أبدأ بذكرى عزيزة على نفسي، فقد كان أول كتاب أتيح لي أن أستعيره استعارة داخلية في دار الكتب بباب الخلق هو كتاب «إحياء النحو»، وقد عكفت عليه ثلاثة أيام في قاعات الدار ألخصه وأجدوله على طريقتي، وقد صادفت بعض أوراقي التي لخصته فيها منذ فترة قصيرة، فسجدت لله شكرًا على ما أنعم به عليّ منذ صباي من اتصال بهذه البيئة العلمية، وبهذا الكتاب وبهذا العالم العظيم الذي ترك في تكوين عقليتي أثرًا لا يُنسى.
كان الأستاذ إبراهيم مصطفى (1888 ـ 1962) هو الأستاذ الذي ارتبط اسمه في أذهان المثقفين بكتابه «إحياء النحو»، وهو الكتاب الذي أثار اهتماما كبيرا في الأوساط الثقافية، كما كان للاقتراحات والتوجهات الجديدة التي تضمنها الكتاب أثر مهم في تمهيد الطريق لإعادة دراسة بعض قواعد النحو وأساليب تدريسها. وتجدر الإشارة إلى أن له سميا آخر، ومن الطريف أن هذا السمي سبقه إلى عمادة دار العلوم، فكان عميدها في أول القرن العشرين، والأطرف من هذا أنه كان أستاذا لعلوم الجغرافيا! ولهذا السبب، فإني في تنسيق موسوعة الأعلام في مكتبة الإسكندرية آثرت أن يسمى الرجلان بتسمية ترتيبهما من حيث المولد، فيكون العميد الأقدم هو إبراهيم مصطفى الأول، ويكون أستاذنا المجمعي هو إبراهيم مصطفى الثاني.
ولد الأستاذ إبراهيم مصطفى في سنة 1888، ولما أتم حفظ القرآن وجوَّده انتظم في التعليم الديني المتاح في عصره حيث التحق بالأزهر الشريف، ثم التحق بدار العلوم العليا وتخرج فيها حاملا درجتها الجامعية التي كانت في ذلك الوقت تسمى بالدبلوم، وكان تخرجه في سن مبكرة جدًّا (1910)، وقد تخرج في هذه الدفعة الأستاذان زكي المهندس نائب رئيس مجمع اللغة العربية، والأستاذ بيومي السباعي أستاذ الأدب في دار العلوم، وفي أثناء دراسته عرف بتفوقه في النحو وعلوم اللغة، حتى إن أستاذه سلطان بك محمد أطلق عليه لقب «سيبويه الصغير» وقد آثرت العدول عن هذا اللقب القديم إلى معناه فجعلته سيبويه الجديد.
وقد عمل الأستاذ إبراهيم مصطفى بعد تخرجه مدرسًا بمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية ثم ناظرًا لها، ومفتشًا، وفي 1927 اختير مدرسًا للغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة الآن)، وكان اختياره بمثابة إضافة قيمة إلى التنوع الفكري الذي ضمه القسم بدءا بطه حسين (الأزهر والسوربون)، وأحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، وأمين الخولي (القضاء الشرعي). وتدرج الأستاذ إبراهيم مصطفى في مناصب كلية الآداب حتى أصبح أستاذًا للنحو، فلما أنشئت كلية الآداب بجامعة الإسكندرية في سنة 1942 انتقل إليها أستاذًا للأدب العربي، ورئيسًا لقسم اللغة العربية، كما عمل وكيلًا لها.
وفي سنة 1947 عاد الأستاذ إبراهيم مصطفى إلى كلية دار العلوم أستاذًا لكرسي النحو والصرف والعروض. فكانت كليته التي تخرج فيها ثالث كلية يتولى الأستاذية فيها بعد كليتي آداب القاهرة وآداب الإسكندرية. وفي العام نفسه انتخب عميدًا للكلية إلى أن أحيل إلى المعاش في سنة 1948، ولكن صدر قرار باستبقائه سنة أخرى، ثم ثلاث سنوات أخرى، وعاد أيضا عميدًا للكلية كما كان، وهكذا أتيح له أن يختم حياته الأكاديمية بأن يتولى عمادة الكلية التي كان قد تخرج فيها ولم يعمل فيها أستاذا إلا في عامه الستين.
وقد انتخب الأستاذ إبراهيم مصطفى لعضوية مجمع اللغة العربية في سنة 1949 في الكرسي السادس الذي خلا بوفاة المرحوم الأستاذ علي الجارم ١٨٨١- ١٩٤٩ فكأن هذا الكرسي السادس اختص بعميدين متعاقبين من عمداء اللغة العربية والنحو في جيليهما. وكان الأستاذ إبراهيم مصطفى من أوائل الأعضاء الذين فازوا بعضوية المجمع عن طريق الانتخاب. حيث لم يسبقه إلى هذا المجد إلا خمسة من المجمعيين هم الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم (1942)، والدكتور علي توفيق شوشة باشا (1942)، والدكتور عبد الحميد بدوي باشا (1945)، والأستاذ علي عبد الرازق (1947) باشا، والأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني (1947)، وقد تلاه في العام ذاته (1949) الأستاذان أحمد حسن الزيات، ومحمود تيمور.
وقد كان الأستاذ إبراهيم مصطفى أول الأعضاء الأربعة الذين تولوا الإشراف على صدور درة أعمال مجمع اللغة العربية وهو المعجم الوسيط، فهو أقدمهم في العضوية وأسبقهم في الأبجدية، أما الثلاثة الآخرون فهم الأساتذة أحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، ومن الطريف أيضًا أن ترتيبهم في نوال العضوية هو ترتيبهم في الأبجدية. وفي مجمع اللغة الأستاذ إبراهيم مصطفى شارك مشاركة نشطة في لجنة الأصول، ولجنة تيسير الكتابة، ولجنة المعجم الوسيط، ولجنة اللهجات، ولجنة الأدب، ولجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم. وفي مجمع اللغة العربية تولى استقبال أربعة من زملائه الأعضاء اللاحقين وهم: الأستاذ عبد الحميد العبادي (1949)، والأستاذ حامد عبد القادر (1954)، والأستاذ الشيخ محمد علي النجار (1956)، والأستاذ محمد خلف الله أحمد (1959).
كان الأستاذ إبراهيم مصطفى عطوفا على تلاميذه، وبخاصة المتفوقين، وتشير مذكرات الدكتورين أحمد هيكل وعلي الحديدي إلى لمحات من حدبه ورعايته، وقد أهدى الدكتور هيكل كتابه الكبير إلى أستاذيه طه حسين وإبراهيم مصطفى مشيرا إلى فضلهما على الدراسات الأندلسية والأدبية. روى زميل دراسته الأستاذ زكي المهندس أنه زامله في الدراسة خمس سنوات كوامل، في فصل واحد، وأنه كان أجود زملائه حفظا لمتون اللغة وفن التجويد وعلم القراءات: «وأشدنا شغفًا بالبحث في كتب النحو والصرف، وأكثر إلمامًا بنصوصها وشواهدها وشروحها وحواشيها، فما من مسألة لغوية عويصة عرض لها الأساتذة إلا كان له فيها جولة تنم عن اطلاع واسع، وذكاء ملحوظ».
وقال عنه المرحوم الدكتور أحمد أمين يوم استقباله: «والحق أن ملكات إبراهيم مصطفى لم تقتصر على النحو والصرف، فهو إلى جانب ذلك أديب ممتاز جيد الأسلوب، واسع الخيال، يضع القصة القصيرة فيجيدها، وتعرض له الفكرة فيولدها». وقد صور صديقه الأستاذ أحمد حسن الزيات، في رثائه له في مارس 1962، شخصيته تصويرًا بديعًا: «لم يكن إبراهيم مصطفى علمًا على شخص، وإنما كان علمًا على ثروة. كان ثروة ضخمة من علوم القرآن، وفنون اللسان، تجمعت بالحفظ والدرس والتحصيل والتمحيص والدأب والصبر والإيمان، في خمس وسبعين سنة، من يوم مولده إلى يوم وفاته.. كان من أثر اعتداده برأيه انعتاقه من عبودية النص، وانطلاقه من إسار التقليد، فهو في الدين مجتهد، وفي اللغة مطور، وفي النحو متحرر».
كان الأستاذ إبراهيم مصطفى أديبا كاتبا، وكان من هواة القصة القصيرة، وكان واسع الثقافة، كما كان من الذين عرفوا بالانفتاح على المجتمع الثقافي. ومن الطريف أنه رغم أستاذيته المشهورة في النحو كان هو الذي ألقى كلمة المجمع في تقديم الكتابين الفائزين في مسابقة الأدب التي عقدها مجمع اللغة العربية، في أحد الأعوام.
– إحياء النحو.
– تحرير النحو العربي (بالاشتراك).
– القواعد المقررة على طلبة المدارس الإعدادية.
– سر صناعة الإعراب (بالاشتراك).
– إعراب القرآن الكريم للزجاج (بالاشتراك).
– الأنساب للبلاذري.
– في أصول النحو.
– رأي في تحديد العصر الجاهلي.
– المؤنث المجازي.
– مذاهب الإعراب.
– فن منكور من الأدب الجاهلي.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا