وإحكام القوافي على نحو لا نجده بالقدر نفسه في شعر شاعر من المعاصرين له من الجيل التالي للبارودي إلا في شعر الأعلام.
وينم تراث الشاعر أحمد محرم الشعري عن ثقافة عريضة عميقة في اللغة العربية وآدابها، وتبدو ثقافته ساطعة وناصعة في ألفاظ شعره وأساليبه التي كان يحلق فيها إلى مستوي رفيع، مع القدرة الفائقة على إطالة النفس في كثير من شعره الذي كان يحرص فيه على القافية الموحدة في القصيدة التي تصل أبياتها إلى ما يقرب من المائة بيت دون أن يفقد المستوي الرفيع فيها كلها، ودون أن ينقطع نفسه أو يجهد.
وبالإضافة إلى هذا كله فإن شعر الشاعر أحمد محرم يمتاز بالوحدة الموضوعية، والتركيز على الأغراض النبيلة التي كان يعالجها من دون استطراد.
كان واحدا من الشعراء الكبار في جيله
نستطيع أن ندرك أن معاصري الشاعر أحمد محرم كانوا يعرفون له قدره، ونجد في أدبيات تلك الفترة ما يدل على أنه كان واحداً من الشعراء الأربعة الكبار في عصره مع شوقي وحافظ ومطران.
وقد أجاد الأستاذ جميل علوش المقارنة بينه وبين الثلاثة الآخرين حيث يقول:
…” ولعل مما يؤكد هذا المعني الذي نريد التأكيد عليه ما حدث عندما أسس أحمد زكي أبو شادي جماعة «أبوللو»، فقد عقدت رياستها لأمير الشعراء أحمد شوقي، كما حصل الاتفاق على أن يعين الشاعران الكبيران خليل مطران والشاعر أحمد محرم نائبين للرئيس. ومن الجدير بالذكر أن حافظ إبراهيم كان قد توفي قبل تأسيس «أبوللو» بشهور قليلة، ومن الجدير بالذكر أيضا أن أحمد شوقي توفي فجأة بعد أربعة أيام من الاجتماع الأول لهذه الجماعة، وقد خلفه في رياستها خليل مطران الذي عاش حتي 1949 بينما توفي محرم 1945″ .
شاعر التاريخ الإسلامي
نبدأ بالقول إن أكثر الأنسجة استعمالا في شعر محرم هو التاريخ، ونحن نتفق مع كل مَنْ يلاحظون في شعر محرم سيطرة نزعات تاريخية عميقة تلم بكثير من تفصيلات التاريخ وفلسفته وروحه، ويبدو هذا طبيعيا بحكم تشبعه الوجداني بتاريخ الإسلام ومواقفه في جميع عصوره، لكن الأهم من هذا الجانب التأثري أو التأثيري أن ثنايا التاريخ الإسلامي وتفاصيله قد هيأت له رصيدا استلهم منه المعاني والعبر، واستشهد منه بالحوادث والأمثلة، كما مثلت هذه المعرفة رافدا في روحه المعتزة بشخصية أمته.
ونحن نتفق مع أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي في أنه لم يجار الشاعر أحمد محرم في نظم أحداث التاريخ الإسلامي أحد من الشعراء، وقد كان محرم في طليعة الشعراء المعاصرين الذين انعكست في صفحة شعرهم الروح الإسلامية عالية، والذين أنشأوا القصائد في تمجيد الإسلام، وتمجيد المثل الرفيعة التي جاء بها، وفي الإشادة بالرسول الكريم وصحابته الأبرار الذين كانوا هداة إلي الحق والعدل والتوحيد، فأناروا الدنيا وأخرجوا الناس من الظلمات إلي النور.
وباختصار غير مخل فإننا نتفق مع كل من لاحظوا أن النفحات الإسلامية كانت تغمر حياته الشعرية، وبدت آثارها بوضوح في ديوانه الأول ذي الجزأين، وفي غيره من الشعر الذي نشر له في الصحف والمجلات.
ديوانه الأشهر «مجد الإسلام»
لم ينشر ديوان أحمد محرم الأشهر «مجد الإسلام» الذي إلا بعد وفاته، ويعتبر هذا الديوان بمثابة سيرة للنبي صلي الله عليه وسلم، وهجرته إلى المدينة المنورة، وحديث عن غزواته وسراياه، وقد تضمن الديوان بالطبع استطرادات شعرية إلى سيرة طائفة من الصحابة والمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
ومن الإنصاف للحقيقة أن نشير إلى ما يرويه الدكتور بدوي طبانة من أن الشاعر أحمد محرم نظم ديوان مجد الإسلام استجابة لاقتراح الأستاذ محب الدين الخطيب (في ربيع الأول سنة 1353 هـ = 1933)، وقد اقترح عليه أن «يؤلف شيئا شبيها بـ «الشاهنامة» التي ألفها الفردوسي، وخلد فيها مفاخر الفرس، وغطي ببيانه المشرق على عيوبهم، وسلط على ضئيل الخير منها إشعاعا قويا مكبرا بأعظم المكبرات. أو ب “إلياذة هوميروس” التي تتغني بها الإنسانية إلى هذا اليوم، وتعدها من مفاخر الأمة اليونانية”.
ويروي الدكتور بدوي طبانة أن الأستاذ محب الدين الخطيب قد توجه بهذه الأمنية إلي أحمد شوقي قبل أن يتوجه بها إلي أحمد محرم، لكن أحمد شوقي تباطأ.
وقد افتتح الشاعر أحمد محرم ديوانه مجد الإسلام بالنشيد الأول الذي سماه مطلع النور الأول من أفق الدعوة الإسلامية، وفي أوله يخاطب النبي محمداً صلي الله عليه وسلم فيقول:
أنت معني الوجود، بل أنت سر جهل الناس قبله الإكسيرا
أنـت أنشــأت للنفــوس حيــاة غـيّرت كل كائــن تغيـيرا
وقد صور الشاعر أحمد محرم في هذا الديوان ما ابتلي به الرسول صلي الله عليه وسلم من تكذيب قومه، وصبره على إيذائهم واستهزائهم، ثم ما عرضوا عليه من أعراض الدنيا من المال والمنصب والجاه حتى يثنوه عن دعوته إلي الله وتوحيده وعبادته، ليبقوا على سيادتهم، ويظلوا في كفرهم وضلالهم، كما لخص مواقف اليهود والمنافقين من النبي والمسلمين.. إلخ.
استوحي الشاعر أحمد محرم في ديوانه «مجد الإسلام» من حقائق التاريخ ورواياته ما أغناه عن أساطير الإلياذة والشاهنامة، وقد مزج في شعره الحماسي بين خواطره ومشاعره تجاه الوقائع التي تناولها بعقله وقلبه معا ثم صاغها ببيان شاعري مشرق ، و تناول في ذكاء وحكمة ما أثبتته كتب التاريخ عن هذه الوقائع، ومع أن ديوان مجد الإسلام يتكون من مجموعة كبيرة من القصائد التي تبدو وكأن كل واحدة منها تستقل بالواقعة التي تتحدث عنها، إلا أنها تنتظم جميعا ( وكأنها فصول كتاب مرجعي ) في سيرة واحدة كبيرة هي سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وما واكبها من أحداث فجر الدعوة المحمدية.
نجا الشاعر أحمد محرم بنفسه وبديوانه هذا من كثير من النزعات الفلسفية الحاكمة لمثل هذا العمل، وعلى سبيل المثال فانه لم يندفع الى ما كان مغريا له من أن يجعل حديثه متمحورا في نسق واحد يدير الصراع كله من خلاله حول جزئية واحدة أو نزعة واحدة من النزعات الإنسانية، ويرجع السبب في هذا إلى إيمانه كمسلم بالجوانب المتعددة في الدعوة المحمدية وآفاقها غير المحدودة.
وبطبيعة الحال فإن بعضاً من قصائد ديوان مجد الإسلام تبدو قريبة التناول أو خالية من العمق الفني المتوقع منها في ظل المقارنة بمعظم القصائد في ذلك الديوان، لكن الديوان، علي وجه العموم، حافل بروح دينية عميقة الإيمان واليقين بالحق.
وانظر إليه وهو يتحدث بثقة وحماسة فيقول:
إن الجبال التي في الأرض لو كفرت لدكها جبل الإسلام أو نسفـــا
لمــا دعــاه بســيف اللــه سيده زاد السيوف به في عزها شرفـا
ديــار مكــة أمــا مَــنْ يــسالمه فلا أذى يتقي منه ولا جنفـــا
لا تجزعي إنه العهد الذي انبعثت أنواره تصدع العهد الذي سلفا
وهو يقول في وصف معارك النبي عليه السلام:
مشي النبي يحف النصر موكبه مشيعا بجــلال اللــه مكتنفا
لم يبــق إذ سطـعت أنوار غرته مغني بمكة إلا اهتز أو رجفـا
تحـرك البيت حتى لو تطاوعــه أركانه خف يلقي ركبه شغفا
وافاه في صحبه من كل مزدلف فلم يدع فيه للكفار مزدلفــا
العاكفون على الأصنام أضحكهم أن الهوان على أصنامهم عكفا
كانـوا يظنــون ألا يستبــاح لها حمي فلا شمما أبدت ولا أنفا
نامــت شياطينهــا عنهـا منعمة وبات ماردها بالخزي ملتحفــا
هوت تفاريق وانقضت محطمة كأنها لم تكن إذ أصبحت كسفا
ريعت جيوش قريش من قذائفها وريع منها الخزاعي الذي قذفـا
مفاخرته بحبه للنبي عليه الصلاة والسلام
أظهر ديوان «مجد الإسلام» جوهر عاطفة الشاعر أحمد محرم تجاه النبي محمد صلي الله عليه وسلم وسيرته، فقد كان حب النبي محمد صلي الله عليه وسلم قد تمكن من وجدان الشاعر أحمد محرم وعقله حتي فرض علي نفسه أن يحيي رسول الله صلي الله عليه وسلم في كل عام بقصيدتين في مناسبتي الهجرة الشريفة والمولد النبوي، هذا فضلا عن قصائد متعددة في ذكريات غزوة بدر وذكري الفتح.
ونحن نراه يصور شعوره العميق بعجز الشعراء، وهو منهم، عن الوفاء بحق رسول الله صلي الله عليه وسلم فيقول:
أنت المجال الرحب تُعتصر القوي فيه وتمتحـن الجيــاد السبــق
حســانٌ منبهــرٌ، وكعبٌ عاجزٌ والنابغُ الجعدي عــانٍ موثـق
أطمعتهم فتجاوزوا فيك المدى وأبيت فانصرفوا وكل مخفق
لي عذرهم أنت من عدة المني إلا وراء مخيلة مـا تصــدق
وامتد حب الشاعر أحمد محرم للنبي عليه الصلاة والسلام إلى أنبياء الله عليهم صلوات الله فنظم في قصص الأنبياء معلقة طويلة ابتدأها بقصة آدم وحواء وخروجهما من الجنة، وأشار فيها إلى قصص الأنبياء على نحو ما ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
إيمانه بالجامعة الإسلامية وخيبة أمله في أتاتورك
كان الشاعر أحمد محرم ميالا إلي نصرة الخلافة العثمانية لما كان يراه من أنها تمثل قيمة دينية.
وقد مدح الشاعر أحمد محرم السلطان العثماني من منطق الإيمان بمقامه الديني حاثا علي الحفاظ علي الجامعة الإسلامية، كما أن له قصائد في الفخر بالمعارك الحربية التي خاضها العثمانيون مع اليونانيين، وقد بالغ في مديح أداء العسكريين الأتراك في هذه المعارك و غلب عليه الظن كجمهور المسلمين بأن هؤلاء العسكر الأتراك قادرون علي الحفاظ علي مجد الدولة الإسلامية، كما ندد في أشعاره بالخارجين علي دولة الخلافة والمتمردين عليها، و لهذا السبب فقد كان من الطبيعي بعد هذا أن يتألم لما حدث في مرحلة لاحقة من انقلاب الكماليين علي الخلافة العثمانية واضطهادهم لرجال الدين الإسلامي، ومحاربتهم للعواطف الدينية، وقد نظم في الأسف علي سقوط الخلافة العثمانية ملحمة طويلة طبعت في كتاب مستقل أشار أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي إلي أنه كان يحتفظ بنسخة منه.
كان يعتبر العرب عثمانيين مثلهم كمثل الترك
ومن المهم أن ننتبه إلي الاختلافات الكثيرة التي تشوب كتابات مؤرخي الأدب العربي فيما يتعلق بموقف الشاعر أحمد محرم من العثمانيين، وبعيدا عن أن نستغرق وقت القارئ في ذكر الآراء والآراء المناقضة التي سبقتنا في هذا الموضوع ، فإنه يمكن لنا أن نلخص موقف الشاعر أحمد محرم في القول بأنه كان محبا للعثمانيين، لا لأنه تركي في الأصل من ناحية أبيه وأمه فحسب (علي نحو ما يري البعض)، ولكن لأنه كان يري العثمانيين دولة خلافة تسع العرب والترك وغيرهم، وقد عبر هو نفسه بصراحة ووضوح عن التنازع في نفسه بين العرب والأتراك ، حيث عبر عن ولائه لبني عثمان فجعلهم بذكائه وصدقه «عترة» يضمون العرب والترك معاً.
وقد ظهر هذا المعني الذكي بكل وضوح في قصيدته التي نظمها في تحية «الدستور العثماني» حيث جعل كلا من العرب والترك من «بني عثمان» وهي الفكرة التي عشت حياتي أتعجب من تخطي العرب لها وظنهم الواهن أنهم ليسوا بعثمانيين مع أنهم كذلك، وهو يخاطب قومه المسلمين بهذا المعنى في هذه الأبيات:
يا آل عثمان من ترك ومـن عــرب وأي شعب يساوي الترك والعربا
سوسوا الخلافة بالشوري ولا تدعوا لفتنــة في نواحي الملك مضطربا
صونوا الهلال وزيدوا مجده علما لا مجد من بعده إن ضاع أو ذهبا
كان مثالي النزعة في السياسة
يمكن لنا القول دون مبالغة ولا تعسف بأن الشاعر أحمد محرم كان مثاليا في نزعاته القومية والسياسية، كما كان ذا وعي يبدو أنه وعي فطري أو منطقي فيمن يدرسون التاريخ علي حقيقته وعلي اتساعه قبل أن يتأدلجوا بأية أيديولوجية محدودة الفكر، ويندر أن نجد حتي بين شعرائنا وأدبائنا من العرب الأقحاح (لا من ذوي الأصول التركية كما هو الحال في محرم) مَنْ تمتع بوضوح الرؤية والتعبير عنها علي هذا النحو المبين.
وبهذا المنطق نستطيع أن نفهم كل ما نظمه الشاعر أحمد محرم وانفعل به في حديثه عن حبه لدولة الخلافة الإسلامية، أوفي هجومه على مَنْ ثاروا على فكرة هذه الخلافة، أو علي دولة الخلافة من أمثال الشريف حسين وأبنائه.
نستطيع أن نقول أيضاً إن ثقافة الشاعر أحمد محرم التاريخية العميقة والواسعة كانت بمثابة رافد من روافد الوعي السياسي الذي جعله يسبق غيره من الشعراء إلى اكتشاف ما لم يكتشفوه مما نعرفه اليوم على أنه من حقائق التاريخ وأساسيات الفكر الأساسي. ونحن نقرأ للشاعر أحمد محرم في شعر مبكر دفاعه عن «بني عثمان» كما يسميهم في مواجهة قومه من العرب المناوئين لهم، وذلك على الرغم من أن محرم بشاعريته وإقامته وثقافته كان واحداً من هؤلاء العرب، وهو يقول بكل وضوح:
لولا بنو عثمان والسنن الذي شرعوا لما وضح السبيل الأقوم
سطعوا بآفاق الخلافة فانجلى عنـها من الحدثان ليل مظلم
فـهم ولاة أمورها وكفاتها وهم حماة ثغورها، وهم هم
خالفت في حبها قومي الألى علمت واحيرتا اليوم بين الترك والعرب
قالوا: هبلت! أتبغي بينهم نسبا؟ هيهات! مالك في الأعراب من نسب!
فقلـت، والشعــر تنميني روائعه لـولا الأعاريب قد عريت من أدبي
ميله السياسي للحزب الوطني
أما عن اتجاه الشاعر أحمد محرم السياسي في مرحلة الحزبية فقد كان من الطبيعي أن يكون أميل إلى اتجاه الحزب الوطني، لكنه مع هذا ظل بعيدا عن ممارسة التحزب والسياسة.
حماسته لنصرة الليبيين وفهمه للسياسة الدولية
والواقع أن الوعي السياسي للشاعر أحمد محرم في تلك الفترة المبكرة لم يقف عند هذه الحدود، وإنما تعداها إلى فهم أعمق وأعرض لحقائق الصراع الدولي في تلك الفترة.
فقد كان له موقف واضح وصريح من الاتجاهات الموالية للاستعمار الغربي أو المتقبلة له أو المنبهرة بسلوكياته، وقد تناولت أشعاره بالنقد اللاذع سياسات الدول الممثلة للحضارة الغربية على اختلاف قومياتها، وما شهدته حروبها وانتصاراتها وصراعاتها من وحشية وفظائع، وقد عقد في شعره المقارنات بين هذا السلوك الوحشي وبين سلوك الحضارة الإسلامية في عهدها الزاهر.
وفي قصائده التي نظمها عند اندلاع الحرب الإيطالية البربرية ضد مواطني ليبيا العزل، نجد الشاعر أحمد محرم وقد أكثر من اللجوء إلى أمجاد الإسلام كي يستدعيها في مواجهة الظلم الذي واجهته شعوب المسلمين. ولا شك في أن الشاعر أحمد محرم كان في طليعة الشعراء الذين أحسوا بضراوة الحرب الليبية وأهوالها، واستنفروا المسلمين في كل مكان لنجدة إخوانهم في ليبيا، وفي ديوانه كثير من القصائد التي تتناول مراحل هذا الصراع الذي شخصه تشخيصه الصحيح على أنه بين أوروبا والشرق.
ونحن نراه في قصيدته “الحرب الوحشية في طرابلس” يستنفر جموع المسلمين للقاء المستعمر الإيطالي، ويذكرهم بما أبلاه السلف، ويستنهض همم المسلمين المعاصرين بذكر بطولات محددة وعظيمة قام بها السلف الأول من المسلمين، بل إنه يسأل عن هؤلاء الأبطال الأوائل بالاسم وما ينبغي أن يكون لهم من صدى البطولات التي ينبغي أن يكررها الأحفاد وهو يقول:
أين ابن عم رسول الله يطفئها حربا على كبدي من نارها شرر؟
أين اللواء؟ وخيل الله يبعثها عمرو، ويصرخ في آثارها عمر؟
أين المقاديم من فهر ومن مضر ومن قريش وأين السادة الغــرر؟
أين الملائكة الأبرار يقدمهم جبريل يستبق الهيجــا ويبتــدر؟
ويصور الشاعر أحمد محرم ثمار عمل هؤلاء الأبطال وبطولاتهم تصويراً جميلاً وموحياً يكرر فيه لزوم ما لزمه من استخدام أداة الاستفهام أين في أول كل بيت من هذه القصيدة الرائية الحماسية الجميلة ذات الروح الحماسية والنبر المضموم الموحى بالتقدم للأمام:
أين المعامع ترقص النفوس بها هلكي ويستن فيها النصر والظفر؟
أين الوقائع تهتز العروش لها رعبا وتنتفض التيجان والســرر؟
أين القياصر مقهورين لا صلف ينأي بجانبهم عنا ولا صغـــر؟
وعلى هذا المنوال ينسج الشاعر أحمد محرم بقية قصيدته فيتحدث عن حرمة بيت الله الحرام على سبيل المثال ويقول:
أيطـرب البيت أم تبكي جوانبه حزنا ويعول فيه الركن والحجر
ويح الحجيج إذا حانت مناسكهم ماذا يري طائف منهم ومعتمر
أين الحماة وقد ضاعت محارمنا أين الكفاة ؟ أين الذادة الغير؟
أين النفوس ترامي غير هائبة؟ أين العزائم تمضي ما بها خور؟
أين الأكف يفيض المال مندفقا منها كما اندفقت وطفاء تنهمر؟
ويصل الشاعر أحمد محرم في النهاية إلى أن يتمني علي الله أن يجد بعض هؤلاء فيقول:
مَنْ لي بهم معشرا صيدا غطارفة ما ضيعوا ذمة يوما ولا غدروا
إن أدعهم لجــلاء الغمرة ابتدروا وإن أصح فيهم مستنفرا نفروا
هل كان ماضويا بعاطفته أم كان ميالا بعقله للماضي المجيد
لعل هذه الأسباب مجتمعة هي التي جعلت إنتاج الشاعر أحمد محرم يحفل بما يمكن أن يسمي أو يوصف بأنه نزعة «ماضوية» تتمني لو عادت أمته إلي مجدها كي تتخلص من نير الاستعمار ونوائبها علي يديه حيث يقول على سبيل المثال :
تفاقمت الخطوب فلا رجاء وأخلفت الظنون فلا وثوق
تطالعنا السنون مروعــات ونحن إلى أهلّتها نتــــوق
يمر العهد بعد العهد شرا فأين الخير والسعد الأنيـق؟
نوائب روع التنزيل منها ورج القبر والبيت العتيـق
كان الشاعر أحمد محرم يمنّي نفسه بصورة هذا الواقع «أو الماضي» المجيد الذي كان يراه قابلا للعودة أو للتكرار لو أن أهله عادوا إلي سيرة أسلافهم العظماء، ولهذا السبب فقد ظل الشاعر أحمد محرم يتبني في أشعاره التعبير عن الاتجاه المنادي بضرورة العودة إلي الدين والالتزام بتعاليمه الخلقية من أجل القضاء علي مشكلات المسلمين في العصر الذي عاشه:
أري فســادا وشــرا ضاع بينهما أمـرُ العبــاد فلا دين ولا خلــق
الــدهر مغتسـل مـن ذنبـه بدم والأرض بالنار ذات الهول تحتــرق
قوم إذا ما دعا داعي الهدى نكصوا وإن أهاب بهم داعي الحمى استبقوا
لم يبق من محكم التنزيل بينهم إلا المــداد تــراه العين والــورق
ضاقت بهم طرق المعروف واتسعت مـا بــين أظهرهم للمنكر الطــرقُ
ضـج الصبـاح لما لاقت طلائعه من سوء أعمالهم واستعبر الغسق
انشغاله بفكرة إعادة بناء الدولة الإسلامية
نعود فنقول إننا لا نستطيع أن نفهم مضامين الخطاب الشعري للشاعر أحمد محرم من دون أن ندرك حقيقة التطورات السياسية التي عاشها واكتوي بنارها المستعرة، ذلك أن هذا الشاعر عاش فترة انحلال الدولة الإسلامية على أيدي المتربصين بها، ثم عاش الحقبة التي شهدت تكرار الظلم الذي حاق بكل قطر من الأقطار الإسلامية بعد انفراط عقد الخلافة، بل منذ أن أشرف هذا العقد على الانفراط.
كان الظلم الذي حاق بالمسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أكثر ما أثار شاعرية أحمد محرم، وحفزه إلي التغني بأمجاد الدين الإسلامي، وعظمة أتباعه، وإلي الدعوة إلي استعادة الأمجاد الإسلامية، ولهذا فإنه شغل عقله ووجدانه (ومن ثم شعره) بالبحث عن طريقة أو آلية لتجديد البناء الذي قوضته الأحداث، ولم يكن من الصعب عليه بحكم نشأته ومعارفه أن يتوصل بتفكيره إلى أن هذا الطريق يتمثل في المقام الأول في اقتفاء آثار السلف الصالح، وفي التمسك بحبل الله، وفي العودة إلي رفع راية الجهاد، وفي تعميق الإيمان بمعاني التضحية والفداء.
اتجاهه إلى شعر العقيدة
ها نحن رأينا أمثلة حية على أن الشاعر أحمد محرم أجاد فيما نظمه من شعر العقيدة وأبدع، بل كان إماماً لمعاصريه في هذا الميدان بما بثه من آيات الإيمان والحث على الاعتصام بحباله والتأدب بآدابه، وتصوير الإيمان والأخلاق في صورة أهم الأسباب في بناء الوطن وتربية الشعب.
أشعاره الوطنية
لا شك في أن شعر الشاعر أحمد محرم الوطني غزير ومتنوع، ذلك أنه مع كل هذا الإيمان بالإسلام وأصالته ودوره كان في مقدمة شعراء الوطنية الأوفياء الذين ثبتوا على رأيهم في الإيمان بفكرة الوطن وفي الإيمان بحق الوطن، والذود عن حماه بكل ما هو ممكن، وفي مقدمة هذا «الممكن» و«المندوب» كان محرم يري رسالة «فن الشعر» الذي ملك ناصيته.
والواقع أنه بلغ به الذري في التعبير عن الحب العميق للوطن وأبنائه، وعن أمنياته لهذا الوطن، وعن دفاعه عن الوطن في مواجهة المغرضين والمخربين.
قصيدته الشهيرة في الرد على مزاعم لورد كرومر
كانت فكرة الوطن واضحة ومحددة عند الشاعر أحمد محرم ، لكنه بالإضافة إلى هذا الوضوح الفكري كان مدركاً لموقف الغرب من الشعوب التي تدين بالإسلام، ومحاولة بعض سياسيي الغرب الإلقاء علي الإسلام كدين بتبعة مشكلات هذه الأوطان كما كان من أوائل من انتبهوا إلي فكرة الفارق بين تعاليم الإسلام وبين تطبيق المسلمين المتفاوت لهذه التعليمات، ولهذا فإنه لم يكن ير أي وجه للصواب في رأي لورد كرومر الذي كان يلقي بالتبعة في تخلف المسلمين علي الإسلام نفسه.
وقد بلغ الشاعر أحمد محرم الذروة فيما نظم من الشعر الذي ناقض به هذه الفكرة وناهضها، فجاءت قصيدته التي عنوانها «كرومر والإسلام» آية من آيات المنطق السليم والعقل الحكيم، وقد نصب نفسه فيها مدافعا عن الإسلام الذي لم يتخلق المسلمون المعاصرون له بأخلاقه حيث يخاطب كرومر فيقول:
زعمـت بنــا مزاعم كاذبات ومــا يغـني مقــال الزاعمينـا
زعمت الدين والقرآن جاءا بمــا يشــقي حيــاة المسلمـينا
رويــدك أيــها الجـبـار فينا فبئس الحكم حكم القاسطينا
وهنـا أمة في الجهل غرقى وشعــبا في مـهـانتـه دفينـا
أديــن اللــه يأمـرنا بجهل ويوجب أن نذل ونستكينا؟
سل الأحياء والموتى جميعا أكنـــا أمة مستضعفينــــا؟
وفي هذه القصيدة وظف الشاعر أحمد محرم شاعريته وعبقريته الفنية وعقليته الجدلية في تفنيد دعاوي لورد كرومر مذكرا بتاريخ المسلمين الحافل بالبطولات التي غيرت وجه الحضارة الإنسانية، ومذكراً بشجاعة القادة والحكام المسلمين، ومشيرا إلي روح العلم الذي أفاد به الغرب من الإسلام، وأنار لهم طريق الحياة، ورسم السبيل إلى الحضارة في الوقت الذي كانت فيه أوروبا في العصور الوسطي لاتزال تعيش الظلام:
ليــالي يبـعثُ الإســلامُ منـا عــزائم تُخضِــع المتغطرسيـــنا
نثــلُّ عــروش جبـارينَ غُلبا ونجتــثُّ الممــــالك فاتحيــــنا
وقائعُ ترجُفُ الدُّولات منها ويـذكــرها القيــاصر صاغريـنا
تركنا الدهر ينتفض انتفاضا وغــادرنا الخـــلائق ذاهليـــنا
ببــأسٍ لا كِفــاء له وعـلم جلا الغمرَاتِ واكتسح الدجونا
ليــالي ظلل الأقوام جهل أضَلّــهُمُ فظلــــوا حائريــــنا
ويختم الشاعر أحمد محرم هذا المقطع ختاما رائعا ينسب فيه الرشد إلى الدين على سبيل القصر:
سنَنـا الرشد للغاوين طرا ولولا الـدين لم نــكُ راشدينا
وفي هذه القصيدة يلتفت الشاعر أحمد محرم إلي مخاطبة لورد كرومر مشيرا إلى خذلان بعض رجال الإسلام لدينهم:
ولــولا معشـر خــذلوه منا لكـنا الـــسابقين الأولينا
أتزعم ما جني الجهلاء دينـا وتأخذنا بذنب الجاهلينا؟
رويــدك أيهــا الجبــار فينا فمــا أنصفتـنا دنيــا ودينا
ثم يمضي الشاعر أحمد محرم في سبيله هذا خطوات أخري فيسمي حكام البلاد الذين يصدرون في حكمهم عن إرادة العدو المحتل والضالعين معهم ويصفهم بأنهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وهانت عليهم كرامتهم.
شاعر الوحدة الوطنية
على نحو ما تفوق الشاعر أحمد محرم في وضوح رؤيته لقيمة الخلافة الإسلامية، وتصويره الذكي لجوهر العلاقة الأخوية بين العرب والترك، فإنه تفوق تفوقا ساحقا في الحديث الذكي عما نسميه الآن «الوحدة الوطنية».
وبلا جدال، فإن الشاعر أحمد محرم كان بمثابة أول الشعراء الذين استشرفوا الأمل في وحدة وطنية حقيقية تصون للوطن في مصر قدسيته وحقوقه، وكانت أشعاره القوية إرهاصا ذكيا لما حدث بعد هذا حين اندلعت ثورة 1919، وارتقي الأقباط منابر الخطابة في الجامع الأزهر الشريف، ولهذا كان الشاعر أحمد محرم في ذلك الوقت أسعد الناس بتحقق فكرته وتجسدها على هذا النحو المبين على أرض الواقع، وقد سجل بعض مشاهد الوحدة الوطنية التي أثمرتها ثورة 1919 في قصيدته الشهيرة «مصر في حرم الله» حيث يقول:
مرحــبــا بالإخــــاء في حـــــرم اللــ ـه وأهــــلا بقومــنا الصـالحـينا
حي آل المسيح يا بيت، واقض الحـ ــق عــن آل «أحمد» أجمعـينا
اكــــتب العهــــد بيــننا واجعل المصـ ـحف خير الشهود فيـــهم وفينا
حسبـــــنا اللــه لا نــريـــد سـواه مـن كفيــل ولا نريـــد ضــــمينا
إن عقـــدنــا عــــرا الوفـــاء لمصــــر وجعلــنا الإخــــاء دنيا ودينــــا
فهــــي للــــه حـرمــــة مَنْ يصنــهــا يحيي في ظل الظليـل مصــرنا
وعلى عادته فإن الشاعر أحمد محرم يجيد بلورة أفكار مقطع كامل من شعره في بيت حاسم يودع فيه خلاصة ما وصل إليه ودعا به، وهو هنا يقول بصوت عال:
إن مَنْ عق من بني النيل مصرا عــق آباءه وخان البنينا
قصائده في محاربة الفتنة الطائفية
من المثير للإعجاب والتقدير أن نجد لهذا الشاعر درراً مبكرة حافلة بالمنطق والبيان المعبر عن الوجدان النقي يدعو فيها أبناء مصر بكل إخلاص إلي القضاء علي الفتن الطائفية التي أطلت برأسها في العصر الذي عاشه، والحق أن أحدا من دعاة الإسلام والعروبة لم يلتفت إلي قضايا الوحدة الوطنية وأخوة الأقباط المصريين للمسلمين علي هذا القدر وبهذا المستوي من الإعجاز الشعري والبياني الذي أنجزه أحمد محرم، وقد انتبه الشاعر أحمد محرم مبكراً إلي محاربة الفتنة الطائفية التي حاول الإنجليز بثها في عهد السير جورست، وكان من أوائل الذين التفتوا إلي معاني التسامح الديني والوحدة الوطنية عبر تاريخ مصر الطويل وعبر عنها في أشعار رائعة.
وللشاعر أحمد محرم أكثر من قصيدة في هذا الميدان، منها:
«الحفاظ الوطني» وهي بائية،
و«الإخاء الوطني» وهي رائية،
وقصيدة ثالثة من قافية الكاف،
و«الخلف واللجاج»، وهي قصيدة ميمية،
و«بين المأربين» وهي قصيدة ميمية أيضا،
هذا فضلا عن نونيته الشهيرة التي قرأنا بعض أبياتها لتونا «مصر في حرم الله”.
وفي إحدى روائعه وهي قصيدته البائية التي جعل عنوانها «الحفاظ الوطني» يقول هذا الشاعر الوطني المفكر بوضوح واعتزاز إنه هو وأصوله و فروعه وما تملك يداه ليس إلا ملكا لمصر العزيزة عليه، المستحقة لوجده و ولائه :
مصر الحياة ، وحبها الشرف الذي بطــرازها العـالي أدلّ وأعجب
نفـسي ومـا ملكـت يـداي لأمتي وسراة آبائي ، ومَنْ أنا منجب
علمـتهم حــب البـــلاد أجنــةً وذوي تمائم ينصتـون وأخطب
وفي قصيدة أخري يخاطب الشاعر أحمد محرم وطنه مصر كما لو كان عاشقا متيما يناجي معشوقته ، وهو يستعرض في رشاقة عددا من الصور المعبرة التي ينبغي أن يكون عليها ولاؤه لهذه المعشوقة:
أي حــق من قبل حقك يقضي وذمــام يصـان قبل ذمامك
بــارك اللـــه في بنيك وطوبي لسعـيد يكــون من خدامك
مـا مقــام الحيـاة في النفس إلا دون ما ينبغي لعالي مقامك
نعمة العيش من أياديك عندي وجمــال الحيـاة من إنعامك
لـو بذلنـا النفوس فيك كباراً ما قضينا القليل من إكرامك
ويبلور الشاعر أحمد محرم في قصيدته البائية فكرته الوطنية في بيت من أبيات الحكمة الجميلة:
ليـــس الشقــاء بزائــل عن أمــة حـتي يــزول تفــرق وتحزب
ثم هو يتبع هذا البيت بأمنية يتمناها علي الله، وهو يراها جديرة بالتحقيق:
مَنْ لي بشعب في الكنانة لا القوي تنشق منه ولا الهوى يتشعب
متــألـــب يبــغي الحيـــاة كأنــه جيــش عـلى أعـدائه يتألب
كذلك نرى الشاعر أحمد محرم وهو يؤكد في قصيدته «هذا السبيل» على التعبير الجاد عن دعوته المخلصة بالاتحاد التي يوجهها إلي أبناء وطنه مطالبا بالاعتبار من الحوادث ، و الإفادة من التجارب :
إيه بني مصر أما وعظتكم ما تصنع الأحــداث والأيام
إيه فقد طمت الخطوب وهالنا منــها ركــام يعتلــيه ركـــام
إيه فقد أشقي النفوس جمالها وأضــلها التمــويه والإيهـام
خلــق يهـــب الشر منه وترتمي فــتن تــروع الآمنــين جسام
سوسوا أمــوركم سياسة حازم فلعــل معــوج الأمـور يقام
أسفي على المتباغضين وقد رأوا أن الفــلاح تـــودد ووئــام
شرعوا العداوة بينهم لم يوصهم دين المسيح بها ولا الإسلام
حتمية الإخاء الوطني
على هذا النحو كان الشاعر أحمد محرم يعبر عن حالة الوجد التي تجمع المصريين من أقباط ومسلمين، وهو يري هذا الانصهار أمرا حتميا كالإيمان لا يصيبه التغير ولا التحول، وهو يقول في قصيدته “الإخاء الوطني”:
ننـسي، ويعطفنا الإخـــاء فنذكر والحب يُطوي في القلوب ويُنشر
إنا، لعمر اللائمين على الهوى، لـنري ســواء مـن يلـــوم ويعذر
نـرضي الأحـبة لا نراقب بعدهم أهــواء مَنْ يرضــي ومَنْ يتذمر
يا مــن يحـــاول أن يغيّر عهدنا انظــر إلى الإيمــان هل يتغير؟
………………………
الدهــر يشهـد والحــوادث أننا لسـوي الوفــاء لقومنــا لا نؤثر
إخــواننا الأدنــون يجمـع بيننا عهــد أبــر وذمـــة ما تخفــر
يـا أمة الإنجيـــل إنـــا أمــــة في مصــر واحــدة لمـن يتدبـر
درجت على ذمم خوالد لم تزل تمضي القرون بها وتأتي الأعصر
نموذج من حديثه الشعري إلى الأقباط المصريين
يخاطب الشاعر أحمد محرم أبناء وطنه من الأقباط في قصيدته «الخلف واللجاج» خطابا محبا عطوفا صريحا ينبئهم فيه عن حقيقة موقف إخوانهم المسلمين منهم على مدي التاريخ، مثنيا علي سلوك الطرفين ووفائهم لهذا العهد:
يا أمــة القبــط والأجيال شاهدة بما لنا ولكم من صادق الذمم
هــذي مواقفنــا في الدهر ناطقة فاستنبئــوها تريحنـــا من التهم
إن يختلف منكم في الأمر مختلف فما لنا اليوم غير الله من حـكم
لا تظلموا الدين، إن الدين يأمرنا بما علمتم من الأخلاق والشـيم
منـا ومنـكم رجــال لا حلوم لهم ولا يفيئــون للأديــان والحــرم
أنـتم لنـا إخــوة لا شيء يبعــدنا عنكم على عنت الأقدار والقسم
ليــس اللجــاج بمُـدنٍ من رغائبنا ولا الشقاق بمُجدينا سوى الندم
وعلى نفس النهج فإن الشاعر أحمد محرم في قصيدته «بين المأربين» ينبه بوضوح إلى ضرورة التصدي للدعاوي الكاذبة التي يروجها الغربيون والتي لا يمكن لها أن تمس حقيقة العلاقة الثابتة بين الأقباط والمسلمين منذ عهد الرسول صلي الله عليه وسلم:
كــذب الوشــاة وأخطأ اللوّام أنتـم أولــو عهـد ونحن كرامُ
حــب تجـــد الحادثات عهوده وتزيــد في حرمـــانه الأيــام
وصــل المقـوقس بالنبي حباله فــإذا الحبــال كأنــها أرحــام
وجــرى علــيه خليفةٌ فخليفة وإمــام عــدل بعـده فإمــــام
لا تنشد العهــد المؤكد بيننـــا النيـل عهـــد دائــم وذمـــام
مدوا القلوب مصافحين بموقف عكف الصليب عليه والإسلام
…………………….
عقدت يد الله القوي حبالهــا والرسل والملأ العلي شهــود
طرف على كف «المسيح» يمده طرف بكف «محمد» مشدود
وعُني الشاعر أحمد محرم في شعره بالإصلاح الاجتماعي ونظر إلى هذا الإصلاح من وجهة نظر خلقية سامية تستند في جوهرها وتفصيلاتها إلى تعاليم الدين وروحه، وقد نظم في هذا المجال آثاراً شعرية كثيرة تنطق بسمو الفكرة وجلال المعني وبالقدرة على الإقناع.
ومن الجدير بالذكر في هذا الميدان أن الشاعر أحمد محرم كان من الداعين إلى تعليم المرأة وتثقيفها، وقد حفل تراثه الشعري بأشعاره التي تحث على تعليم الفتاة، وتذهب إلى تأكيد الضرورة القصوى لهذا التعليم، بل إنه كان يصور تعليم الفتاة بمثابة الفيصل بين مستقبل واعد للأمة وبين النكبة التي تحيق بها إذا ما أُغفل هذا التعليم:
جـاهل ظــن أن العــلم مفسدة للبنت فانتقص التعليم وانتقــدا
مهــلا فـرب فتـاة أهلكت أسرا بجهلهــا وعجــوز أفسدت بلدا
الأم للشــعب إما رحمة وهدى أو نكبة ما لها من دافـع أبـــدا
لا يذهب الشعب في أخلاقه صببا والأم تذهب في أخلاقه صعـدا
لا تيأســوا وأعـدوا الأم صالحة فهي السبيل إلى إصلاح ما فسدا
لكننا نلاحظ أن الشاعر أحمد محرم مع هذا كان من الذين اختلفوا مع دعوة قاسم أمين إلي السفور، وقد هاجمه ناصحا في دعوته إلى التبرج:
أقـاسم لا تقـذف بنفسك تبتغي لقومك والإسلام ما الله عالم
ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها لما قام للأخلاق في مصر قائم
شعر الحكمة
أما شعر الحكمة فقد كان محرم في طليعة فرسانه، وإن لم يُعن بأن يسجل لنفسه السبق في هذا المجال بأن ينظم فيه على نحو مستقل مثلا، أو بأن يقدمه في قصائده على موضوعات هذه القصائد، وعندي أن هذا مما يضيف إلى شاعرية محرم، فليس أعذب من حكمة تأتي في ثنايا الحديث عن الأغراض الأخرى دون أن يتفرغ الشاعر للاستعلاء على الآخرين بما أدرك من خبرات.
والواقع أن الحكمة في شعر الشاعر أحمد محرم كانت تأتي كما يقول النقاد أقرب ما تكون إلي خيط الضوء في اللوحة المعبرة، فهي تأتي مطبوعة غير متكلفة، ويبدو أن أكثر الأغراض التي عالجها، وهي أغراض وطنية، وأغراض تتصل بالعقيدة والتربية والأخلاق، كان لها الفضل في شيوع هذا النوع من الحكمة في شعره، وأظن أننا رأينا هذا المعني بوضوح فيما طالعناه من شعره.
كان مقلا في شعر المناسبات
ومع كل هذا التجلي في هذه الافاق الشعرية السامية والرحبة فقد كان الشاعر أحمد محرم مقلاً في شعر المناسبات، وفي مديح الشخصيات الوطنية والسياسية.
مديح الخديو عباس حلمي
نظم الشاعر أحمد محرم في شبابه قصيدة ذاع صيتها هي قصيدته «عظمة الملك وجلال الأدب في سياحة العباس الكبرى»، في مدح الخديوي عباس حلمي الثاني وقد ضنّ عليه رجال الحاشية والحكومة بإلقائها بين يديه في زيارته لمدينة دمنهور، فنشرها في جريدة المؤيد
أما علاقته بزعماء الحركة الوطنية، وفي مقدمتهم سعد زغلول باشا، فقد كانت كما يقول أستاذنا الدكتور بدوي طبانة محكومة بذلك الإطار من الوفاء المطلق للأماني الوطنية التي تتلخص في الحفاظ علي تراب الوطن، ووحدة أراضيه، وسياده أبنائه علي بلادهم، والاستقلال التام عن سائر ضروب التبعية.
قصائده في تحية الزعيم سعد زغلول باشا
كان الشاعر أحمد محرم قد حيا الزعيم سعد زغلول باشا مبكرا بقصيدة عصماء من قافية الفاء الرقيقة الراقية الموحية بالهدوء المنتج حين تولي وزارة المعارف (1906)، وعبر عن أمله وآمال المصريين في أن يتولى رعاية العلم والمعرفة في مصر:
إن المناصب للأقوام تجربة وإنك المرء أسس بالعلا كلفا
لا يعتلي منصبا إلا ليجعله إلى المحامد مرقــاة ومزدلـفا
وقد حرص الشاعر أحمد محرم في قصيدته التي هنأ بها سعداً على تولي الوزارة على أن يذكره بواجبه في إحياء العلوم الكفيلة بصياغة المجد الوطني:
وكل بها العلم إذ أصبحت مالكه ولا تخــف فيه ســرفا ولا جنفا
أطلق حبائس منه طالما جزعـت واستشعرت لتمادي حبسها أسفـا
أيحبس الماء عن ظمآن لو برقت لـه منيتــه في المــاء مـــا صدفا
يا سعد، أنعم به فألا وكان لنا أوفى وأصدق فأل في الدنا عرفا
وقد بلغ الشاعر أحمد محرم بسعد زغلول باشا الذري في مديحه له في ثورة 1919. لكن هذا كله لم يمنعه من أن يوجه بعض النقد إلى بعض مواقف سعد فيما تلا نجاح الثورة ومنها قوله المشهور في ذم أحد القرارات:
خذوه إلى المقابر فادفنوه وقولوا للرئيس لك البقاء!
وتلك كما يقول الدكتور بدوي طبانة آية من آيات وطنية الشاعر أحمد محرم وتجرده من الأهواء أو الوقوع في شرك الحزبية التي تعمي عن الحقائق وتنظر إلى الرجال أكثر مما تحكم عليهم بالأعمال.
راحوا بطانا وباتت مصر طاوية غرثى تشد على أحشائها النطق
شعره العائلي والعاطفي
حفل ديوان الشاعر أحمد محرم بروائع من الشعر الذي عبر فيه بطريقة مبهرة عن عواطفه نحو أسرته، وهو يقول في رثاء والده:
بنيت لنا من الأخلاق صرحاً دعائمه المروءة والوفــاء
نعــد المكــرمــات لنا ثــراء إذا ما القوم غرهم الثراء
ولا يخلو ديوان الشاعر أحمد محرم من درر غير مسبوقة في الشعر العاطفي الذي عبر فيه عن عاطفة الحب الصادق الذي عاناه في الحلقة الأخيرة من سلسلة حياته الطويلة.
اتجاهه إلى الأقاصيص الشعرية
انتبه الشاعر أحمد محرم بشاعريته الذكية، وإدراكه الفني إلي الدور الذي كان يمكن له أن يؤديه في هذا المجال من خلال الأقاصيص الشعرية التي تصور جدوى الالتزام بالخلق الكريم من خلال استعراض الصورة النقيضة لمصير المبتعدين عنه إلى النزوات العابرة التي تهدد نسيج المجتمع:
آسيت لمسرفين أعــان كلاّ عـلى إدمــان لذته أبــــوه
إذا ما عاقر الفحشاء منهم أخو النشوات غناه أخـــوه
………
عليهم من خزاياهم سمات وما أنفوا الفجار فيجحدوه
إذا ما عنّ في الظلماء صيد تداعوا حوله فتصيــــدوه
تـردي بينهم فتعــــاوروه إلى أن قال قائلهم دعــوه
إسهاماته في تحرير مجلة أبوللو
شارك الشاعر أحمد محرم مشاركة فعلية في تحرير مجلة “أبوللو”، فنشر في أول عدد منها قصيدة من شعر الحب عنوانها «من همومي»، وبحثا عن أدب المرحوم السيد توفيق البكري وشاعريته، ونشر في العدد الثاني من المجلة قصيدة عاطفية بعنوان «قوة وضعف»، ونشر في العدد السابع من المجلة قصيدة وطنية حيا فيها ذكري الزعيم مصطفي كامل، ونشر في العدد الحادي عشر دراسة نقدية: حافظ إبراهيم في الميزان». أما المجلد الثاني فقد نشر فيه من شعره قصيدتين: تحية أبوللو في سنتها الثانية، و«ليتني» وهي قصيدة تفيض بمعاني الفخر والشكوى. وفي المجلد الثالث نشر بحثا عن الشاعر إسماعيل صبري، وقصيدة في رثاء شيخ العروبة أحمد زكي باشا.
ويبدو بوضوح أن الشاعر أحمد محرم كان يبادل محرر أبوللو وسكرتير جمعيتها أحمد زكي أبي شادي تقديرا بتقدير، فألقي محاضرة عنه وعن شعره وديوانه «الشعلة» في نادي رابطة الأدب الجديد في القاهرة سنة 1933
وفاته
توفي الشاعر أحمد محرم يوم الأربعاء 13 من يونيو سنة 1945.
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا