هذه قصة حقيقية، وإن كانت مؤسفة ومؤلمة، بل شديدة الإيلام، والقصة ليس فيها تأليف ولا اصطناع ولا فن، فقد حدثت بالفعل، ومع أنها كانت ولا تزال قابلة للتفسيرات الواضحة وضوح الشمس، فإن هناك من لا يرى دلالتها، وليس هذا بغريب فإن المجتمع الإنساني يضم بين أفراده من ينكرون طلوع الشمس حتى في وقت الظهيرة.
روى هذه القصة الكاتب السعودي الراحل أحمد عبد الغفور عطار الذي كان حاضرا لهذا الحفل التكريمي الذي أقيم للأستاذ سيد قطب بمشاركة الدكتور طه حسين وذلك بعد أسابيع من قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وبالتحديد في شهر أغسطس عام 1952، وقد نشر تقريره الخبري عن هذا الحفل في مجلة “كلمة الحق”، وقد أشار الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار إلى أن رجال حركة الجيش أرادوا أن يكرموا رائدها الفكري، وفيلسوفها العظيم ليعرف الشعب أهمية هذا المفكر العبقري . فأقاموا ذلك الحفل لتكريمه، ثم يقول : ” وفي الموعد المحدد حضرت معه وكان النادي مزدحما بحدائقه وأبهائه الفسيحة، وحضرها جمع لا يحصى من الشعب، وحضر إلى النادي أبناء الأقطار العربية الإسلامية الموجودون في مصر، وكثير من رجال السلك السياسي، وكبار زعماء الأدب والفكر والقانون والشريعة، وأساتذة من الجامعات والكليات والمعاهد .وكان مقررا حضور الرئيس محمد نجيب، وتوليه تقديم سيد قطب ،إلا أن عذرا عارضا اضطر محمد نجيب للتخلف، وبعث برسالة تليت على الحاضرين، تلاها أحد الضباط : وموجز كلمة محمد نجيب أنه كان حريصا على أن يحضر المحاضرة، ويفيد من علم سيد ،ووصف سيد بأنه رائد الثورة ومعلمها وراعيها . وبعث نجيب برسالته مع أنور السادات. وأناب عنه جمال عبد الناصر”.
” وحوَّل الضباط محاضرة سيد قطب إلى مناسبة للاحتفال والاحتفاء به، وبيان مناقبه ،وبدل أن يحاضر سيد فيهم، صار الخطباء يتكلمون عن سيد ويثنون عليه وهو جالس . وقد افتتح أحد الضباط الحفل بآيات من القرآن الكريم وقال أحد كبار الضباط إنه كان مقرراً أن يقوم الرئيس محمد نجيب بتقديم أستاذنا العظيم، ورائد ثورتنا المباركة، مفكر الإسلام الأول في عصرنا الأستاذ سيد قطب، ولكن أمرا حال دون حضوره وأريد مني تقديم الأستاذ سيد قطب، وإن كان في غنى عن التقديم وعن التعريف . ” وكان حاضرا الحفل الدكتور طه حسين، فتقدم وألقى كلمة رائعة قال فيها: “إن في سيد قطب خصلتين هما المثالية والعناد” . وذكر الدكتور طه حسين سيد قطب وأدبه وعلمه وثقافته وكرامته، وعظمته وفهمه للإسلام، وذكر أثر سيد قطب في الثورة ورجالها . وختم طه حسين كلمته بالقول:” إن سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة، وكذلك في خدمة مصر والعروبة والإسلام “.
ثم وقف سيد قطب، وألقى كلمة مرتجلة، وسط تصفيق المصفقين وهتاف الهاتفين له، وقال عن الثورة:” إن الثورة قد بدأت حقا، وليس لنا أن نثني عليها ،لأنها لم تعمل بعد شيئا يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام “
ثم قال سيد قطب: “ولقد كنت في عهد الملكية مهيئا نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضا، فأنا في هذا العهد مهيئ نفسي للسجن ولغير السجن أكثر من ذي قبل “
وهنا وقف جمال عبد الناصر وقال بصوته الجهوري ما نصه: “أخي الكبير سيد، والله لن يصلوا إليك إلا على أجسادنا جثثا هامدة، ونعاهدك باسم الله بل نجدد عهدنا لك أن نكون فداء لك حتى الموت ” وصفق الناس تصفيقا حادا متواصلا!!
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا