فيما بين قادة يوليو ١٩٥٢ فإن كمال الدين حسين وحده هو الذي ينطبق عليه هذا الوصف، وحين كان معسكر المعارضة في عهد الرئيس عبد الناصر من رابع المستحيلات فإنه مارسها بطريقة مبتكرة هي توجيه معارضته للمشير عبد الحكيم عامر بدلا من الرئيس جمال عبد الناصر، وتوجيهها بالقلم الرصاص لا بالرصاص على نحو ما أوحى به عنوان مدونتنا السابقة. وقد أوذي كمال الدين حسين بسبب هذه المعارضة الهينة اللينة بأكثر مما كان يتوقع.
وفي منتصف عهد الرئيس أنور السادات راود كمال الدين حسين الحنين إلي السياسة ، ولو من باب اللجوء إلى القاعدة الشعبية في دائرة من الدوائر الانتخابية ، و هكذا فإنه اتخذ قرارا شجاعا لم يتخذه أحد من أنداده ، و رشح نفسه لمجلس الشعب عن دائرة بنها في انتخابات 1976 وفاز بعضوية مجلس الشعب، و أصبح بفضل اسمه وتاريخه ومناصبه من النواب البارزين تحت القبة ، لكنه بحكم جمود العقلية العسكرية كان غير قادر على بدء موجات مؤثرة من الفعل البرلماني القادر على بناء توجه ما كما انه بالطبع لم يكن مؤهلا لأداء دور التأسيس لتحالف برلماني يقوده أو يوجهه ، فقد كان فطاحل عهد ما قبل الثورة لا يزالون على قيد الحياة والنشاط ، ومع هذا الأفق الذي بدا غير محدد المعالم فإن كمال الدين حسين بما عرف به من حماس فعل أقصى ما تصور أنه كان متاحا أمامه ، فسارع و بأقصى ما هو ممكن من السرعة في عالم السياسة إلي الدخول في خلاف علني و جسور مع الرئيس السادات من خلال رسالة مفتوحة ، ومع البريق الخاطف لهذه الفكرة فمن المفهوم والمعروف في كل الممارسات السياسية ومع كل الأنظمة أنه كان يمكن له أن يقول بأكثر مما قال به في هذه الرسالة وفي ظلالها بفضل ما كان يتمتع به من صفته البرلمانية ، وكان من الممكن له أن يلقيها في البرلمان ( وبطريقة مفاجئة ) قبل نشرها ( وليس بعده ) محفوظة مطولة ملحنة منغمة ، وهو واقف تحت القبة ، محتميا بحصانته البرلمانية ، لكنه فيما يبدو وقع تحت تأثير من كانوا يترددون عليه و يسولون له مواقف اندفاعية لم يكن من الصعب عليهم تصور قبوله بها ، بل إننا بعد ما شاب شعرنا مع عصر الثورة لا نستبعد أن يكون النظام نفسه قد دس عليه من دفعوه إلى هذا الموقف المعجل بانتهاء فرصته في المعارضة المحسوب حسابها أو المعتبرة ، وهكذا فإن رسالته المفتوحة للرئيس سرعان ما مهدت الفرصة لإسقاط العضوية عنه في 1977، فبقي في الحياة العامة كوجه معارض ، وقد رشح مرة ثانية في انتخابات 1979 لكن النتيجة جاءت بفوز غيره.
لم يكن من المتوقع سياسيا أن تصل معارضة كمال الدين حسين للرئيس السادات إلى ذروتها بسرعة من خلال مثل هذه الرسالة المفتوحة لرئيس الدولة ، لكن هذا كان من المتوقع إنسانيا ونفسيا ، وعلى عكس ما تقول به السياسة ، فقد كان كمال الدين حسين نفسه يحس بالجرح والحرج معا من أن يكون مرؤوسا للرئيس السادات ، حتى إنه لم يحفظ لنفسه أي خط من خطوط الرجعة حين نشر رسالته ، وهكذا فإن رسالته رغم محتواها الجيد لم تترك أي أثر في الحياة السياسية ، وفسرت حتى في أوساط المعارضين في إطار شخصي بحت على الرغم مما أعرفه يقينا من صدق كمال الدين حسين فيها وإخلاصه، والسبب بسيط جداً، ذلك أن صورة كمال الدين حسين في عهد الرئيس جمال عبد الناصر كواحد من أهم رموز النظام، والذي لم تكن قيمته تقل عن أن يكون واحدا من أهم خمسة من رموز النظام بقيت هي الطابع المسيطر و المأثور عن شخصيته ، على حين تضاءل إلى أقصى حد ما عُرف في 1964 على نطاق ضيق من أن كمال الدين حسين ترك الحكم مغاضبا وثائراً، والسبب في هذا هو قوة تعبئة النظام الناصري لمستويات القواعد الشعبية ، وهو ما تكفّل بتخفيف قيمة معارضته إلى حدود قريبة من التلاشي ، بل إن الإعلام الناصري كان قد نجح في تصويره في صورة سلبية عاجزة ضعيفة القدرة على تحمل التحديات الثورية وهي ذاتها الصورة التي كانت الأجهزة الناصرية القوية والمؤثرة تصور بها من استغني عنهم الزعيم الملهم ، و تبدع في هذا التصوير ، وهي بالطبع صورة سلبية المعالم والفعل والولاء ، وهي صورة تبدأ بالعصيان للزعيم وتنتهي بالفشل، وكان هذا بالطبع هو حال كلّ من عارض الرئيس جمال عبد الناصر مهما كان من أقرب المقربين أو أخلص الخلصاء. وهكذا فإن صورة كمال الدين حسين لم تكن تكتسب أي زهو أو فخار ولا أي مجد من حيث هو معارض في ١٩٦٤ ، وإن كان هو قد ظل ، عن حق ، يعتقد في غير ذلك.
وقد استمر الحال على هذا المنوال حين كان كمال الدين حسين واحداً من الذين تبنوا إرسال وثيقة المعارضة التي وقّعها عدد محدود من كبار المسئولين السابقين في 1972 ورفعوها للرئيس أنور السادات.
وهكذا فقد جاء وجود كمال الدين حسين في برلمان 1976 مفاجئا ، وبدا هذا الوجود ، بلا مبالغة ، للجماهير البعيدة عن مُجريات الأمور وكأنه بمثابة تفضّل من النظام أو الدولة على واحد ممّن تركوا المسيرة، أما في لغة العدميين و ما أكثرهم فإنه كان يبدو جزءا من اللعبة ، و أما بلغة المسكونين بهاجس التآمر ، فقد كان يبدو وكأنه كمين منصوب للبحث عمن سيتردد عليه من المواطنين أو الساسة .
ترتبت على الموقف القديم المستقر المعالم الذي رسمته الأجهزة الناصرية العميقة لصورة كمال الدين حسين الذي خرج عن الخط الثوري صعوبة حقيقية ومبررة في مهمة كمال الدين حسين حين أراد البدء في معارضة جادة أو حادة للرئيس أنور السادات، وازداد الأمر صعوبة بسبب انتماء الرجلين (السادات وكمال الدين حسين ) إلى مفاهيم متقاربة جدا ، وهو ما ظهرأثره بالفعل ، ذلك أن سياسة الرئيس أنور السادات كانت في واقع الأمر متسقة تماماً أو إلى حد كبير مع توجهات كمال الدين حسين ، وربما أنها كانت أكثر “يمينية” مما كان كمال الدين حسين يطالب به ، بل ربما أن كمال الدين حسين لم يكن بحكم تكوينه قادرا على أن ينفذ أمنياته السياسته المعروفة في إلغاء اعتداءات النظام الناصري على المال الخاص بالسرعة التي نفذها بها الرئيس أنور السادات حين بدأ بتصفية الحراسات بمجرد توليه الرئاسة ، و لم تكن خطوات كمال الدين حسين في هذا السبيل بقادرة على أن تحفر مكانة حقيقية في الشارع السياسي او الوجدان الشعبي لا لنقص في الايمان عند صاحبها أو لنقص في اليقين وإنما جاءها توقع الضعف النسبي مما كان متوقعا من نشاط رجل عرف قبل سنوات بموهبته الإدارية المؤمنة بضرورة التنفيذ التدريجي المتقن ، وقد كان كمال الدين حسين في وجدان الجماهيرإداريا ملتزماً نمطيا ، ولم يكن مثل الرئيس أنور السادات متمكنا من السياسة والخطابة والتحريض ، وقادرا على أن يبدأ الدوامات من دون تحسب ، على يترك للزمن إصلاح كل ما هو ممكن و وارد بل وحتمي من التسرع في إنفاذ أي سياسة جديدة من هذا القبيل .
وهكذا فإن كمال الدين حسين حين أراد أن يصوغ فكرته في معارضة الرئيس أنور السادات لجأ مضطرا إلى أن يتخطى أداء الرئيس أنور السادات في مجال المزايدة اللفظية فحسب في الحديث عن حقوق الإنسان وذلك من قبيل استعارة القول بلعنة الظالم .
ومن العجيب أن كل الفصائل التي كانت قد بدأت معارضة السادات لم تكن تؤمن بحقوق الانسان بدرجة تفوق إيمان الرئيس أنور السادات( وهو بالطبع إيمان مشروط و مقيد ) بحقوق الإنسان، فلما أدركت هذه الفصائل هذه الحقيقة بعد الخروج الباهت لكمال الدين حسين من الحياة السياسية ظلّت المعارضة للرئيس أنور السادات في حيرة من أمرها تبحث عن مادة جوهرية لمعارضة الرئيس السادات على مستوى الشارع إلى أن أنقدها التاريخ بالمبادرة وكامب ديفيد ومعاهدة السلام.
بعث كمال الدين حسين برسالة حادة إلي الرئيس أنور السادات يوم 5 فبراير 1977 ووقعها باعتباره نائبا في البرلمان عن دائرة بنها. كان المبرر المعلن لهذه الرسالة أن الرئيس السادات كان فيما قبل هذه الرسالة مباشرة قد دعا إلى الاستفتاء حول قانون حماية الأمن والمواطنين بعد مظاهرات يناير 1977حيث اشترط القانون موافقة عشرين نائبا على تكوين أي حزب جديد، ونصت المادة 6 منه على عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من دبر أو شارك في تجمهر يؤدي إلي إثارة الجماهير بدعوتهم إلي تعطيل تنفيذ القوانين واللوائح، بهدف التأثير على ممارسة السلطات الدستورية لأعمالها، أو منع الهيئات الحكومية أو مؤسسات القطاع العام أو الخاص أو معاهد العلم من ممارسة عملها باستعمال القوة أو التهديد باستعمالها، وتطبق نفس العقوبة على مدبري التجمهر، ولو لم يكونوا مشتركين فيه وعلى المحرضين والمشجعين: يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دبر أو شارك في تجمهر أو اعتصام من شأنه أن يعرض السلم العام للخطر.
وقد بدأ كمال الدين حسين رسالته بقوله السلام على من اتبع الهدي، وكأنه يخاطب كافرا أو ضالا لا يستحق السلام إلا إن اتبع الهدى..، وقال فيها:
” ٤ فبراير يوم مشؤوم في تاريخ مصر، وقراركم في هذا التاريخ مستغلاً المادة 74 من الدستور الذي فصلته لمصلحة الفرد الحاكم قرار خاطئ وباطل دستوريا، أحملكم وزره كما حملت سابقك وزر القانون 119، الخطر الذي تنص عليه هذه المادة غير موجود الآن، وكان لقصر نظر حكومتك والسياسة الخرقاء التي درجت عليها حكومات سبقت ، السبب في الذي حدث يومي 18 و19 يناير في مظاهرات الجوع، وبدلاً من أن تعاقبوا حكومتكم على تقصيرها ، وتنتظر كلمة القضاء في مدبري الحوادث التخريبية، وهم جميعاً تحت أيديكم الآن عاقبتم الشعب ومجلس الشعب، فقراركم هذا ازدراء لعقلية المصريين ، وحريتهم وامتهان لمجلس الشعب وضرب لكل القيم الدستورية الحقة.
” أنت تعلم كراهيتي للشيوعية ووقوفي ضدها، ولكنك تعلم أيضا مدي حبي لمصر، إن تقنين الظلم أشد أنواع الظلم، وأن هذا الذي يجري تقنين غير شرعي للظلم والاستفتاء الذين تنصبون تمثيليته ستزوره حكومتكم المبجلة، ملعون من الله ومن الناس كل من يتحدى إرادة أمة، أو يمتهن كرامة شعب”
“حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون “.
أحال الرئيس السادات رسالة كمال الدين حسين إلي مجلس الشعب للتصرف، وفي يوم 14 فبراير 1977 ناقش المجلس الرسالة في غياب العضو كمال الدين حسين، وتقدم 252 نائباً من الحزب الحاكم وهو حزب مصر العربي الاشتراكي برئاسة ممدوح سالم بطلب لإسقاط العضوية عن النائب، وقرر المجلس بإجماع نواب الحزب الحاكم أيضا ومعارضة 18 نائبا (من المستقلين واليساريين) إسقاط عضوية كمال الدين حسين من البرلمان باعتبار أن البرقية تضمنت عبارات بها مساس بالمؤسسات الدستورية.
هكذا كان أول وآخر نشاطات كمال الدين حسين المعلنة في مجال الحياة الحزبية أو ديموقراطية الحقبة الساداتية هو معارضته للرئيس أنور السادات من خلال عضويته في برلمان 1976، وقد جاءت هذه العضوية حين أتاح الرئيس أنور السادات فرصة التعبير عن الرأي الآخر بأطيافه المختلفة من خلال الانتخابات البرلمانية وما تلاها من مجلس الشعب في دورته التي بدأت 1976 وانتهت حين أحال الرئيس السادات نفسه رسالة هذا العضو للبرلمان لينهي وجوده البرلماني.
وعاش كمال الدين حسين ما تبقى من عهد السادات حرا مطمئنا ولم تتخذ ضده أية اجراءات من قبيل تحديد الإقامة أو المنع من السفر أو الاستدعاء إلى تحقيق أو الاعتقال أو مصادره الأملاك، على نحو ما كان يحدث في عهد الرئيس عبد الناصر، وأصبح منذ ذلك الحين أيقونة للمعارضة والشجاعة والبعد عن العصبية لحكم العسكر.
في عهد الرئيس حسني مبارك آثر كمال الدين حسين الابتعاد عن الممارسة المباشرة للحياة السياسية، وإن لم يخل الأمر من أحاديث صحفية انتقد فيها كلا من الرئيس عبد الناصر والرئيس السادات، وإن زاد انتقاده للسادات بحكم كثرة الذين كانوا يلحون في أحاديث تتناول فترة الرئيس السادات بالنقد المرير.
ويرى بعض المراقبين أن توقيعه على الالتماس المقدم للرئيس مبارك للعفو عن قتله السادات قد أثار المشاعر ضده، وجعل الدولة متحفظة في علاقتها به.
ويذكر له في مطلع عهد الرئيس مبارك أنه قام بجولة في الدول العربية مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، من أجل إنهاء الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية المتحاربة في لبنان.
من المهم الآن أن نعود لنتتبع نشاط كمال الدين حسين بعد استقالته ١٩٦٤ و بعد رسائله المتبادلة في ١٩٦٥ مع صديقه المشير عبد الحكيم عامر وهي المناقشات التي تناولناها بالتفصيل في حديثنا السابق .
كان دور كمال الدين حسين في المراحل الثلاث لحرب١٩٦٧ مشرفا له للغاية كرجل وطني يعاني من تحديد الإقامة والإقصاء والتربص.
وذلك أنه في المرحلة الأولى لما بدت نذر حرب 1967 سارع هو وزميلاه البغدادي وحسن إبراهيم إلي الوقوف بجوار الرئيس عبد الناصر ولقائه، لكن عجلة الحرب كانت تدور بأسرع مما يمكن للرئيس عبد الناصر أن يستمع إلى آرائهم.
فلما كانت المرحلة الثالثة ووقعت الحرب حاول كمال الدين حسين أن يشارك بإنجاز أي شيء ينقذ الموقف، لكن الانهزام الناصري الساحق لم يكن ليسمح له ولا لغيره بأي دور فاعل.
ولما كانت المرحلة الثانية ووقعت الهزيمة وتأكدت هذه الهزيمة فإنه حاول أن ينصح الرئيس عبد الناصر بتبني سياسات ذكية في التعامل مع الموقف لكن الموقف كان قد تجاوز الذكاء.
ولما توفي الرئيس عبد الناصر شارك كمال الدين حسين في تشييع جنازته، وطلب مع زملائه مقابلة الرئيس السادات لكن الرئيس السادات اكتفي كما هو معروف بمقابلة عبد اللطيف البغدادي وحده.
شارك كمال الدين حسين مع مجموعة من رجال الحكم السابقين في كتابة الوثيقة (التي سماها الرئيس السادات بالعريضة) الشهيرة التي قدمت للرئيس السادات عام 1972. وقد جاءت هذه المشاركة في ظل الانفراجة الكبيرة في حريات التعبير والحركة التي أتاحها الرئيس السادات بعدما قام بما سماه حركته التصحيحية (15 مايو 1971) وكما هو معروف فقد كان قد أصبح من الممكن ( وهذه هو التعبير الدقيق وهو كما هو ظاهر متأثر بصياغة الزمن في اللغة الإنجليزية التي تعبر بأفعال من قبيل : كان قد أصبح ) لبعض قادة الرأي والعمل التنفيذي أن يجتمعوا ويتشاوروا وينتهوا إلى شيء مكتوب، وهذا هو جوهر ما حدث في وثيقة (عريضة) 1972 الشهيرة التي سبقت وثيقة (عريضة) أخرى وقعها عدد من الكتاب في مطلع 1973.
ويمكن القول على سبيل الإجمال بأن النقطة الجوهرية في هذه الوثيقة (التي سماها الرئيس السادات بالعريضة ) كانت تطالب في صراحة بعمل شيء من أجل إنقاذ مصر من وهدة الهزيمة ، وما صحبها من الهزيمة النفسية العميقة ، والمضاعفات التي ترتبت على زيادة الارتباط بالاتحاد السوفيتي دون جدوى..
اشترك كمال الدين حسين في توقيع هذه الوثيقة ، و كان اسمه الثاني بين كبار المسئولين السابقين العشرة الذين وقعوها أما الذي كتبها فواحد من اثنين، وأغلب الروايات ترجح أنه هو المهندس والسياسي ورجل الحياة العامة أحمد عبده الشرباصي، عضو مجمع اللغة العربية، أما بعض الروايات التي تقترب من الندرة فترجح أن الذي كتبها هو المستشار محمد عصام الدين حسونة، وزير العدل الأسبق، ووقعها مع هذين الرجلين ثمانية آخرون كان منهم اثنان من أعضاء مجلس قيادة الثورة، ونائب رئيس وزراء أصبح رئيسًا للوزراء في عهد السادات.
ومع أن معظم الأدبيات السياسية المتاحة عن عصر السادات، وفي مقدمتها مقالات الأستاذ أنيس منصور، تصرح بأن المهندس أحمد الشرباصي كان هو الذي تولى كتابة هذه الوثيقة أو العريضة الشهيرة في سنة 1972، فإننا نلاحظ أن الشرباصي نفسه لم يطور موقفه في كتابة تلك الوثيقة أو العريضة إلى عداء لعهد الرئيس السادات، وإنما عاش بقية العهد متعاونا ومشاركا. أما المستشار محمد عصام الدين حسونة فذكر في مذكراته أنه هو الذي كتبها، وأن المهندس الشرباصي كان قد تردد أو تحفظ على توقيعها بسبب مشاركة وزير سابق آخر للري (أي عبد الخالق الشناوي) في هذا التوقيع.
اكتسبت هذه الوثيقة أو العريضة أهميتها من أن الموقعين عليها كانوا جميعا من رجال الدولة في عهد الثورة، وكان من بينهم اثنان شغلا عضوية مجلس قيادة الثورة، وثالث (هو الشرباصي) كان عضوا في مجلس الرياسة مع العضوين السابقين، وعاشر كان نائبا لرئيس الوزراء في عهد عبد الناصر وأصبح رئيسا للوزراء في عهد السادات، واثنين من الوزراء غير هؤلاء جميعا، واثنين من المحافظين، ونقيب الأطباء الأشهر، فضلا عن القائد الأشهر للقوات الجوية.
– عبد اللطيف البغدادي.
– كمال الدين حسين.
– المهندس أحمد عبده الشرباصي باشا، رئيس الوزراء الأسبق.
– المستشار محمد عصام حسونة، وزير العدل السابق.
– الفريق مدكور أبو العز، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي سابقا.
– المهندس عبد الخالق الشناوي، نقيب المهندسين ووزير الري سابقا.
– أحمد كمال أبو الفتوح، محافظ القليوبية السابق.
– الدكتور رشوان فهمي، أستاذ بكلية طب الإسكندرية ونقيب الأطباء الأسبق.
– صلاح دسوقي، محافظ القاهرة الأسبق.
– الدكتور مصطفي خليل، نائب رئيس الوزراء الأسبق.
ولنقرأ معا ما تضمنته هذه الوثيقة أو العريضة .
بدأت العريضة بالتأكيد على فكرة ولاء كتابها (أو بالأحرى الموقعين عليها) لمصر وحدها، وأنهم مدينون لمصر بأنها منحتهم شرف خدمتها في الصف الأول في مواقع متقدمة، ومن ثم فإنهم يشعرون بأن هذا الدين يلزمهم بتجنب الصمت الذي لا يمكن أن يلوذ به أي مصري مخلص:
” السيد رئيس الجمهورية
فإنه ما من مصري يملك اليوم أن يلوذ بالصمت.
وأولئك الذين يملكون الرأي ويحبسونه، ضنا به، أو حذر العواقب، إنما يرتكبون في حق مصر إثما لا يغتفر.
إن الموقعين على هذا الخطاب مصريون، تلك هي صفتهم الوحيدة، يتوجهون بها إلى رئيس الدولة، مدركين كل الإدراك أنهم لا يفضلون أحدا من أبناء مصر إلا بأمر واحد، أنهم أثقل حملا. لقد منحتهم مصر ذات يوم شرف خدمتها، وبوأتهم مكانا رفيعا بين الصف الأول من خدامها.
إن لمصر إذن في ذمتهم دينا مضاعفا.
إنهم ليتقدمون بهذا الخطاب، وفاء لدين مصر، وولاء لها.
ثم لفتت هذه العريضة النظر إلى أن المحنة التي تعيشها مصر في ذلك الوقت كانت محنة غير مسبوقة، لأنها كانت تهدد الوجود المصري لا الأرض وحدها، منبهة إلى أن العون الذي يقدمه الاتحاد السوفيتي كان دون المستوى الذي يسمح بالتحرير واسترداد الحق، كما أن العمل العربي لا يزال أقل من أن يرتفع إلى مستوى الخطر الذي يحيق بالأمة العربية لا بمصر وحدها:
السيد الرئيس
“لم تعرف مصر على ما حفل به تاريخها من محن، محنة كتلك التي تمر بها. إن المحنة التي أطبقت على مصر لا تهدد الأرض وحدها.
” إن مصر، حضارة وتراثا، عقيدة وقيما، فضلا وعملا، فكرا وعلما وأملا، إن مصر وجودا ومصيرا تمتحن اليوم امتحانا شديدا، ودّ الأعداء لو كان فيه هلاكها.
” إن الغزو الإسرائيلي يدنس منذ خمس سنين، جزءا غاليا من أرض مصر، وفي نيته، وقد أعد لها بالإصرار على العدوان ويغريها بالمزيد.
“إن الاتحاد السوفييتي، القوة الكبرى الأخرى، تقدم لنا من العون القدر الذي لا يأذن حتى اليوم، بتحرير الأرض، واسترداد الحق.
“إن الدول العربية، لأسباب متباينة، عن دل منها، لم تستجمع بعد كل قواها، ومن ثم فإن العمل العربي، من أجل التحرير لم يرق بعد، إلى مستوى الخطر الذي يهدد الأمة».
وسرعان ما وصلت الوثيقة إلى جوهر ما أكثرت من الحديث عنه في كتابي عن الرئيس السادات ، وهو أن البنيان الاجتماعي لمصر في ذلك الوقت قد أصيب بزلزال شديد هو هزيمة يونيو (وقد حرص أصحاب الوثيقة على أن يعبروا عنها بالهزيمة لا بالنكسة)، كما حرصوا على الإشارة الذكية إلى أن البنيان نفسه كان قد أصيب (قبل الهزيمة) بصدوع ، فجاءت الهزيمة فأظهرت هذه الصدوع القديمة بالإضافة إلى ما سببته من صدوع جديدة.
“إن البناء الداخلي يوشك أن ينقض. فإن هزيمة يونيو، بأسبابها، وأحداثها، وعواقبها، قد زلزلزت البناء الوطني، فكشفت فيه صدوعا، وأحدثت صدعا.. ويشخص كتاب الوثيقة عيوب البنية التي أفرزت هزيمة يونيو 1967، من دكتاتورية وديمقراطية مزيفة في غيبة القانون، وكثرة التشريع الاستثنائي، فضلا عن امتهان الحرية، وانتشار الخوف والنفاق، مما أدى إلى الذل والهوان، منبهين إلى أن الطريق لا بد أن يتغير لتعود مصر إلى صناعة مجدها على نحو ما صنعته من قبل”.
ثم صاغت الوثيقة هذه المعاني بعبارات حاسمة الدلالة حيث قالت :
” ولدت هزيمة يونيو في حضن استبداد الفرد بالسلطة، وصورية التنظيم الشعبي والمؤسسات الدستورية، وغيبة القانون، وغلبة التشريعات الاستثنائية، وامتهان الكلمة الحرة، وشيوع الخوف، والنفاق، فالهوى، فالهوان.
“ولقد وعى الشعب درس الهزيمة ولن ينساه.
“إن طريق النصر لا يمكن بحال أن يكون طريق الهزيمة.
نبهت وثيقة 1972 الرأي والفكر إلى حقيقة استراتيجية مهمة كان الرئيس السادات نفسه يدركها، فجاءت الوثيقة فعمقت إدراكه لها، وهي أن الزمن لم يكن يلعب في صالح مصر، وأن هذا الزمن كان ينبه مصر إلى ضرورة اعتمادها على ذاتها قبل أي شيء، لأن مصر هي الوحيدة التي هزمت، ونحن نفهم الآن بوضوح أن المعني الباطن الذي أشارت إليه الوثيقة كان هو أنه لا الاتحاد السوفيتي ولا العرب قد هزما:
السيد الرئيس..
“صنعت مصر أمسها وحدها. ولن يصنع الغد سواها. تلك هي الحقيقة الأولي، بل الكبرى، التي ينبغي أن نعود إليها” .
“لقد انقضت على هزيمة يونيو سنوات خمس.
“وإن صح أن الزمن عامل محايد، فالأصح أنه ينحاز، بغير تردد، ضد أولئك الذين لا يحسنون تقديره.
” ولقد آن لمصر أن تحسن تقديره.
“آن لمصر أن تستخلص، بأمانة وشجاعة، تلك الحقيقة الكبرى التي أسفرت عنها استراتيجية العمل الوطني بعد خمس سنوات من الهزيمة.
” لقد آن الأوان لأن ترسم سياسة التحرير الوطني، على أساس أن قوى مصر الذاتية وحدها، روحية ومادية، هي الركيزة الأولى والأمينة لتلك السياسة.
“نحن وحدنا أصحاب الشرف الملثوم، والكرامة الجريحة، والأرض المحتلة، ولن يسترد الشرف والكرامة والأرض سوانا”.
وقد حرصت هذه الوثيقة التي اجتمع على توقيعها هؤلاء الرجال من كبار رجال الدولة السابقين الذين اكتووا باستبداد عبد الناصر على أن تؤكد على أهمية الايمان بأهم حقيقة كفيلة بالخروج من الأزمة، وهي حقيقة التعويل على الإمكانات الذاتية المصرية وحدها:
“إن حسابات معركة التحرير الوطنية، ينبغي أن تراجع على هدى من إمكانات مصر وحدها.
” لقد عادت مصر الخالدة تحارب من أجل استقلالها في جبهتين: الغزو الإسرائيلي، وأطماع القوي الكبرى، وحينئذ فالأمانات الوطنية هي التي تحدد طبيعة النضال الوطني من أجل التحرير وأسلوبه».
وهكذا وصلت الوثيقة بسلاسة وذكاء إلى المطالبة في عبارات صريحة واضحة وحاسمة بمراجعة سياسة الاعتماد على الاتحاد السوفيتي، وهي السياسة التي أثبتت فشلها وجاءت عباراتها قاطعة:
“وآن الأوان من ثم لمراجعة سياسة الإسراف والاعتماد على الاتحاد السوفيتي.
إن تلك السياسة لم تحقق بعد خمس سنين من الهزيمة تحرير الأرض، وردع العدوان، واسترداد الحق».
وسرعان ما تحفظت الوثيقة بذكر حقيقة مهمة وهي أنها لا تقصد إنهاء الصداقة العربية ـ السوفيتية، لكنها تقصد استقلال القرار الوطني:
“ونحن لا نقصد بحال من الأحوال المساس بالصداقة العربية ـ السوفيتية، فإنه لمن الطيش أن تستغني مصر عن صداقة إحدى القوتين الكبريين، إنما نقصد أن تعود العلاقة المصرية ـ السوفيتية إلى الإطار الطبيعي والمأمول للعلاقة بين دولة حديثة الاستقلال حريصة عليه حرصها على الحياة، ودولة كبرى لا تبرأ استراتيجيتها بحكم العيدة والمصلحة من جموح الرغبة في بسط النفوذ».
وتعود الوثيقة لتؤكد على ضرورة أن تتم هذه الخطوة بتأن وذكاء في الإعداد والتنفيذ:
“وليس يدور بخلد واحد منا أن الخط السياسي المقترح يمكن أن يتم بخطى غير متأنية، أو بأسلوب غير محكم الإعداد والتنفيذ».
كذلك فإن وثيقة هؤلاء المسؤولين العشرة كانت ترسم بالفعل استراتيجية ذكية للرئيس السادات الذي لم يكن في حقيقة الأمر في حاجة إلى هذا كله، وإن كان تاريخ عصره قد أصبح الآن في حاجة إليه ، وذلك للرد على أولئك الذين ساقتهم السياسة إلى أن يخلطوا الأوراق الآن:
“إن التحول إلى الخط الجديد ينبغي أن يستوفي حقه من الوقت، من الإعداد المحكم والحكيم. إن أمنه وضمانه وجدواه تكمن كلها في سلامة الخطوات التكتيكية المنفذة له ودقتها.
“آن الأوان إذن كي تعود مصر إلى “منطقة الأمان» بين القوتين الكبريين، بل بين القوى الكبرى، بعد تعدد الأقطاب.
” لقد كانت مجاوزة حدود تلك المنطقة بغير شك سببا من أسباب المحنة.
” إن سياسة محالفة الشيطان لا اعتراض عليها، إلا إذا كانت أو انتهت لحسابه، وهي بالضرورة مفضية إلى حسابه إذا لم يكن الحليف كفؤا له وندا”.
هكذا وصلت الوثيقة إلى الإيحاء بأن سياسة مصر في علاقتها مع الاتحاد السوفيتي كانت أقرب إلى محالفة الشيطان (مستعيرة هذا الوصف من مقدمات العالمية حين تحالفت بريطانيا مع الاتحاد السوفيتي)، ومشيرة في الوقت نفسه (بقدر كبير من الحياء) إلى أن هذا التحالف انتهى لمصلحة الشيطان لا لمصلحة مصر. و قد لمزت الوثيقة بكل وضوح تشكيل وزارة عزيز صدقي الذي لم يكن معظم موقعي الوثيقة يرتاحون إلى شخصية، ولا إلى علاقته برجال الثورة، مستعينة على هذا الابتعاد الواضح بما أعلنته مظاهرات الطلبة في ذلك الوقت:
السيد الرئيس..
لقد عبرت حركة الطلاب الأخيرة عن مشاعر القلق تنتاب مصر على مصيرها، قلقا فجره التشكيل الوزاري الأخير. إن الشعب قد ازداد شكا في قدرة الأوضاع الراهنة على تحرير مصر.
” إن الموقعين على هذا الخطاب يقدرون ما تبذلون من جهد صادق مخلص من أجل الوطن. على أن تبعات مصر اليوم تبعات كبرى.
” التبعات الكبرى لا يقوى على حملها إلا العصبة أولو القوة والاقتدار والشجاعة من أشرف الرجال.
” إن كل الشخصيات الوطنية التي عرفت بولائها لمصر ولثورة 23 يوليو، بشجاعة الرأي والاقتدار ينبغي أن تدعى لمناقشة شئون الوطن العامة، واقتراح جبهة وطنية تتولى تخطيط سياسة النضال الوطني من أجل التحرير.
والله نسأل أن يوفقنا جميعا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
القاهرة في 4 أبريل 1972
كان كمال الدين حسين من أوائل الذين نشروا مذكراتهم، وقد نشرها في مجلة المصور في منتصف السبعينات. لكنه لم يكن يملك ما امتلكه عبد اللطيف البغدادي وقدرته التنفيذية المبهرة من عزم ليجمعها ويضيف إليها وينشرها في كتاب، وهكذا فإن كثيراً من الأقوال المنسوبة لكمال الدين حسين والتي يُعول عليها الباحثون والمؤرخون هي تلك الأقوال التي كان للأستاذ سامي جوهر الفضل في الحصول عليها ونشرها في كتابه “الصامتون يتكلمون” والذي رد عليه الناصريون رداً ضعيفاً متهرئاً و إن كان سليطا ومتجاوزا بكتاب “الصامتون يكذبون”. ورغم أن كمال الدين حسين عاش حتى 1999 فإنه فيما يبدو لم يجد التشجيع الكافي لأن ينشر مذكرات كاملة.
في أخريات حياته عاني كمال الدين حسين من مصاعب كثيرة في الكبد منذ منتصف الثمانينيات و حتي توفي في 19 يونيو سنة 1999 في مستشفى المعادي للقوات المسلحة نتيجة للقصور الشديد في وظائف الكبد، وأقيمت له جنازة عسكرية تقدمها حملة النياشين ومنها قلادة النيل : أرفع وسام في مصر ، وقد تقدم الرئيس مبارك المشيعين لجنازته العسكرية، ومعه من بقى على قيد الحياة من زملائه في مجلس الثورة ورئيس الوزراء ورئيسا مجلس الشعب والشورى و الوزراء ، وقد شارك في العزاء مندوبون عن ملك السعودية و أمير الكويت والرئيس الليبي والرئيس الفلسطيني.
—-
مقالات سابقة للكاتب عن نفس الشخصية
كمال الدين حسين من الرصاص للقلم الرصاص. اضغط هنا
كمال الدين حسين الذخيرة أقوى من المدفعية . اضغط هنا
تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر
لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا