كان الشيخ عبد الوهاب النجار مؤمنا بثورة 1919، وبضرورتها، وبجدواها، ويكفي لتصوير هذا الإيمان ما نراه في مذكرات 7 أبريل 1919 من حديثه عن طبيعة سعادته الشخصية المفرطة عند سماع نبأ الإفراج عن سعد زغلول، وبعد صفحتين من هذا الحديث يؤكد الشيخ عبد الوهاب النجار على هذا المعني الدال على توحده مع ثورة 1919 وزعيمها وشبابها بعبارات حاسمة، ويصل الشيخ عبد الوهاب النجار في تقديره العميق للأثر الإيجابي الذي أحدثته ثورة 1919 إلى حد الإشارة إلى مدي اختلاف الصورة في الحياة العامة بفضل الثورة، وهو يتناول كثيرا من الحقائق في هذا المعني بأسلوب مفعم بحسن التقدير ونزاهة الغرض النبيل.
ومن الملاحظات الذكية في كتابة التاريخ ما يرويه الشيخ عبد الوهاب النجار في مذكرات الخميس 17 أبريل عن إنشاء ما سمي بالبوليس الوطني وهو البوليس الذي تكون من الطلاب تحت رياسة واحد من كبار علماء الأزهر هو الشيخ مصطفي القاياتي. ويورد عبد الوهاب النجار في مذكرات اليوم التالي ليوم إنشاء ذلك البوليس الطلابي نص المنشور الإنجليزي الخاص بتجريم إنشاء البوليس الوطني وفرض الحظر على نشاطه، ومن الجدير بالملاحظة أن هذا المنشور قد صدر في ذات اليوم الذي أعلن فيه الطلاب الثوار عن إنشائهم البوليس الوطني، وهو ما يدل على أن الانجليز كانوا يقدرون خطورة الخطوة التي أقدم عليها الثوار ولهذا سارعوا باتخاذ الإجراءات الكفيلة بملاشاة أثرها بسرعة.
ومما تنفرد به هذه المذكرات حرصها الدقيق علي بيان موقف كبار علماء الأزهر من أحداث ثورة 1919، ونحن نرى هذه المذكرات تنصف هؤلاء العلماء وتنصف أدوارهم وتشرح دوافعهم في مواقفهم المتطورة من الثورة. وبقدر ما تنصف المذكرات هذه المواقف في مبادراتها حجمها وإخلاصها فإنها تحرص على أن تصنفها أيضا من حيث حماسها للثورة والعمل الثوري. وعلى سبيل المثال فإن الشيخ عبد الوهاب النجار في يوميات 15 مارس 1919 يذكر أن الشيخ محمد شاكر ذهب إلى سكرتير دار الوكالة البريطانية، وعبر له عن الغضب الشديد الذي اجتاح المسلمين من جراء ضرب مسجد الحسين رضي الله عنه وأرضاه وأنه استطاع في هذه المقابلة أن يقدم اداء قادرا على مواجهة المحتمل بأخطائه، وعلى بث التحذير الكافي من العودة إلى مثل هذه الممارسات.
ويتحدث الشيخ عبد الوهاب النجار في فقرة تالية عما بلغه من رواية تضمنت آراء زملائه في أداء أساتذتهم، وهي رواية نفهم منها أن الشيخ محمد شاكر كان أقرب العلماء إلى ثورة الشباب والأزهريين، إذا ما قورن بالشيخ الأكبر (محمد أبو الفضل الجيزاوي) ووكيل الأزهر. وفي يوميات 21 مارس 1919 يتحدث الشيخ عبد الوهاب النجار عن حوار دار بينه وبين الشيخ محمد شاكر حول الثورة وأساليبها وطبيعتها، ودور الطلبة فيها، ويستطرد الشيخ النجار من خلال ما يرويه إلى رواية رأيه هو نفسه في هذه الموضوعات، والحديث عن رأي الشيخ محمد شاكر عن مواقف أقرانه من كبار العلماء.
وفي يوميات الأحد 23 مارس يقارن الشيخ عبد الوهاب النجار بين موقف الشيخ شاكر ومكانته في الثورة، وبين مكانة الشيخ مصطفي القاياتي من الثورة، وهو يعقد مقارنة ذكية تعطي الرحلين حقهما. وفي مذكرات 28 مارس 1919 يورد الشيخ عبد الوهاب النجار قصة لقاء آخر جمعه بالشيخ محمد شاكر، مسجلا ما رواه ذلك الشيخ العظيم عن لقائه بعدلي يكن باشا، وامتناعه عن توقيع العريضة التي كان عدلي باشا وزملاؤه قد أعدوها من أجل الدعوة إلى تهدئة الأوضاع، ونجاح الشيخ شاكر في شرح وجهة نظره لعدلي باشا وفريق المعتدلين، وهو ما يدلنا على أن الروح الثورية القوية التي كان سعد زغلول باشا قد استنفرها في الشعب قد وجدت صداها في امتناع الشيخ محمد شاكر عن التوقيع ، ودفاعه عن هذا الموقف المناهض للتفاهم مع البريطانيين قبل الوصول إلى وعد حاسم بتحقيق الأماني الوطنية.
وتتأرجح روايات الشيخ عبد الوهاب النجار في تصوير موقف المفتي الأشهر الشيخ محمد نجيب المطيعي من الثورة بين التقدير، والشك في البواعث، وعلى سبيل المثال فإنه في يومياته التي سجلها عن 15 مارس 1919 يبدو متشككا في طبيعة مواقف الشيخ محمد نجيب من الإنجليز، أما في يوميات الخميس 20 مارس فيبدو حريصا على إيراد ملخص الرأيين المختلفين في تقييم موقف الشيخ المفتي من الثورة.
ولا تخلو مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار من الحديث عن نشاطه هو نفسه في الحركة الوطنية، وفي تنظيم إضراب الموظفين، وفي مقابلة المسئولين، وسنأخذ مثلا على هذا النشاط ما يرويه عن آرائه التي أبداها في المقابلات التي أجراها مع بعض المسؤولين، ومن هذا ما يرويه في مذكرات 22 مايو عن لقائه برئيس الوزراء محمد سعيد باشا وحواره معه بعد أن تولي رئاسة أولي الوزارات الإدارية التي شكلت في أثناء الثورة. ومن الجدير بالذكر أن الشيخ النجار كان يري في محمد سعيد باشا رجلا محنكا، داهية، صاحب فكر، وأنه إذا أخلص لهذا البلد فإن بوسعه أن يخدمه خدمة جليلة (هكذا كتب في مذكراته في اليوم السابق على لقائه به).
ونقرأ في هذه المذكرات ما يرويه الشيخ عبد الوهاب النجار بدقة ووضوح عن لقائه بهذا الرجل، وما حفل به حديثه في هذا اللقاء من فهمه للتاريخ والسياسة: ويقدم الشيخ عبد الوهاب النجار وصفا جميلا وشائعا يروي به انطباعاته عما رآه في مظاهرات السيدات المصريات في 16 مارس 1919، وهو يقدم وصفا دقيقا (لثورة السيدات في ثورة 1919) لم يصل إلى دقته وجماله غيره ممن كتبوا تاريخ الثورة، أو ذكرياتهم عنها.
ويتحدث الشيخ عبد الوهاب النجار في مذكراته عن نجوم الخطابة في الأزهر الشريف علي نحو دقيق ومرتب كأنما هو يلقي درسا في التاريخ الموثق، وليس هذا بغريب على أستاذ التاريخ الذي تعود على تلخيص وقائعه لتلاميذه على هذا النحو الذكي والدقيق. ويؤرخ الشيخ عبد الوهاب النجار لظهور الصحف الجديدة في أثناء الثورة وتقييمه لهذه الصحف ولمضمونها ولخطها السياسي، وهو يقدم هذا بشعور المؤرخ المخلص للعلم وللحقيقة، لكن كتاباته الدقيقة هذه تنبئ أيضاً في مباشرة ووضوح عن فهمه العميق للسياسة والصحافة، وذلك على نحو ما كتب في مذكراته عن يوم 8 يونيو.
تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا