يعرف القراء أنني منذ وفاة الأستاذ محمد حسنين هيكل التزمت ألا أكتب اسمه إلا مسبوقا بلقب أستاذ على الرغم من أنني لم أستخدم هذا اللقب مع اسمه في حياته أبداً، إلا إن كان رئيس التحرير أو المسؤول عن التحرير في الموضع الذي نشرت فيه قد أضافه إلى ما كتبت ليتوافق مع ما كان يظنه في شخصي من التهذيب، ومن حق هؤلاء القراء أن يعرفوا بعض قصص السجال غير المعلن الذي دار بيني وبين الأستاذ هيكل وهو سجال يضيف إليه بأكثر بكثير مما يضيفه إلي.
كان الأستاذ محمد حسنين هيكل في دفقة من دفقات التجلي قد رأى أن يُسمي نفسه بالجورنالجي، وأن يؤسس لهذه التسمية التي أعجبت ذوقه الراقي أو “المتحذلق” لتفرّدها وخروجها عن اللغة العربية، وعن الشائع، وبلغ من إعجاب الأستاذ هيكل بهذه الكلمة أنه بدأ يكررها في الحديث عن نفسه ويضيفها إلى تصويره للحوارات التي دارت بينه وبين الآخرين، فقد اعتذر عن الوزارة لأنه يرى نفسه جورنالجيا، وقد اعتذر عن غير الوزارة من المناصب والمهام لأنه يعتقد أنه خلق ليكون جورنالجيا فحسب، وبلغ تشبث الأستاذ هيكل بهذا اللقب الذي عثر عليه حدا كبيرا حتى إنه أشار به على أحد محبيه أن يؤلف عنه كتابا بهذا الاسم، وساعده بطريقته اللبقة المستترة غير الظاهرة، وكان هذا الصحفي الفنان مخرجا صحفيا متميزاً لا عهد له بالكتابة لكنه اجتهد في أن ينجز ذلك الكتاب. كنت أنظر إلى هذه المسرحية المعنوية القادمة بتعجب وتلذذ، حتى صدر الكتاب، وبدأت التغطيات الصحفية تتحدث عنه بنفس النبرة، ونفس المنطق الذي يريد أن يؤصل صورة ما بتكرار الكتابة عن الشيء بنفس الأسلوب أكثر من 13 مرة على نحو ما تقول به نظريات الإعلانات التلفزيوني.
انتهزت فرصة يفرغ فيها أحد الحواريين التنفيذيين من الأستاذ هيكل من مشاغله الكثيرة، وتظاهرت بالمرور العابر عليه لشيء لا يستحق المرور مع أن الصداقة تستدعي تجديد الزيارة بالطبع، وسربت لهذا الصديق المشترك أن هذا اللقب الذي أفنى الأستاذ هيكل وقته في الحصول عليه وتتويج نفسه به لقب مشين جداً بلغة العصر الذي نعيشه، فتح الصديق فمه من الدهشة لأنه كان يعرف عن يقين أنني لا أنتقد الألفاظ غير الفصيحة بل ربما رحبت بها، وذلك على الرغم من دفاعي عن الفصحى والتزامي بها، وسألني الصديق مباشرة هل غيّرت رأيك؟ فأجبته بأن المسألة لا تحتمل تغيير رأي ولا تغيير فكر فاللفظ نفسه هو المشكلة لأنه كان مستخدما من قبل في معنى محدد حيث كان يدل بصفة رسمية وشعبية وبلا أي جدل أو تفسير أو كناية على وظيفة “المخابراتي” أو “الأمنجي” في نهاية عهد الدولة العثمانية أي أنه ببساطة مرادف للألفاظ الدالة على البصاصين في عهد المماليك أو الأمنجية في العصر الحاضر.
يا خبر أسود.. يا خبر أسود.. يا خبر أسود كرر الصديق المشترك هذه الجملة أكثر من عشر مرات وهو ينظر إليّ بعينين مندهشتين وبفم يصفه الأدباء فيقولون إنه فاغر من الدهشة ثم اعتدل في مجلسه، بعد أن فكر في الأمر ووجد بإحساسه الذكي أنه لن يخلو من جانب استثماري مهم! وسألني هل يُمكن أن يكون الأستاذ هيكل غير مُطّلع على هذه الحقيقة؟ أم أنه يقصد شيئاً بهذه الاستعارة؟ ثم تمتم فقال: إن من الممكن أن تمر هذه الحكاية مرور الكرام لو أن أحداً لم ينتبه لها، فكم من قصة من هذا القبيل مرّت.. كان يتحدث بهذه العبارة بعين يقظة، وكأنه يريد أن يعرف مني هل سأثير الموضوع أم لا؟ فقد كان بتهذيبه يعرف أن السؤال المباشر قد يُثير غضبي، ولهذا آثر الدوران.. لكنني كنت أرحم بأعصابه وأكثر تعذيبا لها، حيث قلت له مباشرة: إنني لن أثير هذا الموضوع لسبب بسيط هو أنني لا أريد أن أكون وبخاصة في هذه المرحلة من حياتي من الذين يعتمدون فيما يكتبون على تصيّد الأخطاء.. وكان هذا دأبي فيما مضى قبل ذلك ولم أكن مضطرا ولا مستعداً للتنازل عنه.
كان هذا الصديق المشترك الكريم يعرف أنني صادق فيما قلت، لكنه في الوقت ذاته يعرف أنني قد أُستثار في أي مجلس أو جلسة بالحديث الذي كنت استهجنه علانية عن عبقرية الجورنالجي فلا يكون هناك ما يضمن ألا أبوح بالحقيقة. لكن الحقيقة الناصعة تستدعي الثناء على الأستاذ محمد حسنين هيكل، ذلك أنه، وباختصار شديد، توقف تماما عن استخدام صفة الجورنالجي رغم حالة الوجد الذي عاشها معها سنوات، فإذا وجدت نصا من النصوص الحديثة المنسوبة إليه وقد وضع فيها هذا اللفظ فاعلم أن من أعد النص نقله من القديم من على لسان الأستاذ هيكل ووضعه مرة أخرى على لسان الأستاذ هيكل، وهو لا يعرف أن الأستاذ هيكل كان قد توقف عن استخدام ذلك الاسم الدال على تلك الوظيفة العثمانية.
وعلى عكس موقف الأستاذ محمد حسنين هيكل في هذه القصة تماما كان موقف الأستاذ هيكل من قصة رسام الكاريكاتير المشهور، وإن كان موقف الأطراف الأخرى لم يختلف، وتلك قصة أخرى.