كان الشاعر أحمد الكاشف ١٨٧٨-١٩٤٨ شاعراً سياسيا من الطراز الأول، وكانت جريدة الأهرام إذا نشرت قصيدة له جعلتها تحت عنوان من الشعر السياسي، وكان مُحبا للعثمانيين لكن من وجوه المفارقة الصارخة التي لا بد من ذكرها في بداية هذه المدونة أنه نظم قصيدة رأى فيها “البصاصون” أو المحللون السياسيون في ذلك العصر ما يمثل دعوة إلى إقامة خلافة عربية إسلامية على ضفاف النيل في ظل الخديو عباس ولم يكن العثمانيون ولا البريطانيون يسمحون بتمرير مثل هذه التهمة من دون عقاب وبخاصة إذا ما قُدمت إليهم مشفوعة بالدليل من شعر الشاعر نفسه.
وهكذا أصبح الشاعر أحمد الكاشف متهما ولم يُنجه من تهمته هذه إلا نظمه لأبيات أخرى خفّفت عنه الاتهام، لكنه أُلزم بالبقاء في قريته “القرشية” لا يبارحها إلا في هدوء واستتار، وذلك على نحو ما تأخذ به الدول الأوربية الآن عند تحديد الإقامة للساسة الكبار.
سنتناول في مدونتنا اليوم قصيدته في مدح السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ١٨٤٢- ١٩١٨، التي نظمها في العيد السادس والعشرين لجلوس السلطان أي في سنة 1902، وهي قصيدة جميلة بكل المقاييس، وهي كذلك سلسة في ألفاظها ومتدفقة في معانيها ومنطقية في ترتيبها كما أنها ذات موسيقى جميلة وإيقاع جميل وفيها إشارات شعرية رائعة إلى امتداد الولاء للسلطان إلى مساحة واسعة من الأرض المعمورة وإلى عدل السلطان وبعده عن الهوى والخلل في الرأي، واعتماده على القرآن الكريم والشريعة، واعتدال مذهبه في الحكم وسعيه إلى الخير الكثير، وانتباهه إلى وظيفته في الدفاع عن الأمة بالقوة اللازمة والانتباه اليقظ.
وفي قصيدة الشاعر أحمد الكاشف إشارة ذكية إلى ارتفاع قدر الامة الإسلامية تحت حكم السلطان عبد الحميد وتمتعها بالسمة العالية في الحزم والحكمة ومهابة الجانب وسلامة الحدود:
لك الولاء الذي لم يخفه أحدُ / ولا خلت أمة منه ولا بلدُ
قد قمت بالحكم عدلاً لا يميل بك ال / هوى ولا يتخطى رأيَك الرشد
وسرتَ بالملك مأمون المذاهب ميـ / مون المساعي على القرآن تعتمد
وبت تدفع عنه الحادثات كما / يبيت يقظانَ يحمي غيلَهُ الأسد
حتى رفعت له فوق النجوم حمى / الحزم أسبابه والحكمة العمد
فبات ممتنعَ الأركان تحرسه / عين الإله إذا حراسه رقدوا
وتتضمن قصيدة الشاعر أحمد الكاشف أيضا حديثاً سريعاً (لكنه منحاز إلى الديكتاتورية بوضوح) عن حال المواطنين في عهد السلطان عبد الحميد وأدوار المعارضين وما جلبته لهم من الشقاء، وسعادة الموالين بأدوارهم، وهو يفخر حيث لا فخر لسطوة السلطان في منحه ومنعه ورضاه وشره، وهو وصف دقيق لحال الحكم الفرد الذي لم يعد من اللائق الآن لأحد أن يتغنى بفضله، فهو يبالغ في ثالث هذه الابيات مبالغة تقترب من فساد العقيدة.
والناس قسمان عانٍ موثقٌ ضجرٌ / في قبضتيك وراجٍ عيشه رغد
فللمعادين أدوار بهن شقوا / وللموالين أدوار بها سعدوا
إن شئت أعطيت هذي الأرض / نضرتَها وإن تشأ أصبحتْ بالشر تتقد
ثم تتحدث قصيدة الشاعر أحمد الكاشف عن أن السلطان عبد الحميد لا يغضب إلا لله ولا يقهر إلا الحاقدين ولا يعمل في فتوحاته إلا من أجل الدين، ولا يقيم شأنا إلا للخير الذي انهضه واستعاده، وأن جيوش السلطان تُفرج الكروب بما رزقها الله به من السداد وتأييد الملائكة واعتمادها على الدين، ولهذا فإنها رزقت لواء النصر الذي يطرب الموالي ويرهب الأعادي، وكذلك اساطيل السلطان التي تجري في البحر وهي شامخة كالجبال، تحدث صوت الرعد، وتنشر الزبد حولها، وهو يذكر في بلاغة أن هذه الأساطيل هي سبب حالة الاستقرار الدولية والتوازن بين القوى فلولا ما تشيعه الأساطيل العثمانية من أمان القوة لاشتعلت ثورة البحر وناره وامتدت النار إلى البر.
وما غضبت لغير اللّه منتقماً / وما قهرت سوى القوم الألى حقدوا
وما فتحت لغير الدين مملكة / رأيتها عن سبيل الخير تبتعد
أنهضته مسترداً فيه قوته / فقام يمتد في الدنيا ويَطَّرد
لك الجيوش التي كم فرجت كرباً / كأنها قسطل في الجو منعقد
يسدد اللّه مرماها يؤيدها/ من الملائك في غاراتها مدد
لها على الموثق الدينيِّ متَّكلٌ / يوم الكفاح ومن إيمانها عدد
لك اللواء الذي نال الهلال فلا / تنال رفْعتَه للعاديات يد
في خفقه طرب للمستظل به / وللعدى رهب في طيِّه كمد
لك الأساطيل كالأطواد شامخة / تجري فيحدث رعداً حولها الزبد
لولا أمانك ثار البحر مشتعلاً / بنارهنَّ وسال البر والجمد
ثم يتحدث الشاعر أحمد الكاشف عن القباب التي تساعد السلطان على إحكام قبضته على الأجواء في البر فتؤكد ما حققته الدولة العثمانية بقوتها من الاستقرار والسلام.
لك القباب التي تعلو محلقة / في الجو والجند حراس بها رصد
وينتقل الشاعر أحمد الكاشف في رشاقة ليتحدث عن جمال محيا الخليفة العثماني، وكيف يشع النور من وجهه ليؤكد للناس البرهان على ما يعتقدونه في الخليفة المستحق للتمجيد والمديح، ولهذا فإن أعياد الخليفة أفراح الشعب، يبتهج بها الكون في مظاهره وحسنه وتتأثر بها الطبيعة من أرض مشرقة بالنور حتى إن النجوم تود أن تترك له مكانها العالي لتكون في مكانة التاج للسلطان.
وفي محيّاك نور للخلافة قد / أضحى لدى الناس برهاناً لما اعتقدوا
لو تستطيع النجوم النيرات هوت / شوقاً وصارت مكان التاج تنتضد
مولاي عيدك وافى في ميامنه / يهدي البرية أفراحاً كما عهدوا
بدا له الكون في أبهى مظاهره / واستجمعت حسنها الأيام والأبد
وهكذا يواصل الشاعر أحمد الكاشف ما هو معروف من هذا المديح التقليدي أو الكلاسيكي، من قبيل أن الأرض تختال، والوفود تزدحم، والقلوب تشتاق، والتحية تزجى، والدعاء يتكرر.. ذلك ان الخليفة وحّد الأمة، وقضى على الفرقة، ونال الولاء برشده وحكمته وجهاده الميداني الجاد ولهذا فإنه يطمئن الخليفة ألا يخاف من الغاوين والمستكبرين والجاحدين والعُصاة والمذنبين والمحرومين والحساد والمبغضين والمرضى البائسين.
فالأرض باهرة الأنوار ناضرة / ريا الشباب كساها الوشي والبرد
تختال ضاحكة للعالمين كما / تختال ذات دلال زانها الغيَد
وللوفود ازدحام تحت عرشك لم / يضق به بابك العالي ومحتشد
تشفي القلوب من الشوق الشديد بما / لاقوا من الطلعة الكبرى وما شهدوا
كأنهم شربوا راحاً بها طربوا / وغير منهلك الخلديِّ ما وردوا
يا صاحب الباقيات الصالحات / ويا رب الأيادي التي لم يحصها عدد
تحية ودعاء نبتغي بهما / شرح المسرة والحب الذي نجد
أقبلت والقوم في أهوائهم فرق / شتى طرائقُهم من غيهم قِدَد
فاستسلموا لك لما قمت ترشدهم / واستمسكوا بعرى الميثاق واتحدوا
وذدت عنهم جماهير العدى فنجوا / وأنت في حومة الميدان منفرد
وصلت فيهم فخانتهم عزائمهم / عند اللقاء وطار الصبر والجلد
واستصرخوا فأتاهم جحفل لجب / من دولة الوهم فيه اليأس والنكد
غلبت مكرهمُ واغتلت غدرهمُ / ودست كيداً لهم في دسه اجتهدوا
ماذا عليك من القوم الذين غووا / واستكبروا ولما أوليتهم جحدوا
فهل يضرُّ أبٌ أبناءه امتلأوا / حباً له وعصاه منهمُ ولد
لا ييأس المذنب المحروم منك إذا / نهاه عن أن يعود الأسر والصفد
ويختم الشاعر أحمد الكاشف قصيدته بالثناء على العثمانيين وجهادهم، منوها بحب الشعب لهم، وبدفاعهم عن الدين، وعزته، ونصر الله لهم، وطلائع هذا النصر المستحق للانتشار:
يا آل عثمان رفقاً بالعداة / ولا تجردوا فيهمُ سيفاً فقد قعدوا
على السعادة باتوا يحسدونكمُ / فلم يضر سواهم ذلك الحسد
ففي قلوبهمُ من بغضكم مرضٌ / وفي عيونهمُ من نوركم رمد
فلا يزالون في هذا الشقاء إلى / أن ييأسوا فتراهم كلهم خمدوا
مهلاً بني الترك في فتح البلاد / أما لحبكم في الأمانيِّ العلى أمد
لولاكمُ ما بدت للدين حجته / ولا استقام لباقي عزه أود
عبد الحميد لك الإخلاص فاستمع / الحمد الذي يتوالى واجز من حمدوا
وإن ملكَك في إشراق زينتِه / لجنة أنا فيها الطائر الغرد
سينجز اللّه في الدنيا التي ابتسمت / للمسلمين على أيديك ما وُعدوا
فاستبشروا يا بني الإسلام وانتظروا / غداً فقد ضمن النصرَ المبين غد