في قول الحق جلّ جلاله في سورة هود: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) إشارات إلهية عظيمة عُنيَ بها المفسرون، كما أفاضوا في شرح الآية التي يحفل تركيب الجملة فيها بكثير من صياغات القرآن البلاغية التي يعجز البيان العربي أن يصل إليها على هذا النحو، وأحب في هذه المدونة أن أتطرّق إلى المعنى الذي تشير إليه كلمة “بقية” في الآية، وقد ذهب المفسرون بلا استثناء إلى شرح المعنى من زاوية أن البقاء يكون للجزء الأنفع أو الاصلح من الأشياء، وبلغة الفيزيقا والكمياء فإن الشيء الذي يتحدث عنه المفسرون بألفاظهم الدقيقة هو الخلاصة أي خلاصة المادة الحية بعد تخليصها مما هو أقل أهمية، على نحو ما يحدث في تركيز المواد بإزالة الهواء والماء المختلط بها واستبقاء المكون الجوهري الذي يُميّز المادة، ومن ناحية علوم البيولوجيا فإن التفسير يميل إلى القول بالبقاء للأصلح، وهو المعنى الذي التفت إليه الشيخ الشعراوي وضمنه تفسيره من باب الاستطراد دون أن يورط نفسه في النص الواسع الذي ورد فيه هذا المبدأ ضمن سياق نظرية النشوء والارتقاء، والمبدأ صحيح في وصف الغالب وليس شرطا فيه أن يرتبط بتلك النظرية وحدها لكنه يفسر كثيراً من الظواهر في الكائنات الحية. ينطلق العلماء المفسرون غفر الله لهم ورضي عنهم في تفسيرهم من المعنى القرآني الجميل الذي عرضته الآية القائلة بأن الزبد يذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وكنت على طريقة الطلاب المتفوقين في شروحهم التي يتباهون بها كثيراً ما أتحدث إلى أساتذتي المستمعين بالفرق بين الزبد وهو الذي يذهب جفاء، والزبد الذي هو الخلاصة الباقية من كل شيء، كذلك يتأثر المفسرون في تفسيرهم لهذه الآية الكريمة بقول الحق جلّ جلاله في آية ذات تركيب مشابه يعتمد على وجود لولا: “فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس”، وهم محقون في البناء على تشابه التركيب مدخلاً لمحاولة التفسير. على أنني مع احترامي لهذا كلّه أسجل ما فتح الله به عليَّ في معنى هذه الآية وهو أن البقية في هذه الآية ليست هي الشيء المُتبقى وإنما هي قبس من البقاء نفسه، لأن البقاء المطلق لله جلّ جلاله، أما بعض البقاء فهو الخلود مثلاً كما أنه ما نقول هو عنه في مجاملاتنا “طول البقاء” أي بقاء أكثر من بقاء المناظرين، والمعنى المقصود بهذا التفسير أنه هؤلاء الذين يستثنيهم المولى جلّ علاه يستحقون ما كافئهم به الله من البقاء بمعنى النجاة من الهلاك، في بعض الحالات، وبمعنى خلود الذكر في بعض الحالات الأخرى فهذه المكافأة من الله جلّ وعلا تجعل هؤلاء “أولو بقية” أي يبقى لهم ذكرهم ووجودهم المعنوي والمادي فكأنهم مُنحوا هذا الذي تملّكوه وأصبحوا “أولو بقية” جزاء ً من الله جلّ جلاله على سلوكهم. نقرأ الآية في ضوء هذا المعنى فنجد الحق جلّ جلاله يشير إلى أنه على الإنسانية أن تتحسر إن افتقدت في أجيالها السابقة من كانوا أهلاً للخلود لو أنهم مارسوا نهيهم عن الفساد في الأرض إلا في حالات قليلة ممن أنجاهم الله، وهكذا يُصبح هذا المعنى البسيط الواضح الجهير هو المفهوم والمقصود بهذه الآية الكريمة التي تلخص تاريخ الإنسانية مع النهي عن الفساد المادي (الفساد في الأرض) الذي هو حالة مستشرية لم يُنج الله سبحانه وتعالى منها إلا القليلين ممن رزقهم نوعاً من البقاء فأصبحوا “أولي بقية” أو مستحقين للخلود بألفاظ اللغة المعاصرة، وكأن الآية تقول إن الإنسانية افتقدت في تاريخها الماضي من ينهون عن الفساد باستثناءات قليلة تتمثل في أولئك الذين نجاهم الله وأبقى ذكرهم وجعل لهم من البقاء حظاً هو “البقية”، على هذا النحو البسيط المعبر نستطيع أن نفهم الآية ونفهم التعبير الجميل الذي لا نستعمله في مجازاتنا، وهو “أولو بقية”، ومفرده “ذو بقية” وهو بالطيع تعبير أرقى بكثير من تعبيرنا القلق الذي نقول فيه “خالد الذكر”.. فإذا أردت أن نذكر طائفة المصلحين الذين نُهوا عن الفساد فبوسعك أن تعتمد على التعبير القرآني وتقول في وصفهم إنهم “أولو بقية”. ينتصر لهذه الرؤية في تفسير قول الحق جلّ جلاله أن اللفظ القرآني يتضمن “أولو” ولو أن التعبير الآخر الذي سبق إليه المفسرون كان هو مقصد النص القرآني ما كانت هناك حاجة إلى استخدام “أولو” على النحو الموحي بامتلاكهم للبقية التي وهبهم الله، وإنما كان النص القرآني قد التفت إلى كونهم أولي صلاح أو أولي دين أو أولي تقوى فذلك أدعى في التعبير عن وصفهم بأنهم أصحاب دين وفضل (كما في تفسير الجلالين) أو من أهل الخير (كما في تفسير ابن كثير) أو ذوو بقية من الفهم والعقل (كما في تفسير الطبري) أو أصحاب طاعة زدين وعقل وبصر (كما في تفسير القرطبي) أو أقواها وأثبتها على الزمان (كما في تفسير الشعراوي) أما إذا أردنا اختصرنا تفسيرنا الذي هدانا الله إليه في كلمتين كما فعل أساتذتنا فالمقصود :بقاء وخلود. ويدعم قولنا هذا ما نفهمه من قول الحق جلّ جلاله في سورة هود نفسها في ختام الآية التي تضمنت الحديث عن إيفاء الكيل والميزان حقها بالقسط: بقية الله خير لكم، فالمعنى الذي ذكرناه واضح بجلاء شديد إذ أن البقية هنا لا يمكن أن تكون بقية مادية من الأشياء نفسها التي تكيل وتوزن وإنما هي بقية أخرى غير مادية ولهذا نسبها الحق جلّ جلاله إلى نفسه فقال: بقية الله خير لكم. ويدعم قولنا هذا الذي فتح الله به علينا أن قوله جل جلاله ” والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا “جاءت بعد الحديث عن زينة الحياة الدنيا من المال والبنين كذلك فقد وصفت الآخرة في عدد من الآيات بأنها خير وأبقى، أما الآيتان الحاسمتان في تأييد المعنى الذي فتح الله به عليَّ فهما الآيتان ١64 و165 سورة الأعراف: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) ويرتبط هذا المعنى الذي أتحدث عنه ببنية كلمة “بقية” نفسها وحتى لا أشغل القارئ بالتفصيلات الصرفية فيكفي أن أقول إنها على وزن “صفية”، وهو الاسم المعروف لإحدى أمهات المؤمنين، وعلى نحو ما تدل صفية على المعنى المُشتق من الصفاء والاصطفاء فإن “بقية” تدل على المعنى المشتق من البقاء والاستبقاء الذي هو بيد الله سبحانه وتعالى. وقل مثل هذا في كلمات من هذا الوزن مثل علية أي ذات علو، حيية ذات حياء، جلية ذات جلاء، تقية ذات تقوى، خفية ذات خفاء، قوية ذات قوة، أبية ذات إيباء، وفية ذات وفاء ومنها كلمة الدنية من التدني، والمقصود من كلّ هذه الأمثلة أن نقول إن بقية في الآية القرآنية تعني ذات بقاء أي البقية الباقية وليس كما أرد أساتذتنا تفسيرها بأنها البقية المتبقية. “أولو بقية” إذن هي أولو استبقاء من الله لهم وليس بقاءً بالذات أو بقاءً ذاتيا، هذا والله أعلم.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا