ربما يتعجب القارئ إذا علم أن أول من نظّم قواعد الفوز بجائزة الدولة في الآداب التي كانت تسمى في البداية بجائزة فؤاد الأول كان منافسا عليها وكان هو نفسه أول الفائزين بها أو واحد من أول ثلاثة فازوا معاً بالجائزة، لكن هذا العجب يزول سريعا حين يعرف القارئ أن هذا الأول كان هو الأستاذ عباس محمود العقاد بكل ما أوتي من سلطة معنوية حقيقية وحاسمة كان من الصعب لأية سلطة أخرى أن تُجاريها أو تواجهها أو تعارضها.
سجلنا في مدونة سابقة (18 يناير2020) كيف نشأت جوائز الدولة في مصر، وسجلنا أسماء رؤساء وأعضاء اللجان الثلاث التي كُلّفت بتحكيم الجائزة ومنحها، وربما لاحظ القارئ أن وزير المعارف في ذلك الوقت كان من الذكاء بحيث جعل رئاسة لجنة الأدب لشخصية تحظى بإجلال الأدباء بعيداً عن نجوميتهم وتنافسهم، وهكذا اختار الأستاذ أحمد لطفي السيد لرئاسة لجنة الأدب وبالطبع فقد كان أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد عند حسن الظن به وبحنكته مع حكمته فقد حجب الجائزة في عامها الأول، وهكذا فإن علينا نبدأ بأن ننقل للقارئ ما نشرته مجلة الرسالة في ذلك الوقت ملخصة به انتقاد الأستاذ العقاد المعلن لقرار اللجنة بحجب الجائزة:
” أثير بعض الغبار حول قرار لجنة الفحص لجائزة فؤاد الأول للآداب الذي أعلنه معالي رئيسها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا في حفلة توزيع الجوائز بالجامعة، قال معاليه أن الوقت لم يتسع أمام اللجنة للمفاضلة فرأت تأجيل منح الجائزة إلى العام القادم. وكاد يسكن ذلك الغبار لولا أن أثاره عالية كثيفا الأستاذ عباس محمود العقاد في مقال عنوانه “علامة الاستفهام في قرار لجنة الآداب” نشرته أخبار اليوم وجه فيه الأستاذ الكبير النقد إلى تصرف اللجنة لأنها قبلت العمل وأجابت الدعوة وهي تعلم الموعد المقرر وتعلم المهمة المطلوبة، وتسأل: “ولماذا لم تتنحى عن العمل منذ اللحظة الأولى إذا كانت قد علمت أنها لا تستطيع الوصول فيه إلى نتيجة؟”.
” ومما قاله الأستاذ العقاد أن اللجنة تشهد على نفسها أنها لم تطلع على ثقافة وطنها اطلاعاً يكفي للفصل فيها وأن اللجان التي تقبل أمثال هذه المهام ينبغي أن تكون مرجعاً يستفاد منه العلم بحركة الثقافة الأدبية في بلادها؛ ورد على اعتذار اللجنة بتنوع الموضوعات الذي يحتاج إلى وقت أوسع للموازنة والتمييز، بأن تعدد الموضوعات هو الذي أعان لجنة العلوم على الفصل فيما عرض عليها، فاختارت لجائزة هذا العام موضوعاً خصته بالتفصيل وتركت الباب مفتوحاً للموضوعات الأخرى في الأعوام المقبلة. ولو صنعت لجة الآداب مثل هذا الصنيع لما كان أيسر عليها من تخصيص هذه السنة بجائزة الشعر أو بجائزة القصة أو بجائزة البحوث والدراسات وما اليها، فيتسع وقتها للفصل والتمييز.
“وخلص الأستاذ العقاد بعد ذلك وبعد عبارات (حريفة) وجهها إلى اللجنة، وبعد أن ذكر أنه في خلال سنوات الخمس التي قررها المرسوم أصدر ثمانية عشر كتاباً جديداً، لا تقدر اللجنة أن تسقطها من الحساب أو تهملها في ميزان الترجيح، خلص الأستاذ بعد كل ذلك إلى أن قرار اللجنة معناه تفسير المرسوم على معنى لا يفهم له معنى سواه: وهو أن الجائزة مشروطة في هذا التفسير بأن يعطاها صاحب الآثار الأدبية في السنوات الخمسة الأخيرة ما لم يكن شخصا يسمى عباس العقاد. . .. “وقد سمعت في بعض المجالس الأدبية تعليقات على هذا الموضوع فوجدت الكثيرين يوافقون الأستاذ العقاد على صميم نقده، وإن كان الكثيرون لا يرون رأيه في الإعلان عن إنتاجه بنفسه مع تقديرهم له وإحلاله محله اللائق به، أما اتهامه اللجنة بالقصد على مجاوزته في منح الجائزة فهو من قبيل الحكم على النيات” .
وفي العام التالي أصبحت هناك جائزتان بحكم القانون (فقد كان القانون يقضي بترحيل الجائزة المحجوبة للعام الذي يليها) وانحصر التنافس في الجائزتين بين أربعة هم الأساتذة عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا والدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك . لكن الأستاذ العقاد كان من الشجاعة والقوة بحيث أعلن اعتراضه صراحة وقال كيف يُساوي من ألف 17 كتابا (وهو هو نفسه) خلال السنوات الخمس الماضية ومن ألف جزءاً فقط من كتاب (وحدد هذا بالاسم في الدكتور طه حسين الذي أصدر فقط الجزء الثالث من على هامش السيرة).
وهذا هو ما نشرته مجلة الرسالة في عددها الصادر في 26 ابريل 1948: ” نشرت أخبار اليوم أن لجنة فؤاد الأول الأدبية رأت تقسيم الجائزتين المخصصتين لسنتي 1947و1948 بين أربعة أدباء، هم الأساتذة عباس محمود العقاد والدكتور محمد حسين هيكل باشا والدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك، …. وعلم ذلك الأستاذ العقاد، فأرسل كتابا إلى وزير المعارف يحتج فيه على تقسيم الجائزة إلى جائزتين، وعلى مساواة مؤلف له 17 كتابا بمؤلف له جزء من كتاب، ويعني أنه أصدر خلال السنوات الخمس الأخيرة17 كتابا بينما لم يصدر الدكتور طه خلال هذه المدة إلا الجزء الأخير من هامش السيرة، وأن هذا الجزء ليس دراسة ولكنه تصوير لفترة من التاريخ الإسلامي.
“كذلك أرسل الأستاذ العقاد كتابا آخر إلى رئيس ديوان جلالة الملك (مقدم الجائزة) شرح فيه تصرف اللجنة، وقال إنه يخالف الفكرة التي أنشئت من أجلها الجائزة، وقد أرسل معالي رئيس الديوان كتاب الأستاذ العقاد إلى وزير المعارف، فأحاله إلى اللجنة وطلب إليها أن تبحث وجهة نظره، وهل تقسم الجائزة؟ ويستحسن أن يحتفظ بوحدتها لتكون تتويجا مناسباً للعمل الأدبي الذي أنتجه الفائز بها” .
ثم قالت مجلة الرسالة: “والواقع أن قانون الجوائز ينص على جواز التقسيم في حالة تساوي قيمة النتاج، ولكن اللجنة رجحت فكرة التوحيد لتحقيق التتويج الأدبي المقصود من الجائزة، فرأت أن يمنح كلا من الجائزتين أديب واحد. وهي الآن بصدد النظر في ثلاثة كتب، هي (عبقرية عمر) للأستاذ العقاد، و(الصديق أبو بكر) لهيكل باشا، و(ظهر الإسلام) للدكتور أحمد أمين بك. أما كتاب الدكتور طه حسين بك وهو الجزء الثالث من (على هامش السيرة) فهو لا يدخل في الموضوع الذي قررت اللجنة تخصيص هاتين الجائزتين له، وهو (الدراسات الإسلامية الأدبية) على أن تكون جوائز السنين القادمة في فنون الأدب الأخرى كالشعر والقصة. الخ. ولذلك استبعدت اللجنة هذا الكتاب لأنه أقرب إلى التصوير الأدبي، والمؤلف نفسه يقول في مقدمته إنه ليس دراسة ولا تاريخاً.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر فقد أشار محرر مجلة الرسالة إلى ما قالته أخبار اليوم من أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم اعتذرا من عدم الاشتراك في هذه المباراة، وقال محرر مجلة الرسالة إنه قد بين فيما مضى أن جوائز فؤاد الأول ليست مباراة وإنما هي للتتويج، فهي تشبه جائزة (نوبل). وأضيف الآن إلى ذلك أن الأستاذين المازني وتوفيق الحكيم لم يؤلفا كتباً في الدراسات الإسلامية الأدبية – وهي موضوع الجائزتين – في خلال السنوات الخمس الأخيرة ولا فيما قبلها، فمم يعتذران. . .؟ تطورت الأمور ومنحت الجائزة للثلاثة أحمد أمين وعباس العقاد وهيكل باشا بهذا الترتيب باعتباره الترتيب الأبجدي هروبا من أي جدال حول القيمة.
وفي السنوات التالية وحتى قامت ثورة 1952 كانت الجائزة قد منحت لثمانية فقط هم الثلاثة الأوائل وطه حسين من بعدهم وهو الذي فاز بالجائزة (1949) وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وعزيز أباظة ومحمد فريد أبو حديد . وفي 28 ابريل 1952 تم توزيع جوائز فؤاد الأول عن الفائزين بها في ذلك العام وكانا هما عزيز أباظة (عن مسرحيته الشعرية: العباسة) ومحمد فريد أبو حديد (عن قصته المرمري)
ومن الطريف أن ثورة 1952 قامت بعد شهور وتطورت الأمور حتى أصبحت هناك جوائز الدولة التقديرية فكان الفائزون الأوائل بهذه الجائزة هم أنفسهم الفائزون بجوائز الملك فؤاد الأول ما عدا من كانوا قد ماتوا فقد توفي أحمد أمين 1954 والدكتور هيكل باشا 1956 وبقي ستة كانوا جميعا من السبعة الأوائل الذين حصلوا على الجائزة التقديرية ولم يدخل بينهم ولا معهم إلا الأستاذ أحمد حسن الزيات الذي كان رابع من حصل على الجائزة التقديرية في الآداب، فقد منحت على سنوات متتالية بالترتيب التالي: طه حسين (1958) عباس العقاد (1959) توفيق الحكيم (1960) أحمد حسن الزيات (1961) محمود تيمور (1962) محمد فريد أبو حديد (1963) عزيز أباظة (1964). ثم نالها بعد هذا من لم يكونوا نالوا جوائز فؤاد الأول وكانوا بترتيب نوالهم للجائزة أحمد رامي (1965) يحيى حقي (1967) نجيب محفوظ (1968) …… وهكذا وعلى سبيل المثال فإن جائزة عام 2003 التي فاز بها كاتب هذه السطور مع الدكتور عبد الغفار مكاوي والأستاذ إبراهيم أصلان تمثل جائزة العام الحادي والأربعين الذي تمنح فيه (باستبعاد الأعوام التي لم تمنح فيها الجائزة) أو العام السادس والأربعين لمنح الجائزة منذ منحت لأول مرو في ١٩٥٨. وفيما بين قيام الثورة ومنح الجائزة التقديرية في الآداب كان هناك من منحوا جائزة الدولة بنظامها القديم وكانت الحالة الشهيرة التي اقتسم الجائزة فيها الدكتور محمد كامل حسين والأستاذ نجيب محفوظ .