كان الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ١٩٤١- ٢٠١٥ من الذين يجمعون الحسم والحماسة معاً فقد كان حاسما إلى أقصى حد كما كان متحمسا للحق إلى أقصى حد، ولم يكن من الممكن له أن يختار من علوم الدنيا ما يتماشى مع التفوق الساحق في هاتين الصفتين إلا علم النحو وما يتصل به من الصرف والعروض، وعلى سبيل الإجمال فإني أستطيع التعبير عن هذا المعني الدقيق وغير الشائع بالقول بأن الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف كان هو والعلم الذي أحبّه وتفوق فيه شيئا واحدا متوحدا، فلم يكن يترك واردة ولا شاردة من الفروع التي اكتنزها إلا وقد ألمّ به من جميع أبعاده لا من أعماقها فحسب. وقد اختاره الله لعلوم اللغة والنحو والصرف والعروض وبناء الجملة الشعرية وصياغة المعاني فأجاد فيها جميعاً على نحو لم تكن تحتمله العلوم الأخرى، فلو أنه تخصّص في الفلسفة لجعلها بفضل إخلاصه وكأنها الدين الذي لا يقبل التحريف ولا التأويل، ولو أنه تخصّص في الإسلاميات لما سمح بالتمذهُب ولا بالتعدّد ولا بالفرق والفروق.
نعم فقد كان من الصعب على شخصيته أن تعمل بالقانون أو بالفقه، ذلك أنه لو تخصص في الفقه لدخل في صراعات مذهبية يُصعّدها مرة بعد أخرى حتى إنه من أجل ما يراه حقا لن يجد حرجا في أن يحكم بخروج مخالفيه في الرأي عن جوهر الفقه، إذ كيف يمكن لهم أن يوازنوا بين أكثر من قاعدة بينما النحو لا يعرف إلا قاعدة واحدة، ولا يجيز في إعراب الاسم أن يكون مرفوعا أو منصوبا إنما هو مرفوع فحسب أو منصوب فحسب، ولو أنه تخصّص في التاريخ لأحال أوراق تسعين في المائة ممن كتبوا التاريخ إلى المفتي، ولو أنه تخصّص في الجراحة ما ترك إنسانا من دون أن يُدخله حجرة العمليات مرة واثنين وثلاثا، لكن الله لطف بهذه العلوم فجعله يختار علم النحو من حيث هو رياضة عقلية سامية، ومن حيث هو قانون مُطلق لا يحتمل استثناء ولا تأويلا، ولا يقبل انحيازاً عن قاعدة عامة إلا أن يكون الانحياز لقاعدة خاصة لها صفات القاعدة، وليست من قبيل الاستثناء فحسب.
هكذا عاش الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف بنفسية مُحبة حانية لكنها كانت لا تُطيق الخطأ ولا الاستثناء فما بالك بالتزوير أو المغالطة أو الانحراف في تطبيق النص أو القاعدة أو الحديث عن الظاهر بالباطن أو عن الباطن بالظاهر. وهكذا كان الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف نحوياً، وهكذا كان النحو في جيله هو حماسةً بلا تزيد ولا مبالغة وبلا مجاملة أو توهين.. ولهذا السبب فقد كنا في مناقشاتنا المجمعية نقدم لردودنا عليه إذا ما اعترض على شيء جائز بأننا نعرّب ولا نعرب فكان يبتسم، كما كنا إذا ما اعترض على دقة وصف من الأوصاف في الدلالة على معنى من المعاني نقول له إننا نعبر ولا نعرب، وكنا إذا ما اعترض على أن يشمل المصطلح إشارة إلى ما لا يحتمل اللفظ الدلالة عليه من المعاني التي تلصق بالمصطلح من باب الخطأ نقول له إننا نرعب ولا نعرب وكان بصفاء نفسه وخفة دمه يرد ردوداً من قبيل قوله: إنك أرعبتني برعبك، أو إنك ما تركت للإعراب شيئا من العربية، أو إنك تستغل التشكيل الذي في عين التعريب لتضع في العربية ما ليس فيها.
كان الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف كثيراً ما يُطالبني بدليل نقلي على صحة ما أذهب إليه من تفسير، يريدني أن أستحضر له شاهداً من أقوال العرب الذين يحتج بهم، أو نصاً من نصوص علماء اللغة الذين ينقل عنهم، وبالطبع فإن ظروف الحياة لم تكن لتُمكنني في كل مرة من الاستحضار الفوري لمثل هذا التوثيق الذي يغيب عن يدي في كثير من الحالات بل ربما كنت قد أعددت له النص وفاتني أن أحضره معي، وربما كان معي في حقائبي وتاه في وسطها في ظل الضغط العصبي الذي كنا نعيشه، وكان يبتسم في حب وعطف وترفُّق ويقول: أخشى عليك أن تتحول مع الزمن إلى أن تكون مثل أستاذنا الأكبر الدكتور تمام حسان الذي يفترض فينا أننا يجب أن نقر كل ما يقوله من العلم الذي لم نطلع عليه، حتى إننا صرنا نحدث أنفسنا بأن علمه (وهو صادق فيه) علم لدني، لا ينبغي لنا أن نستوثق منه، كنت أفهم معنى السخرية العطوفة المحملة بالحب فيما يقول فأتجاهل الشق الموصوف فيها، وأوظف الصفة إلى أقصى حد ممكن، وأطلب إليه أن يُحيّي الفكرة هو نفسه بروحه فيبتسم، ويقول: لكن الفكرة ستُنسب إليك، فأقول له إن التاريخ لن يذكر لي جهداً في اللغة إلا مرتبطاً بأنني صديقه فحسب، فكان ببديهته الخارقة للعادة يقول: أفلح إن صدق! ويردف بأنه يتحدث عن التاريخ، وليس عني!
لست أبالغ حين أقول إنني حين ظهر لي أنه قد حكم عليّ بالتشرد بدأت أعدد لنفسي ما سوف أفتقده بتشردي فوجدت تعليقات الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف الحية ومناقشاته الحميمة وقبساته الذكية في مقدمة ما سأفتقده / فكنت أهاتفه فأجده مبتسماً منشرح الصدر من أنني لم أقطع الصلة الروحية التي نشأت بيننا، والتي كنا نتغذى عليها و منها في كل أسبوع مرة أو مرتين وجها لوجه ومرات أخرى عبر الهاتف، وإذا به يقول لي في مرة من هذه المرات: أظنك أصبحت الآن تعتبر التلفون المحمول أكبر نعمة في الحياة، ثم إذا به في مرة تالية يقول لي بذكائه وقد صدق حدسه: إنني أحدس أنك حتى الآن لا تستعمل إلا محمولك المصري، وأنه لا يزال هو محمولك الوحيد، فأجبته وأنا أحاول أن أهرب من دمعي وأنا أتذاكى عليه بأنه أصبح لا يذكر أرقاما أخرى هاتفته منها، فقال لي، وقد أحس ببصيرته أن العَبرة خنقتني فجأة إنه لم يرد إلا أن يتفاءل بتفاؤلي، وإلا أن يشجع نفسه بتصرفي المتمسك بتليفوني، وما يدل عليه هذا التصرف في ثقتي أو أملي في عودة سريعة، وأنه لم يقصد بالطبع أن يذكرني بما قد يُحزنني.. فكان قوله برداً وسلاماً.
ومن أطرف الحوارات التي دارت بيننا (ثم أصبحت تتكرر مع إعادة توزيع لحنها) ذلك الحوار الذي دار فجأة حين استشهدت وسط كلامي ببيت من الشعر على معنى من المعاني لكن هذا البيت نفسه كان مما يُسمى بالشواهد النحوية أي التي يستشهد به أهل النحو على صحة القاعدة من شعراء الجاهليين، ومن الطريف في الأمر أن أحداً لم يكن يستخدم ذلك البيت في المعنى الذي استخدمته فيه مع أنه لصيق به تماماً، وفي لمح البرق تأمل الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في الموقف وإذا به يقول لي في جدية شديدة إنني لا بد أن أكف على السطو على الشواهد النحوية، فما كان مني إلا أن قلت بحب شديد أأنا الذي أسطو؟ أم النُحاة؟ وأخذ الأعضاء العلميون من المعجميين (على حد تسمية اللغويين لهم) ينظرون في تطلع شديد إلى الدكتور حماسة وماذا سيفعل في هذا الاتهام الضاحك الساخر بأن النحاة هم الذين سطوا على النصوص، واستخدموها للنحو، لكن الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف كان من الذكاء بحيث قال إن هذه الشواهد أصبحت من علم النحو، وأصبحت ملكا للنحاة، قلت ظننتك تقول: لولا النحو ما عرفتها يا محمد!، فقال وهو صادق فيما قال: لم يكن صعبا عليّ أن أقولها، لكني لا أسمح لنفسي أبدأ أن أقلل من قدرك، فقدرك عندي أكبر مما تظن، فقمت إليه وعانقته، وقبلته، وقبلني، ثم قال وهو المتفضل دوما: سبحان من أحيا الأدب على يديك بشواهد النحو، وأساتذة الأدب يبتسمون.
أذكر من سمو أخلاق الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف تعبيراً جميلا مشحونا بالوفاء حين كنا نتحدث في إقناع الأعضاء بضرورة عودة الأستاذ تمام حسان إلى عضوية المجمع بالانتخاب وكأنه عضو جديد بعدما كان قد استقال من عضوية المجمع، وأكد على استقالته، وأعطيت الكلمة لمؤيدي الفكرة بترتيب جلوسهم، فلما حلّ الدور على الدكتور حماسة للحديث بدأ فقال: إنني أشعر بالخجل أن أكون عضوا بينما الدكتور تمام حسان ليس بعضو، وانطلق من هذا القول الجميل في التعبير الصادق عن الإحساس النبيل إلى شرح قيمة الدكتور تمام كأستاذ له ولجيله من علماء اللغة والنحو على حد سواء.
أذكر للدكتور حماسة أيضاً أنه لم يكن يُخفي إعجابه بإلقاء الدكتور محمود حافظ رئيس المجمع للغة العربية وكنت أقول له إنه كذلك في اللغة الإنجليزية حتى إنه يكاد يكون المصري الوحيد الآن الذي يتكلم الإنجليزية بلهجة كامبردج كما يقولون، فكان يقول ومعه حق ليس هذا بعزيز فإن نطق العربية بهذا الالقاء دليل على قدرات لغوية عالية تُمكن صاحبها من أي نص في أي لغة ما دام يعرف هذه اللغة، وكان محقا في هذه النظرة وإن لم يكن من السهل علينا معاشر الأطباء والعلميين أن نستوعبها بسبب ما نعرفه من اختلاف نطق المصطلحات اختلافا كبيراً حتى إنه يحدث أن بعضنا ينطق المصطلح الواحد بطريقتين بسبب أنه تعلمه في فرعين من العلم بنطقين مختلفين.