الرئيسية / المكتبة الصحفية / #إبراهيم_أنيس الأستاذ العالم الفنان الذي رسخ أساس علم اللغة

#إبراهيم_أنيس الأستاذ العالم الفنان الذي رسخ أساس علم اللغة

 

أبدأ بالاعتراف الفخور بأن كتابات الدكتور إبراهيم أنيس كانت بمثابة أول نافذة لي على علم اللغة كعلم عابر للدول والجنسيات والقوميات، وبعيد عن أن يكون شيئًا محليًا أو إقليميًا، كنت مثل أي طالب علم أحس بأن اللغتين العربية والإنجليزية تصدران عن منطق واحد كأنه البناء الهندسي، وتستهدفان سبيلًا واحدًا.. هو الإبانة والتحديد. لكنني ظللت أبحث عن القواسم المشتركة وعن العلاقات الخفية بين اللغات والتفكير والحياة الإنسانية، حتى اهتديت في مطلع شبابي إلى كتاب الدكتور إبراهيم أنيس «اللغة بين القومية والعالمية»، وإلى مجموعة كتب الدكتور تمام حسان، وفي مقدمتها كتاب «اللغة العربية مبناها ومعناها»، وأذكر أني اقتنيت هذين الكتابين في يوم واحد، كان من أسعد أيام حياتي المعرفية.

 

أما الدكتور إبراهيم أنيس (1906 ـ 1977) فهو عالم من علماء اللغة الفطاحل.. كان على صلة بالمجتمع على الرغم من ميله إلى التفرغ للعلم والعزلة العلمية، وكان على معرفة بكثير من أعلام عصره، وفي مقدمتهم فؤاد سراج الدين باشا، وكان رأس أسرة مشتغلة بالعلم والسياسية، كان منها أشقاؤه المهندس حسن أنيس سكرتير نقابة المهندسين، والمؤرخ محمد أنيس، وعالم الرياضيات عبد العظيم أنيس، أما شقيقتهم فهي زوج الدكتور محمد كامل محمود رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، ووالدة وزير الاتصالات طارق كامل، ورئيس جامعة القاهرة حسام كامل. أما هو فقد تزوج ابنة خاله وأستاذه الأستاذ زكي المهندس، الذي تولى عمادة دار العلوم قبله، وكان عضوًا (1946) فنائبا لرئيس مجمع اللغة العربية (1964)، على حين كان هو عضوًا (1961)، كما أنه خلف خاله وأستاذه زكي المهندس في الإشراف على مجلة المجمع.

 

ولد الدكتور إبراهيم أنيس بالقاهرة، والتحق في أول حياته بالتعليم المدني، حيث درس بإحدى المدارس الابتدائية، ثم وجه إلى الالتحاق بتجهيزية دار العلوم وحصل منها على شهادة الدراسة الثانوية المؤهلة للالتحاق بدار العلوم العليا، ومن ثم التحق بدار العلوم وتخرج فيها في سنة 1930، في الدفعة التي ضمت الأستاذ محمد سعيد العريان، كما ضمت الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، والأستاذ عبد العزيز برهام. وكان في أثناء دراسته طالبا نشطا متميزا، وقد رأس جمعية التمثيل في الكلية، وكتب تمثيلية «الشيخ المتصابي» وقام بدور البطل في تمثيلها، وذلك تحت إشراف أستاذه الدكتور محمد مهدي علام، وكانت الكليات في ذلك العهد تنظم حفلات كبرى حظيت بالسمعة العالمية بفضل ثرائها الفني وتنظيمها، وكان له ولنشاطه مكان بارز في هذه الحفلات.

 

تفوقه في البعثة

عمل الدكتور إبراهيم أنيس بعد تخرجه في دار العلوم مدرسا في المدارس الثانوية، وفي سنة 1933 فاز في مسابقة عقدتها وزارة المعارف لاختيار أعضاء بعثة دراسية إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه، والتحق بجامعة لندن وحصل على البكالوريوس في سنة 1939، وذلك لأن النظام البريطاني كان، كما هو معروف،  يشترط الحصول على الدرجة الجامعية الأولى من جامعاته قبل استئناف الدراسة العليا، التي يمكن أن تتم بعد ذلك في سرعة بالغة، وهذا هو ما حدث مع الدكتور إبراهيم أنيس نفسه، إذ أنه سرعان ما حصل على الدكتوراه في سنة 1941، أي بعد عامين من حصوله على درجة البكالوريوس البريطانية. وفي أثناء البعثة، واصل إبراهيم أنيس ما عرف عنه من نشاط وميل إلى الزعامة وانتخب رئيسًا للنادي المصري بلندن في سنة 1938.

 

عمل عميدا لكليته مرتين

وبعد عودته من البعثة، عين مدرسًا بكلية دار العلوم، ثم نقل إلى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية وظل بها لمدة سنتين، ثم عاد إلى دار العلوم، وترقى في وظائفها إلى أن أصبح أستاذًا ورئيسًا لقسم اللغويات، وشغل منصب العمادة في سنة 1955 للمرة الأولى، وقد صمم على الاستقالة حين أحس بأن أحد الضباط (وكان قد عين أمينا للجامعة) قد مس كرامته من بعيد، ثم عين عميدًا للمرة الثانية في سنة 1958، وظل عميدا بضع سنوات إلى أن انتدب للتدريس بجامعة الأردن، وبعد عودته عين أستاذًا غير متفرغ بكلية دار العلوم.

 

حصل الدكتور إبراهيم أنيس على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب في أول سنة من سنوات منحها سنة 1958 عن كتابه «دلالة الألفاظ اللغوية». وهكذا استقر اسمه في الوجدان الأكاديمي المصري، واقترن هذا الاسم باسم علم اللغة، الذي لم يكن حتى ذلك الحين منفصلًا عن العلوم اللغوية بما تعنيه من ارتباط ذهني بالنحو والصرف والعروض.. لكن مادتها ومفاهيمها كانت مستقرة ومنتشرة في كتب اللغة العربية ومتونها وشروحها.. وها هي الحياة الأكاديمية تقدمها في صورة أخرى على يد إبراهيم أنيس.

 

في المجمع اللغوي

اختير الدكتور إبراهيم أنيس خبيرا بالمجمع اللغوي سنة 1948، ونال عضوية المجمع في سنة 1961 بين عشرة أعضاء جدد، حين عدل قانون المجمع وزيد عدد أعضائه، وكان ممن زاملوه في التعيين أستاذاه محمد مهدي علام (المتخرج 1922)، وعبد الحميد حسن (المتخرج 1911)، وسلفه في العمادة إبراهيم اللبان (المتخرج 1911)، والأستاذ عبد الفتاح الصعيدي المتخرج قبله في دار العلوم بعشر سنوات (1920).. وكان من هؤلاء من غير الدراعمة الخمسة الأستاذ الشيخ أمين الخولي، والأستاذ إسماعيل مظهر، واضع قاموس النهضة، والوزيران الأستاذان علي بدوي، ومحمد عوض محمد، والأستاذ مراد كامل.. وهكذا كان تعيين الدكتور إبراهيم أنيس مع هؤلاء في الوقت ذاته بمثابة تتويج مبكر له ولعلمه.

 

وكان الدكتور إبراهيم أنيس قد أسهم مساهمة فعالة في أعمال لجنة الأصول، ولجنة اللهجات، عندما كان خبيرًا لهما، ثم أصبح عضوًا بهما. كما أنه أصبح عضوًا في لجنة المعجم الكبير. وقد اختير للإشراف على مجلة مجمع اللغة العربية منذ العدد الثاني والعشرين الصادر في سنة 1967 خلفًا للأستاذ زكي المهندس الذي طلب إعفاءه من الإشراف عليها. ولم يكن من حظ إبراهيم أنيس أن يستقبل من أعضاء المجمع اللاحقين به إلا الأستاذ أحمد الحوفي.

 

اهتماماته بالعلوم الرياضية والصوتية

كان الدكتور إبراهيم أنيس يقول بوحدة المعرفة وكان يقول إن الحواجز التقليدية بين فروع المعرفة المختلفة ليست إلا حواجز وهمية في كثير من الأحيان، وإن العالم الحق لا يستطيع أن يغفل عن الاستفادة من إمكانات الفروع المختلفة؛ ولذلك فإنه كان يهتم بالرياضيات والإحصاء، وكان أكثر أقرانه حرصا على الاستفادة من إمكانات الحواسب الآلية في بحوثه اللغوية منذ وقت مبكر، وكان يكلف طلابه بعمل إحصاءات من القرآن الكريم ومن معجمات اللغة. وهو الذي وجه الدكتور علي حلمي موسى، أستاذ الفيزيقا وعضو مجمع اللغة العربية (فيما بعد)، إلى وضع الدراسة الإحصائية عن جذور معجم الصحاح.. وهي الدراسة التي نال عنها الدكتور علي حلمي موسى جائزة فيصل في الأدب العربي.

 

وفي دراسة الدكتور إبراهيم أنيس للهجات العربية كان حريصا على بحث حال اللغة العربية قبل الإسلام، وواقع اللهجات فيها، ودراسة ما بينها وبين القراءات القرآنية من صلات، وعرض أهم قضاياها في بنيتها ودلالتها وما بينها من اتفاق واختلاف، ثم انتهى إلى القول بأن العناصر المشتركة في اللهجات العربية الحديثة تنتمي إلى لهجات عربية قديمة.. ودرس إبراهيم أنيس دلالة الألفاظ وأنواعها، وبيَّن كيف تكون الدلالة عند الأطفال وعند الكبار، وكيف تتطور مع الزمن، وتطرَّق إلى أثر الدلالة في الترجمة. كذلك عني الدكتور إبراهيم أنيس بدراسة الأصوات اللغوية، ومقاييس تصنيفها ومنهج القدماء فيها، وكذلك موسيقى الكلام، وآليات تكَوُّن الأصوات عند الأطفال والكبار.

 

وكان إبراهيم أنيس أول من دعا إلى إيجاد نطق نموذجي يُنشر في جميع البلاد العربية، وقد وضع لمشروعه هذا خطة مفصلة تشمل: إعداد المدرسين، واستغلال الإذاعة، وتوجيه السينما والمسرح، والاستعانة بالسلطة التشريعية؛ للقضاء على التضارب الناشئ عن اللهجات المحلية، وما يؤدي إليه الإذعان لها من تفتيت الوحدة الوطنية، أما هو فكان يرى ـ وقد أخذت الدولة إلى حد كبير برأيه ـ أن يتفق على لغة فصحى ذات نطق نموذجي، فلا تستعمل سواها في المدارس والإذاعة ودور المسرح والسينما، وكانت صيحته هذه غِيرةً على اللغة العربية.

 

وفاته المفاجئة

توفي الدكتور إبراهيم أنيس فجأة حين صدمته سيارة على كورنيش النيل، وروى شقيقه الدكتور عبد العظيم أنيس أن المارة تعرفوا عيه من مفكرة التليفونات التي كانت في جيبه، وكان فيها اسم تلميذه العالم الدكتور كمال بشر. هذا وقد توفي الدكتور إبراهيم أنيس في 1977، وكانت الطبعة الثانية من كتاب «المجمعيون في خمسين عاما» قد أشارت إلى أنه توفي في 1978، ووفقني الله لإثبات التاريخ الصواب لوفاته عام 1977 في الطبعة الجديدة. وقد عقد مجمع اللغة العربية ندوة عن الدكتور إبراهيم أنيس نشرت وقائعها في كتاب «ندوات المجمع الثقافية». وأقام المجمع عن جهوده مسابقة لغوية، فاز بها كل من الأستاذ السيد أحمد المخزنجي، والأستاذ محمد مزيون فنجري، وبهذا كان الدكتور إبراهيم أنيس من المجمعيين القلائل الذين أجرى المجمع مسابقة حول إنتاجهم وجهودهم.

 

شهادة أساتذته له

كتب الدكتور محمد مهدي علام في مجلة مجمع اللغة العربية عندما عهد إليه في الإشراف على المجلة خلفًا له: «أشعر وأنا أقدم هذا الجزء من مجلة مجمع اللغة العربية، بسعادة مشوبة بحزن عميق. إنه يسعدني أن ألتقي بقراء هذه المجلة العريقة، المتخصصة، التي تتلقفها أيدي الباحثين، والأدباء من عشاق العربية وعلومها، في مصر، وفي سائر البلاد العربية، وفي كل البلاد التي تُعنى بالدراسات العربية والإسلامية شرقًا وغربًا. غير أنه يخيم على هذا السرور ألم من جرح أصابني كما أصاب هذه المجلة، وهو فقد المشرف السابق، المرحوم الأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس.

فقد فقدناه ونحن أحوج ما نكون إليه، وإلى علمه، ورأيه، وإخلاصه. ومهما يبلغ حزن الزملاء أعضاء المجمع، وحزن قراء المجلة الذين عرفوه من خلال بحوثه وإشرافه على إخراج هذه المجلة في السنوات الماضية، فإن حزني على فقده أعظم وأعمق، فقد ربطتني به عدة صلات قوية، لقد عرفته أول ما عرفته منذ 47 سنة، حينما سعدت بالتدريس له في كلية دار العلوم، واستمرت هذه الصلة تنمو مودة وإخلاصًا في إنجلترا التي جمعتنا عقب تخرجه، ثم في مصر مرة أخرى في المجال الجامعي، ثم في مجمع اللغة العربية الذي اشتركنا في لجانه المتعددة، وفي مجلسه الموقر، فكان شبابًا ساطعًا، فقدناه حين خبا ضياؤه».

 

وقال الأستاذ علي النجدي ناصف في تأبينه: «وبعد فإن هذا الحديث عن الدكتور إبراهيم أنيس متشعب ومستفيض، وهيهات أن يتسع لاستيعابه مثل هذا المقام، وقديمًا قالت العرب: كفى من القلادة ما حفَّ بالعنق. فلنترك إذن للبحوث الجامعية المتخصصة، ولمؤرخي الثقافة المعاصرة حقه من الدرس والبحث كاملًا غير منقوص».

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com