الرئيسية / المكتبة الصحفية / قصيدة الشاعر الجارم في الخديو إسماعيل

قصيدة الشاعر الجارم في الخديو إسماعيل

نبدأ حديثنا عن قصيدة “إسماعيل العظيم” التي أنشدها الشاعر علي الجارم في الخديو إسماعيل بأن نذكر إنها إحدى قصيدتين في الخديو إسماعيل، والثانية لامية من عشرة أبيات بعنوان “أبو الأشبال”، أما هذه القصيدة الطويلة فإنها ليست خالصة تماماً للخديو إسماعيل ففيها 13 بيتا (هي خاتمتها) من أروع مدائح الجارم في الملك فاروق، صحيح أنه يمدح الخديو إسماعيل بابن من أبنائه وهو فاروق لكنه لم يمدح من أبناء إسماعيل إلا الملك فؤاد (في ثلاثة أبيات) والملك فاروق في 13 بيتاً.

   

يبدأ الجارم قصيدته بمقطع طويل يتحدث فيه عن العظمة على وجه العموم مع تخصيص هذه العظمة بطابع مما أُشيع عن الخديو إسماعيل من العظمة، وكأنه يبدأ بوصف العظمة نفسها مجردة من اسم الخديو إسماعيل لكنها موصوفة بصفات هذا الممدوح الذي هو عنده معلوم من دون أن يصرح باسمه، وهو يرى أنه حسام مهاب، وطود من العز، وزعيم يدين له الناس بالولاء، بل إن في ضريحه أيضا سرٌ سماوي له من جناحي جبريل قباب (ولا أعرف كيف استساغ الشاعر الجارم تقديم هذه الصورة مبشرة على هذا النحو فلا هو أحيا الفعل فيها ولا حركتها ولو بالمبالغة ولا هو جعلها رمزاً..)

  

وهكذا يبدأ كل بيت من الأبيات الستة الأولى من قصيدة الجارم بكلمات مفردة يشرح بها موقفه من الممدوح والكلمات هي: حسام، وطود، وسر، وقبر، وكنز، وزهر.

 

حُسامٌ له مجدُ الُخُلودِ قِرابُ / يحوِّم شعري حوله فيهابُ
وطَودٌ من العِزِّ الأشمِّ عَنَتْ له / وُجُوهٌ ودانتْ بالوَلاءِ رِقاب
وسرٌّ سماويٌّ ثَوى في ضريحهِ / له من جَنَاحَيْ جَبْرَئيلَ قِباب
وقبرٌ كمحرابِ الصلاةِ مطهَّرٌ / عليه نعيمٌ وارفٌ وثواب
وكَنْز به من جَنَّةِ الْخُلْدِ دُرّةٌ / تردُّ ثمينَ الدُّرِّ وهي سِخاب
وزَهْرٌ من الآمالِ رفّ بروضةٍ / بها الأرضُ مسكٌ والنسيمُ مَلاب
إذا جاوزتْها للرَّبابِ غمامةٌ / سقاها من الحبِّ النَّدِيِّ رَبابُ
قلوبُ بني مصرٍ خوافقُ حولَها / لها كلَّ حينٍ جَيْئةٌ وذَهاب

  

ثم يلجأ الشاعر علي الجارم للعموميات بدأ من البيت التاسع فيذكر عدداً من المعاني المطروقة والمألوفة التي تتحدث عن خلود الذكرى رغم غياب الشخص، وفي البيت الثاني عشر يصوغ بيتا يُخصصه لإسماعيل باشا دون نص لكنه يضمنه تعبيره عنه بأنه أحيا آمال الأمة حين كانت يبابا.

إذا غاب شخصُ العَبقَريِّ برَمْسِه / فليس لفضل العبقريِّ غياب
وإن حَجَبَتْ بِيضَ الأيادي مَنِيَّةٌ / فليس على آثارهنّ حِجابُ
وكم من فتىً جاز الحياةَ وذكرُه / له كلَّ يومٍ زوْرَةٌ وإياب
وما مات مَنْ رَدّ الحياةَ لأمَّةٍ / وأحيا بها الآمالَ وهي يَباب

وهو يعود إلى العموميات في البيت الثالث عشر ويضمن شعر رابعة العدوية في شطره الثاني تضمينا ذكيا وإن اختلفت المناسبة

إذا المرءُ لم يُخْلِدْه فضلُ جهادِه / «فكلُّ الذي فوق التُّرابِ تُراب»

ويأتي الشاعر علي الجارم على ذكر الخديو إسماعيل بالاسم للمرة الأولى في البيت الرابع عشر واصفا عهده بالوثب فوق الزمان وأحداثه، ثم يتحدث عن طموحه، ونرى الشاعر الجارم حفيا بالحديث عن الطموح على نحو ما استفتح قصيدته عن إبراهيم بطل الشرق الذي هو والد إسماعيل، وهو يعود إلى العموميات في الأبيات الخمسة التالية من الخامس عشر إلى التاسع عشر.

  

وهل مثل إسماعيلَ في الناسِ عاهلٌ / له فوق أحْداثِ الزمانِ وِثاب؟
 
طموحٌ له في ذِرْوَةِ الدهرِ مأرَبٌ / وفوق مَناطِ الفَرقَدَيْنِ طِلابُ١١
 
إذا صحَّ عزمُ المرء فالبحرُ ضَحْضَحٌ / وإنْ خار فالنُّضْحُ اليسيرُ عُباب
 
وليست شِباكُ العزِّ إلَّا عزيمةً / وما المجدُ إلا صولةٌ وغِلاب!
 
تَمُدُّ الليالي للجريءِ زمامَها / وتعنو له الأيامَ وهي صِعاب
 
وما كلُّ مَنْ أرخَى العِنانينِ فارسٌ / ولا كلُّ داعٍ للنهوضِ مُجاب!
 
 

ثم يبدأ الشاعر علي الجارم في البيت العشرين في مقاربة إنجازات إسماعيل في مصر مشيراً إلى كثرتها، وهو يتحدث عن أن مصر لبت دعوة إسماعيل وأسرعت الخطى خلفه متحملة الشوك وصعاب الطريق، وكانت الهمة تجبر وهنها، على نحو ما كان ذكاؤه يضيء طريق المعالي إذا أظلم.

إذا ما عَددْنا مأثُراتِ يمينه / على مصرَ لم ينفدْ لهنّ حساب
 
دعاها فسارتْ خلفَهُ تُسْرعُ الْخطَا وهِمَّتُها للمُعْضِلات رِكاب
 
فما الشوكُ في أقدامِها حين صممتْ / بشوكٍ، ولا صُمُّ الهضاب هِضاب
 
إذا وَهَنَتْ أذكى لَظَى رَغَباتِها / همامٌ له عند النجومِ رِغابُ
 
وإن أظلمت طُرقُ المعالي أنارها / من الرأيِ منه والذكاء شِهاب
 

ويقرر الجارم بوضوح في البيت الخامس والعشرين أن مصر أعجبت بإسماعيل ورأت فيه حاكماً لا نظير له، وأنها تقبلت جرأته وقوته وإنجازه ونهضته ووجهه الغربي الذي أضفاه عليها، وهو يتحدث عن كثرة منابر العلوم والفنون في عهد إسماعيل، وعن انتشار المعالم والعجائب والجهد.

رأتْ مصر فيه عاهلًا عزَّ نِدُّه / ومن أيْن للبدرِ المنيرِ صحابُ؟
 
 
حباها أبو الأشبال جُرْأَةَ ضَيْغَمٍ له ظُفرٌ يفرِي الخطوبَ وناب
 
وأزْلفها ملءَ النواظِرِ جَنَّةً / تميد بها الأغصانُ وهي رِطاب
 
وألبسها من نهضةِ الغربِ حُلَّةً / وكم زانتِ الغيد الملاحَ ثياب!
 
ففي كل حَيٍّ للعلوم منابرٌ / وفي كلِّ ركنٍ للفنونِ رِحاب!
 
وأين رميتَ الطَّرْفَ تلقَى معالِمًا / سوامقُها فوقَ السحابِ سحاب
 
عجائبُ صُنْعٍ يصغُرُ الدهرُ دونَها / وكلُّ فعالِ الخالدين عُجابُ!
 
وجُهْدٌ من الفولاذِ ما كَلَّ زَنْدُه / وصادقُ عزمٍ ليس فيه كِذاب
 

 

ويختم الشاعر علي الجارم هذا المقطع الطويل بالبيت الثالث والثلاثين أفضل ختام حيث يقرر بكل وضوح أن جهد العبقري لا يخضع لحسابات الأنصبة وحدودها القصوى

 

 
وللجُهدِ في الدنيا نصابٌ وطاقةٌ / وليس لجُهدِ العبقريِّ نِصاب

 

ثم يبدأ الشاعر علي الجارم المقطع الثاني من قصيدته بمخاطبة إسماعيل مطلقاً عليه لقب “أبا مصر” مع أن إسماعيل ترك حكم مصر وهو لا يزال شابا، لكن للشاعر الجارم مبرراته، وهو يذكّر الخديو إسماعيل بافتتاح قناة السويس، وما اشتمل عليه الحفل من الحشد والثناء وفرحة مصر وبهجتها بالإنجاز وكرمها في استضافة ضيوفها بالموائد التي لم تمر بأوهام حاتم، وبمواكب العز، وهو يبالغ مبالغة شعرية لطيفة في ختام هذا المقطع يقول فيها إن لعاب الشمس سال من روعة الاحتفال وزهوه.

أبا مصرَ، هل تُصغي وللشعرِ دَمعَةٌ / بها الحبُّ صَفْوٌ، والوفاءُ مُذاب؟
 
أتذكُرُ يومًا بالقناةِ وقد سعتْ / شُعوبٌ، وسالتْ بالملوكِ شِعاب؟
 
وأنت تؤُمُّ الْحشْد جذلانَ هانئًا / ونجمُك لم يحجبْ سَناه ضباب
 
ومصر بمحييها تتيهُ وتنثني / كما لعبتْ بالعاشقين كَعَاب
 
موائدُ لو مرَّتْ بأوهامِ حاتمٍ / رأى أنّ مدحَ المادحين سِبَاب
 
وموْكِبُ عِزٍّ ما رأى النيلُ مثلَه / ولا خَطَّه في السابقين كِتابُ
 
تمنَّت نجومُ الأفْق رَوْعَةَ زَهوِه / وسال لشمسٍ أبصرتْهُ لُعَاب
 
 

يستهل الشاعر علي الجارم مقطعه الثالث مخاطبا إسماعيل بأنه عاش خمسين عاماً ومن المهم أن نستطرد هنا لنقول إن عمر الخديو إسماعيل بالسنوات الميلادية كان خمسة وستين عاماً 1830 ــ 1895 وأنه تولى الحكم وهو في منصف عمره بالضبط أي في الثالثة والثلاثين 1863 وبقي 16 عاما حتى 1879 ثم بقي مثلها في المنفى 1879 ــ 1895 أما الشاعر الجارم فيقدم حسابا عقليا مختلفا يجعل فيه الخديو إسماعيل وقد عاش خمسين حجة، وهو يتحدث عن خلافة أبناء إسماعيل له ويصفهم بصفات متعددة من الصرامة والكرم، ويقفز الشاعر الجارم على الخديو توفيق وعلى ابنه الخديو عباس حلمي وعلى أخيه السلطان حسين كامل (وكل هؤلاء من أولاد إسماعيل) ليصل مباشرة إلى الملك فؤاد ويُثني على الملك فؤاد بطريقة مجملة في ثلاثة أبيات (من البيت الرابع والأربعين وحتى السادس والأربعين) .

تفيأتَ ظلَّ الله خمسين حجةً / وجنَّاتُه للعاملين مَثاب
 
 
وأدرك مصرًا من بنيك صَوارمٌ / مواضٍ إذا اشتد الزمانُ صِلَاب
 
كرامٌ إذا نُودُوا أجابوا، وإن هُمُ / رَموْا جبهةَ الرأي البعيدِ أصابوا
 
وهل كفؤادٍ في البريَّةِ مالكٌ؟ / وهل كلُبَابِ المجد فيه لُبَاب؟
 
لهُ عزمةٌ وثَّابةٌ عَلَويَّةٌ / تردُّ صُرُوفَ الدهرِ وهي حرَاب
 
إذا ما امترى في المعجزاتِ مكابرٌ / فسيرتُه للممترين جواب
 
 

ثم يتفرّغ الشاعر علي الجارم لمدح ممدوحه المفضل الملك فاروق في 13 بيتا من الأبيات رائعة المعاني التي تتحدث عن عزمه ومجده وهيبته ومضائه وإقدامه وجوده وصولته وآماله وطموحه وشبابه ثم يتحدث عن زيارة الملك فاروق لرضوى في الأراضي المقدسة ويصف هذا الطريق بأنه سعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثل لهديه شوقا وحباً وخشوعا، ويعود إلى وصف الملك فاروق بالحصافة وسداد الرأي والصولة والقدرة على تأليف العرب من حوله، وتحقيق الإنجازات إنجازاً بعد آخر، وعظمة إنجازاته وكرمه فيها، ويصل الشاعر علي الجارم في المبالغة في مدح الملك فاروق في هذه القصيدة إلى أن يقول إنه هو أي الشاعر ومعشر من ينتمي إليهم عتبوا على الدنيا حيث افتقدوا الخصام والعتاب، في ظل الملك فاروق وجلاله الذي أظلهم وجلب العلا لهم.

ومَن مثلُ فاروقٍ وللعرشِ عزَّةٌ / وللمُلْكِ والمَجدِ الأثيلِ مَهَابُ؟
 
مضاءٌ وإقدامُ وجودٌ وصولَةٌ / وآمالُ حُرٍّ طامحٍ وشباب
 
سعَى لرسولِ الله يحدوه شوقُه / وللشوقِ والحبِّ الصميمِ جِذاب
 
يناجيه فَيَّاض المدامِع خاشعًا / صَموتًا، وصَمْتُ الخاشعين خطاب
 
رأى فيه رَضْوَى مثلَه في ثباتِه / وحيَّاه من رَحب البقيعِ جَنَاب

 
حصيفٌ له في موقف الحقِّ صَوْلةٌ / ورأيٌ إذا غُمَّ الصوابُ صوابُ
 
يجمِّع شملَ العُرْبِ في ظلِّ وَحدَةٍ / كما جَمَع الأُسْدَ الضراغمَ غاب
 
إذا ابتسموا فالباتراتُ بواسمٌ / وإن غضبوا فالباتراتُ غِضاب
 
وفي كلِّ يومٍ مِنَّةٌ بعد مِنَّةٍ / إذا ما انقضى بابٌ تفتَّح بابُ
 
وكلُّ أيادي غيرِه حُلْمُ حالمٍ / وكل نوالٍ من سواه سَراب
 
عتبنا على الدنيا فمذ أشرقتْ به / تقضَّى خِصامٌ بيننا وعِتاب
 
وصُغنا له من كل ما تُبدعُ النُّهَى / روائعَ، لم يُبذَلْ لهنَّ نِقَاب
 
فلا زال موفورَ الجلالِ مُسدَّدًا / يُجيبُ إذا تدعو العُلا وَيُجاب!
 
 
 

 

 

 

 

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 
شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com